فى مديح عوالم العزلة والكتابة «2-1»
تبدو أسئلة الكتابة والعزلة جزءًا لا يتجزأ من عمليات التفكير، والتجربة، والكتابة، وهى أسئلة قديمة ومعاصرة وحداثية وما بعدها بامتياز، بل إنها ستكون أشد وطأة فى ظل التحول من عالم المابعديات إلى عصر الذكاء الاصطناعى، والأناسة الروبوتية، وما بعد الإنسان.
الكتابة هى ابنة العزلة، وصاحبة لها، فى السرديات والشعر، وفى إنتاج الفكر الاجتماعى، والفلسفى، بل تمتد إلى الفنون جميعها، بما فيها تلك التى يشارك فيها المتلقى كالمسرح- فى المنظور البريختى وتجارب أخرى- لأن أفعال الكتابة حتى فى استلهامها للواقع الموضوعى وظواهره، ومشكلاته، وأزماته، وتفاعلاته، هى أفعال عزلة فى العمليات الكتابية ذاتها، بين المبدع والمفكر والكاتب، ينظر المبدع إلى عالمه الواقعى الفعلى وحكايته، وتفاصيله، ثم ينطلق منها لبناء عالمه السردى، أو نظرته الفلسفية والسوسيولوجية والسياسية، سواء من خلال الرصد، والتفكيك والتحليل، أو من خلال تجميع المعلومات، أو البحوث الميدانية، من ثم تمثل أفعال التفكيك والتحليل والاستنتاج أفعال عزلة فى فعل الكتابة.
العزلة قرينة الكتابة، حتى ولو كانت أسئلة الكتابة الإبداعية تنطلق من أفعال الواقع، وظواهره، ومشكلاته، بما فيها الانتقال من أسئلة الواقع الموضوعى، وبناء تمرينات التفلسف العقلى أيًا كانت تنظيراتها، وهمومها لدى الفيلسوف أو المتفلسف! هنا التأمل للواقع، والحياة الإنسانية، وأسئلة الوجود والعدم، هى قرينة حالة العزلة، والتمايز بين عمليات التفكير العقلى، وبناء الأفكار الفلسفية التى تحتاج إلى العزلة.
العزلة كحالة هى لازمة من مستلزمات التأمل والتفكر وفعل الكتابة فى مراحل تطورها التاريخية، وأدواتها المتغيرة بالكتابة بالورقة والقلم إلى الكتابة على الآلة الكاتبة، ثم على أجهزة الحاسوب، إلى الكتابة الرقمية وعوالمها الافتراضية، حتى فى ظل خطاب المنشورات والتغريدات على الواقع الافتراضى، حيث التفاعل المