فى مديح عوالم العزلة والكتابة «2-2»
- عمليات إدمان الحضور فى الحياة الرقمية تؤدى إلى عزلة من نمط جديد للكاتب والكتابة من خلال الانفصال النسبى بين العالم الفعلى وبين العالم الرقمى وأقنعته ومراوغاته
- الثورة الصناعية الرابعة وحواملها ومحمولاتها ستشكل نقطة تحول وقطيعة فى النظم المعرفية والاجتماعية وعلى أنظمة اللغة
- سيساهم البث الرقمى لمنصات الأفلام الرقمية على المستوى الكونى إلى نمط من الهيمنة الرمزية الناعمة للقيم والموضوعات
مع الثورة الصناعية الثالثة، و«الأتمتة»، ثم الرقمنة من جهاز الترانزستور، الذى جعل العالم بين يدى الأشخاص العاديين، إلى انتشار التلفاز، وعالم المرئيات، وسلطة الصورة، كل هذه المتغيرات أثرت على الأجناس الأدبية، وفضاءاتها، وعوالمها وأساطيرها بل على لغة الكتابة ومجازاتها، وصورها التى تأثرت من خلال خصوصياتها اللغوية، والحكائية والمسرحية بكل هذه التطورات التقنية، وأثرها على الظواهر والأفعال الاجتماعية، وأثرت على الأعمال الأدبية إلى أن تطورت تقنيات الحاسوب لتشكل ثورة رقمية متفجرة بتطوراتها، وأثرها على الاقتصاد الكونى مع العولمة. لا شك أن عوالم الرقمنة باتت تؤثر على نظام اللغة، وعلى أنماط الكتابة الرقمية الوجيزة والمكثفة، إلا أن الواقع الرقمى جاء معه بدخول مليارات البشر العاديين الرقميين، وداخلهم جحافل الحمقى وفق إمبرتو إيكو واهتماماتهم الخاصة، بإثبات ذواتهم الرقمية فى ظل رحيلهم من الواقع والحياة الفعلية إلى الحياة الرقمية، وأدى ذلك إلى حالة من الضوضاء، و«صخب العنف» فى الحياة الرقمية، وتحول الواقع الافتراضى إلى فضاءات لمحاكم التفتيش الدينية، وإلى إنتاج العنف الدينى وخطاب الكراهية للآخر- أيًا كان- على هذا الفضاء الرقمى، وإلى حروب باردة، وساخنة رقمية، خاصة فى مصر وعالمنا العربى! الأخطر هو حالة انكشاف الخصوصية، وإلى عوالم الحواس الشبقية العارية، وإلى التنمر، والوهم السلبى، والأخطر إلى نشوء أسواق دعاية للاتجار بالحواس الجنسية، وإلى استعراضات الأجساد الكيرفى، من أجل الحصول على المال!
من ناحية أخرى أدى ظهور المنصات الرقمية لبث الأفلام السينمائية، والدراما التلفازية، إلى تغيير فى الثقافة البصرية، والأحرى ثقافة العيون، وهو ما أثر على اللغة الرقمية، والكتابة لدى الكتاب والمبدعين، من حيث استعارة بعض التراكيب السردية، من السيناريوهات، ولغة الحوار فى بناء وتشكيلات السرد فى مصر، والعالم العربى، بل فى بعض الأحيان يصل إلى الاقتباس من هذه الأفلام، أو من بعض الأعمال السردية لكبار السرديين الكونيين، لا سيما من آباء السرد العظام فى أمريكا اللاتينية، وعلى رأسهم ماركيز! أثرت الرقمنة على أنظمة اللغة، وأساليب السرد مثل الصورة والسينما والتلفاز، والترانزستور، ومن ثم الحاسوب والهاتف المحمول/النقال، والألواح الرقمية، وهو ما أنتج الكتابة الرقمية، والسرد الرقمى، وباتت الشاشات الرقمية أداة، وفضاءً للنشر الرقمى، بالإضافة إلى الكتب الرقمية، ودور نشرها ومواقعها.
هل أثرت الثورة الرقمية على حالة العزلة/ الكتابة؟ الإجابة نعم، وذلك على الرغم من أن الكتابة الرقمية العادية على الحياة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعى، تعطى الانطباع المباشر، أنها كتابة تفاعلية، يمكن أن تحدث فى الشارع والقطار وسيارة النقل العام أو على المقهى، أو مواقع العمل، ثمة تفاعلات رقمية بين مليارات العاديين الرقميين، وتعبيراتهم عن ذواتهم الرقمية فى فضاءات للتشظى، والتحالفات الرقمية من أجل التنمر والوهم، والعنف الرقمى، والاستباحات، إلا أن الكتابة السردية الإبداعية والفلسفية والسوسيو-سياسية.. إلخ على الحياة الرقمية، تبدو تعبيرًا عن العزلة، لأنها تكتب سلفًا من الكاتب/ الكاتبة فى وحدة العزلة، ثم تبث، أو توضع على المواقع الرقمية، سعيًا وراء الانتشار، أو للحصول على ردود الأفعال من خلال صور التحبيذ Love / Like.. إلخ، أو للرفض sade/ angery. وهى كتابة ناتجة عن عزلة الكاتب/ الكاتبة أثناء كتابة سردية قصة، رواية أو فصل من رواية أو مسرحية، أو ديوان أو قصيدة شعرية، أو لوحة أو قطع نحتية، أو فيلم/ فيديو قصير، أو وجيز ثم إنتاجه فكرة، وسيناريو، وتصويرًا قبل البدء فى عملية التصوير، والإنتاج، والبث.
لا شك أيضًا أن عمليات إدمان الحضور فى الحياة الرقمية تؤدى إلى عزلة من نمط جديد للكاتب والكتابة من خلال الانفصال النسبى بين العالم الفعلى، وبين العالم الرقمى، وأقنعته، ومراوغاته، وهمومه ومشاكله المعبرة عن ضجيج الذوات الرقمية، يبدو أيضًا أن هذا العالم الرقمى، وذواته الرقمية الملتاعة، هى موضوع لسرديات مختلفة فى موضوعاتها وحكاياتها ستنتقل من الافتراضى إلى السرد، والكتابة التحليلية، التى سوف تحتاج إلى حالة من العزلة الرقمية النسبية فى حالة الكتابة الرقمية المباشرة، أو إلى العزلة الفعلية للكتابة، ثم نشرها رقميًا!
يبدو لى فى عالم مليارات الذوات الرقمية، أن فضاءات الرقمنة، المتفجرة بهموم الذوات الرقمية، وتفاهات غالبها، أن الواقع الرقمى بات بعيدًا عن رهاب كونى، مصدره اللا وعى الكونى- إذا جاز التعبير وساغ - إزاء عالم مترع بالاضطرابات، والسيولة، والخوف من الحرب، والأزمات الاقتصادية، والاجتماعية، وأزمات الشعبوية، والعنصرية، وعودة إلى بعض من تفجرات النزعات القومية، فى ظل حكم ترامب، وأشكال العنف والإرهاب ذات السند والتأويل الدينى!
ثم حضور طاغٍ لعوالم المثلية الجنسية، وتمثيلات لها فى السينما، والطبقات السياسية الحاكمة، وجماعات ضغط وحضور قوى فى الكتابة السردية، والسوسيولوجية، والفلسفة، فضاءات تبدو فى بعضها مختلفة، لكن أبرز ما فيها هذا الرهاب الرقمى الكونى، المعبر عن ردود الأفعال إزاء التحولات الكونية فى التقنيات المرتبطة بالذكاء الصناعى، والثورة الصناعية الرابعة، والأناسة الروبوتية، كيف أثرت كورونا على حالة العزلة والكتابة؟ هل ستؤثر الثورة الصناعية، والأناسة الروبوتية، والذكاء الصناعى على العزلة والكتابة والكاتب؟
جاء فيروس كورونا ١٩ المتحور بمثابة صدمة كونية، لأنها عبرت عن عالم مجهول يحيا مع الإنسان، هو عالم الفيروسات غير المكتشفة فى معامل البحث العلمى فى أكثر دول العالم تطورًا فى المجالات الطبية والفيروسية.
دلالة ذلك أن الحياة الكونية ليست ملكًا للإنسان فقط، وأن أساليب، وأنماط الاستغلال الإنسانى للطبيعة، ومصادر الثورة داخلها، ليست محض أمثال أحادية الجانب، وإنما ثمة ردود أفعال من كائنات فيروسية لها حياتها، وتوازناتها فى الطبيعة الكونية، وقادرة على الفعل النظير إزاء السلوك الإنسانى الاستغلالى للطبيعة ولحياتها داخلها وفيها، وحولها من حيوات.
الاختلال فى النظام البيئى الكونى، والأحرى الأنظمة البيئية، نتاج لاستغلال الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، أدى إلى ظاهرة الاحتباس الحرارى، وآثارها ومخاطرها، من ناحية أخرى فتحت الأبواب عن سعة نحو المخاطر الفيروسية المجهولة، وتحورات بعضها، والتى لم تخضع للبحث العلمى فى مجال الفيروسات، ومن ثم باتت تشكل عالمًا مجهولًا للبشرية، ومراكز البحث داخل بلدانها الأكثر تطورًا!
أحدثت كورونا صدمة كونية، واضطرابًا، وضحايا بالملايين راحوا ضحية الإصابة بالفيروس موتًا!
إن نظرة على الإجراءات الاحترازية، والوقائية تشير إلى إشاعة حالة العزلة، وأثرها السوسيو-نفسى والسياسى، ومن ثم أثرها على الكتابة وتجربتها، ويمكن رصدها على النحو التالى:
١- عزلة المريض فى المنزل كإجراء احترازى بعيدًا عن ذويه.
٢- عزلة المريض فى المستشفى.
٣- عدم قدرة النظام الصحى فى الدول الأكثر تطورًا على استيعاب أعداد المصابين بالفيروس.
٤- انهيار الأنظمة الصحية فى كثير من بلدان العالم، وفى أوروبا مثل إيطاليا، وإسبانيا، وفى مصر، وعديد من البلدان العربية مثل تونس والمغرب.
٥- سياسة الحجر الكلى، والحجر الجزئى فى المنازل للمواطنين كإجراء وقائى منعًا لانتشار الإصابات بالمرض.
٦- اللجوء إلى الإجراءات الاستثنائية على المستوى القانونى.
٧- سياسة التباعد، وارتداء الكمامات على الوجوه، واستخدام المطهرات للأيدى، والأوراق، والأشياء.
٨- هيمنة أنظمة الرقابة الرقمية، وأثرها على الحريات الفردية، والخصوصية، والحريات العامة.
٩- بروز النزعة الشعبوية والعنصرية، والتفاوت بين حظوط الدول فى الحصول على اللقاحات، وخاصة بين العالم الأكثر تطورًا، والمتوسطة، والدول المتخلفة فى جنوب العالم.
السؤال الذى نطرحه هنا، ما أثر الفيروس المتحور، والإجراءات الوقائية، وحالة الإغلاق الكامل، والإغلاق الجزئى على حالة العزلة والكتابة؟.
حالة الإغلاق الكامل والجزئى، والإجراءات الاحترازية جعلت العزلة حالة عامة لجميع المواطنين فى غالب بلدان العالم، بما فيها السفر الداخلى والخارجى بالقطارات، والطائرات، والسفن، والسيارات.
لا شك أن هذه العزلة العامة أدت إلى حالة من رهاب كونى للخوف والهلع والاضطراب النفسى والاجتماعى، أدى ذلك إلى تنظيم الدخول إلى مجال بيع السلع والخدمات، مع الحفاظ على التباعد الاجتماعى، وهرولة الجموع للحصول على كميات من السلع للاحتفاظ بها خوفًا من عدم وجودها مستقبلًا!.
أدت إجراءات الغلق التام/ الكلى، والجزئى إلى ارتفاع معدلات رهاب الخوف والهلع، وأثرها السوسيو- نفسى بل والخوف من تقييد الحريات الفردية والعامة، مع فرض الحجر فى لحظة إنسانية استثنائية، وهى الحرب ضد فيروس غامض، ومتحور، هنا هيمن الفراغ، وقانون الاستثناء، ومعه المرض/ الموت/ الخوف المحلق فوق مدن العالم الكبرى، ومعها المجتمعات كاملة.
فى ظل هيمنة الفراغ والوحدة جاءت العزلة قسرية على المدن، والمنازل، والشقق، والغرف، بل والوحدة داخل الأسرة، والتباعد فى وجود مريض، وربما عدم وجود مريض.
هنا طرحت أسئلة الكتابة فى الحياة الفعلية والحياة الرقمية على العاديين الرقميين وملياراتهم لم يجدوا سوى الكتابة، والفيديوهات الطلقة فى التعبير عن ذواتهم الرقمية والفعلية فى عديد الأحيان، والخوف والهلع والموت والسخرية يحلق فوق الحياة الكونية وداخلها، الخوف من الفيروس الغامض الذى يتحور، وانقطع الاتصال الكونى عبر المواصلات إلا استثناء، ومن خلال قيود.. إلخ.
تحول العالم إلى حياة من مليارات الكتاب الرقميين يكتبون هذياناتهم، وآلامهم، وسخريتهم، وخوفهم، وهزلهم... إلخ، تحولت الحياة من تفاعلات الواقع وصخبه إلى هدوء العزلة القاتلة، وشجاراتها وعنفها داخل الأسر، وأثر ذلك النفسى والاجتماعى، والأخطر تفاقم باثولوجيا العزلة على العلاقات العاطفية والحواسية الحميمة، وانتقل بعضها إلى الحياة الرقمية الجنسية العارية، التى نزع عنها الرقمى طابعها الحميمى، وتركها نهبًا للتعرى، والانكشاف المتبادل رقميًا، وجسديًا وللعرى اللغوى الحميمى، بكل آثار ذلك النفسية، والسوسيولوجية.
ها هى العزلة حاضرة فعليًا وكونيًا، وأثرها على الكتابة والكاتب ليست جديدة، وإنما استثنائية جدًا، فى ظل أسئلة مختلفة، تدور حول السياسة، والحريات، والرأسمالية النيوليبرالية، إلى الأهم، وهو عالم الفيروسات الغامض والمجهول، الذى يشكل كل فيروس تهديدًا للحياة الإنسانية.
الأهم هو أن عزلة الكتابة فى ظل الاستثناء، تبدو قسرية، وجبرية، وتبدو حرية الكاتب فى العزلة محملة بقيود سوسيو- نفسية، تتفاوت حدتها بين كاتب وآخر، بعضها أعاق البيئة النفسية للكاتب فى ظل التوتر الوجودى للحالة الاستثنائية الفريدة.
بعض الكتاب، اعتبر هذه الحالة واستثنائيتها فرصة للكتابة عن عالمها، ومحاولة إعادة بناء شخوصها، وهلعها، وانفجار فوائض الخوف وهلاوساته، وتدفق الأفكار، والسلوكيات العنيفة، وانكسار محرمات الحداثة السياسية والقانونية، وانتهاكات المقولات السائدة، ورفضها... إلخ!
حالة الإغلاق، والفراغ العام، والرقابات الفعلية والرقمية، أعطت للكاتب السياسى والاجتماعى، الفرصة لبحث مسألة الحريات الفردية والعامة، وحالة الاستثناء فى ظل الإغلاق، والرقابات، وخطرها!.
بعض السوسيولوجيين حاولوا درس الظواهر الاجتماعية للتباعد، والإغلاق، والفراغ على السلوك الاجتماعى، ومعها آثارها النفسية، مع بعض علماء النفس عن الحالات النفسية المصاحبة لحالة التباعد والإغلاق.
الأهم فى تقديرى، على الرغم من أهمية بعض هذه الممارسات والعمليات والتمرينات الكتابية، تمثل فى بعض المقاربات الفلسفية التى تمت من بعض الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، فى طرح أسئلة مختلفة حول أثر التغيرات المناخية، وفى الأنظمة الإيكولوجية، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وضرورات إعادة التوازن فى ضوء ردود الطبيعة الشرسة على الفعل الاستغلالى الوظيفى لها، سعيًا وراء الربحية والتراكم الرأسمالى.
ثمة أسئلة بالغة الأهمية حول الشرط الإنسانى والوجودى، ومستقبل الإنسان.
إن حالة العودة إلى الحياة الطبيعية نسبيًا فى عالمنا، بعد اكتشاف اللقاحات والتحورات فى الفيروسات بما فيها بروز أمراض جديدة مثل جدرى القرود، تشير إلى أن المجهول الفيروسى كامن فى الطبيعة والحياة، ويحلق فى الأفق اليومى، ثم يهجم فجأة!
أسئلة الوجود الإنسانى، وشرطه، سوف تعود مجددًا، وتلقى بظلالها على الدرس والمقاربات الفلسفية والسوسيولوجية، بل سوف تشغل الخيال الشعرى، والقصائدى، والسرديات القصصية والروائية والمسرحية، كما شغلت السينما وحكاياتها التى حملت معها بعض أساطير الكائنات الخرافية التى غزت المدن الأمريكية الكبرى، وهدمت بعض رموزها، وأمكنتها الشهيرة... إلخ!
اللحظة الاستثنائية لكورونا المتحور لا تزال حاضرة رغم ضعف الفيروس، ونجاح بعض لقاحاته إلا أنها تحتاج إلى بعض الوقت لتظهر فى الكتابة بعيدًا عن صخب اللحظة، وهزياناتها، وحكاياتها التى نسجها البشر فى واقعهم الفعلى، أو حياتهم الافتراضية.
إذا انتقلنا إلى أثر صدمة كورونا فى مصر والعالم العربى، وعلى الكتابة، وحياة العزلة القسرية، نستطيع أن نلاحظ ما يلى:
أن الحياة الواقعية فى ظل الإغلاق كانت محدودة نسبيًا عن الإغلاق فى المجتمعات الأكثر تطورًا، وخاصة فى سعى السلطات الحاكمة غربًا، من أثر الإغلاق على اقتصاداتها الهشة، ومن ثم كان الإغلاق التام أو الجزئى محدودًا جدًا. لم يكن الإغلاق صارمًا رغم انهيارات الأنظمة الصحية وعجزها فى الأوقات العادية، وكانت الحياة خارج العواصم. والمدن الكبرى ضاجة بمألوف تفاصيلها حتى فى ظل الإغلاق فى الأحياء الفقيرة، وهوامش المدن، والقرى، لاعتبارات عديدة منها أزمة الوعى الصحى العام، وفوائض التدين الشعبى، وأنماطه التواكلية.
لوحظ كالعادة أن لحظة كورونا أدت إلى تحولها سريعًا إلى مادة وموضوع لبعض الروايات والقصص القصيرة والقصائد فى معالجات تتسم بالبساطة والسطحية على الرغم من استثنائية نادرة للصدمة الإنسانية وما حملته من أسئلة وتغيرات فى أنماط الحياة الكونية!
مثل هذه الكتابات هى جزء من انفجار الكتابة التافهة فى عالمنا العربى، ومصر على وجه الخصوص، وهى نمط من كتابات الكثرة الكاثرة من غير الموهوبين من الكتّاب، والكاتبات التى تبدو مثل وجبات الأكل السريع سابقة التجهيز، Fast Food والـFast Song والأغانى السريعة، وفيديوهات الطلقة على الواقع الافتراضى أفضلها لا قيمة له سوى لحظة استهلاكه السريعة، وينتهى بمجرد سماعها لمرة، أو مرات، وتتلاشى، وتمحوها الذاكرة الموسيقية.
يلاحظ أيضًا أن حالة الإغلاق، والعزلة، والتباعد الاجتماعى، وارتداء الكمامات، واستخدام المطهرات للأيدى، والوجوه، والأشياء، وما أشاعته من رهاب الخوف المحلق، لم تكن حالة عامة وشاملة ظلت قسرًا على بعضهم فى تركيب الفئات الاجتماعية فى المدن من الطبقات الوسطى، والعليا المدينية، وبعض الاستثناءات البسيطة فى فئات أخرى، كشف عن انهيار النظام التعليمى، ومعه الوعى الاجتماعى شبه الجمعى، وانفجار أمية المتعلمين والأمية العادية، والأخطر بروز الأمية الدينية من الخطابات الدينية الفعلية والرقمية للسلفيين، وبعض رجال الدين الرسميين، والدعاة الدينيين الرقميين، فى عجزهم عن التفسير العلمى للجائحة، إلا بعض الاستثناءات.
لم تستطع العزلة الإجبارية فى زمن كورونا أن تعطى الكتابة السياسية والسوسيولوجية المقموعة فرصة لحرية العقل، والرصد، والتأمل والتفكر والتفكيك والتحليل فى غالب ما كتب على الحياة التواصلية الافتراضية، ووسائطها، ولا فى الكتابة الورقية إلا قلة قليلة جدًا واستثنائية فى عالمنا العربى ومصر. من هنا ضاعت هذه اللحظة الاستثنائية فى الحياة الكونية، وحياتنا الفردية، فى تأملها فلسفيًا، وسياسيًا، ووجوديًا ودينيًا، فى حالة العزلة النسبية، وما فرضته من حرية للعقل الناقد فى طرح الأسئلة، خاصة أسئلة الوجود، والشرط الإنسانى، والعدم المحلق فى الأفق الكونى.
هل ستؤثر الثورة الصناعية الرابعة والأناسة الروبوتية والذكاء الصناعى على العزلة، والكتابة، والكاتب؟
يبدو لى أن الثورة الصناعية الرابعة، وحواملها، ومحمولاتها ستشكل نقطة تحول وقطيعة فى النظم المعرفية، والاجتماعية، وعلى أنظمة اللغة، وإرث النظريات السوسيولوجية والخطابات الفلسفية، والآلات الاصطلاحية، التى تقارب بها هذه الحقول المعرفية، الأسئلة، والظواهر، والمشكلات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، وستمتد إلى المقاربات النقدية للأدب، وسردياته وأنواعه، مرجع ذلك ما يلى:
١- الذكاء الصناعى، والرقمنة، وعالم الروبوتات الذى دخل الحياة اليومية، ويغير فى طبيعة الاقتصادات العملاقة- النيوليبرالية فى عالمنا، أدى إلى تغير فى طبيعة الشركات الكونية العملاقة، وبروز الرقمنة فى نظامها الإدارى والإنتاجى والتوزيعى، وأدت الرقمنة إلى إغلاقات لسلاسل التوزيع الكبرى فى المدن، إلى البيع الرقمى، وأيضًا عبر طائرات الدرون التى ستستمر وتتوسع، وذلك قبل جائحة كورونا وبعدها، إغلاقات أدت إلى استبعاد ملايين العمالة، وتحويلها إلى دائرة البطالة.
هذه الظاهرة ستمتد مستقبلًا، وسيترتب عليها خروج عشرات الملايين إلى البطالة، ولن يتم إعاة تأهيلهم فى اقتصاد الذكاء الصناعى وسيعتمدون على الضمان الاجتماعى فى معاشهم وصحتهم، وسوف تتزايد ظاهرة البطالة لأسباب عدم القدرة على إعادة التأهيل فى أسواق العمل، مع تطور التقنيات الروبوتية والرقمية، وستحل الروبوتات محلًا للعمل الإنسانى بكل انعكاسات ذلك الاجتماعية، والثقافية.
٢- تم توظيف الذكاء الصناعى والرقمنة فى الإنتاج الثقافى عمومًا، لا سيما فى السينما، وفى تشكيلاتها البصرية، وفى موضوعاتها، وفى السيناريوهات، والمونتاج، والإخراج، وأيضًا على اللغة الحوارية من ناحية ثانية يمتد الذكاء الصناعى إلى آلات التصوير، وتقنياتها، الأكثر تطورًا، وفى عمليات «المكساج»، وغيرها من العمليات التقنية فى السينما.
٣- بروز المنصات الرقمية السينمائية والتلفازية على المستوى الكونى، وأثر ذلك على نهاية طقس الفرجة فى دور العرض السينمائى، خاصة للأجيال الجديدة، وسيزداد دور هذه المنصات، واختياراتها للموضوعات الفيلمية، وهو ما برز خلال السنوات الأخيرة، وهو ما جعل طقس الفرجة فرديًا على الألواح الرقمية، وأجهزة الحاسوب، والهاتف المحمول، وسيتحول إلى طقس مشاهدة فى العزلة الرقمية الفردية.
٤- سيساهم البث الرقمى لمنصات الأفلام الرقمية على المستوى الكونى إلى نمط من الهيمنة الرمزية الناعمة للقيم والموضوعات، وتحيزات هذه المنصات الرقمية، وهو ما يظهر الآن على هذه المنصات، واختياراتها لموضوعات أفلامها، ومسلسلاتها التى تمولها وتبثها على مواقعها.
٥- الأدوار الوظيفية للروبوتات فى الحياة الإنتاجية، والخدمية وإزاحتها للعمل الإنسانى ستؤدى إلى تداخل الروبوتى/ الآلى فائق الذكاء، فى الحياة اليومية، وهو ما حدث ويتمدد فى أمريكا وكندا وأوروبا، والصين وكوريا الجنوبية، ولا يقتصر دور الربوت على هذه المجالات فقط، بل امتد إلى أعمال اعتمدت تاريخيًا على دور الإنسان الذكى فيها، كالتخطيط المعمارى والعمرانى، وفى تصميم الأبنية والمصانع والمتاحف، وفى تخطيط الطرق... إلخ، بحيث أثر على مهنة ودور المهندس التقليدى المعروف وظيفيًا، وتاريخيًا.
٦- التقدم والتطور التقنى فى الأناسة الروبوتية، تشاطر الأدوار الوظيفية، بين الإنسان والربوت، سيؤثر على أنماط الحياة المتعددة فى عالمنا ومجتمعاتنا، وذلك فى القيم، السلوك الاجتماعى، وميزانية الوقت، والفراغ وربما نمط جديد من العزلة، والاغتراب الفردى والجماعى ريثما تتأسس آفاق قيم وأخلاق وأشكال من السلوك الاجتماعى تتوافق مع هذه المرحلة من تحولات الحياة الإنسانية.
٧- فى عصر الأناسة الربوتية وهو انتقالى ومتغير ستتأثر بعض مكونات الثقافة العامة فى المجتمعات الإنسانية، مثل الفلكلور وطقوس نظام الأكل، وربما الزى المتغير، ونوعية نظام الطبخ والطهى، وتداخلات الأنظمة المتعددة كونيًا فى أنماط الطهى ومكونات الطعام. لا شك أن نظام الطهى والأكل بات كونيًا لكنه سيتأثر بدخول الربوتات فى عمليات الطهى فى المطاعم والمنازل، وربما يسيطر على الأذواق والطعوم الإنسانية!
قد يبدو هذا القول غريبًا، لكن غرابته ستزول لأن نظام الطهى والأذواق والطعوم هى جزء لا يتجزأ من ثقافات العالم وشعوبه وجماعاته وأعراقه على تعددها.
٨- ستتمدد وتتزايد أوقات الفراغ وتنشأ معها ثقافة الفراغ وتوظيفاته محملة على تقنيات الروبوتات والذكاء الصناعى وتطوراته المذهلة.
٩- يثور التساؤل حول أثر الفراغ فى عالم الروبوتات، الثقافة الجنسية للحواس وثقافة المتعة الفائضة- وفق المصطلح اللاكانى- المرجح، وفق المؤشرات الحالية، أن ثمة تغيرًا سيحدث فى عالم الحواس ومثيراتها وشبقها على صعيد الحميمية الإنسانية التى تتغير فى أطرافها سواء التقليدية المستمرة تاريخيًا بين الذكر والأنثى، إلى أنماط أخرى، كانت مستورة ومحظورة دينيًا وأخلاقيًا وقانونيًا إلى أنماط مثلية والتى تتمدد جهارًا دونما محظورات فى العالم الأكثر تطورًا، وتتمدد إلى ثقافات أخرى تسيطر عليها فوائض دينية محافظة، تتفكك وتتآكل.
الجديد هو تداخل الذكاء الصناعى، والأناسة الروبوتية هو إنتاج كائنات روبوتية جنسية على شكل وأهواء طالب هذا النمط الجديد من المتع الحواسية، وهو ما سيحدث تغيرًا فى العلاقات الحميمية، فى نمط جديد من العزلة والاغتراب الحواسى، على نحو سيؤثر فى ثقافات العالم الجنسية، بل إن التطورات الجينية سوف تغير أشكال الإشباع الحواسى على نحو ما توقع بعض العلماء عند نهاية تسعينيات القرن الماضى، عن أثر التطور العلمى على الإنسان، المهم هنا ليس موضوع الحواسية والشبقية، وفوائض المتع التقليدية المصاحبة لها، وفق تاريخ الممارسات، والأوضاع الحواسية، فى الموروث الجنسى، وثقافة الجنس، وإنما احتمالات ومآلات التحول فى العالم الحميمى الخاص، وأثره على الشرط الإنسانى، ومن ثم انهيار عالم أو عوالم كاملة ارتبطت بهذا السلوك فى المتون الدينية، وهندساتها للجنس، وضوابطه وشروطه فى إطار الأديان، وفى المتون الجنسية، فى الثقافات الهندية، والصينية واليابانية، والفارسية والعربية والعالمية، والتى شكلت جزءًا رئيسيًا من الثقافات الإنسانية على تعددها! هنا تبدو المفارقة فى إطار تحولات العلوم الجنسية، وأثر الذكاء الصناعى على هذا العالم الحميمى والخاص جدًا، لا شك حدوث هذه التحولات سيؤثر على أسئلة الشرط الإنسانى، والوجودى، وأيضًا على المتون والسرديات اللاهوتية والفقهية حول الأديان المختلفة، خاصة فى ظل التجارب التى تمت على استنساخ بعض الخراف، وما يتردد عن التجارب على الإنسان والاستنساخ البشرى المجرم قانونًا ودينًا من المؤسسات الدينية الرسمية وغيرها على تعددها فى عالمنا! حال ما إذا تمت بنجاح هذه التجارب ستطيح بالقيود القانونية كعادة التطور العلمى، وسلطات السياسة والدين تاريخيًا، وسيؤدى ذلك إلى طرح أسئلة بالغة الحرج والحساسية على السلطات الدينية والمذهبية الرسمية وغيرها على المستوى الكونى، حول أسئلة الوجود والعدم، والحياة والموت قد يبدو لبعضهم أنها أسئلة متخيلة, لكن واقع التحول فى عصر الذكاء الصناعى أعطى لهذه الأسئلة راهنيتها، لكن سكونية العقل الدينى واللاهوتى والمذهبى، وسياجاته، تعوق طرح هذه الأسئلة وتميل إلى تأثيمها قبل إطلاقها! لكن مسارات العقل البشرى غالبًا ما تجاوزت تاريخيًا هذه السكونية اللاهوتية وطرحتها جانبًا فى مسار التطور العلمى والمعرفى والفلسفى، السؤال ما الذى سيتبقى من الفكر الدينى واللاهوتى والفلسفى والكلامى المرتبط بها، فى عصر الروبوتات والأناسة الربوتية وتطور عالم الجينيات! بل فى حالة خلل جسم فى العلاقة بين الإنسان والبيئة لا يمكن السيطرة عليه، ويؤدى إلى تراجيديا كونية!.
١٠- عصر الأناسة الروبوتية هو مرحلة انتقالية فى الثورة الصناعية الرابعة، نحو مرحلة ما أطلق عليها اصطلاحًا، عصر ما بعد الإنسانية، فى ظل هذا العصر الذى تبدو الآن ملامحه غائمة، ومعها بعض أسئلته، إلا أن مرحلة ما بعد الإنسان ستطرح من الأسئلة، والتصورات الكثير، وأخشى أنها ستقترب مع تسارع وتأثر تمدد الأناسة الروبوتية، فى مرحلة ما بعد الإنسانية سيكون السؤال هل ستستمر المتون الدينية، واللاهوتية، والفقهية، وغيرها صالحة لإجابات عن عالم ما بعد الإنسانية! سؤال مفتوح والمرجح إجابات صادمة ومختلفة!
فى ظل الأسئلة المحتملة عن تحولات عالم الذكاء الصناعى والأنسنة الروبوتية، وما بعدها أين ستكون الكتابة والعزلة!
الأخطر.. الأخطر.. الأخطر أن الروبوت ربما سيغدو كاتبًا، وهذا ما حدث وأشرنا إليه فى مقدمة كتابنا تفكيك الوهم، موثقًا!
هنا سيبدو سؤال الكتابة ما بعد إنسانى؟! وا آسفاه! لكن السؤال أين العزلة إذن؟ يبدو أن اصطلاح الاغتراب والأنوميا لن يكونا صالحين للتعبير عن الحالة المختلفة فى توصيفات علم النفس الاجتماعى، لكن فلنقل، ستزداد العزلة والابتعاد عما هو إنسانى على نحو ما ألفينا، وربما الصراع الضارى بين الإنسانى والروبوتى فى تداخلهما! والسؤال هل سينتصر الإنسانى على الروبوتى ويتحكم فى مساراته وتوجيهه؟! أم سينتصر عالم الربوت فى طريقه إلى ما بعد الإنسان؟ هل سيكون الإنتاج الإنسانى من خلال الاستنساخ إنسانوى أم روبوتى؟ هل ستكون عبقريته النهائية هى إنتاج ذاته، وتكون نهايته نتاج عبقريته فى سعيه إلى حل لغز الكون العدم؟!
أسئلة أو تمرينات فى الأسئلة من كاتب فى الطريق إلى سفره الطويل فى الغروب، وفق كتاب أجداده، الخروج إلى النهار! ها هو يعود إلى متن أجداده القدامى بحثًا عن أمان ما غير متمعن فى تاريخه الشخصى، ولا عوالمه.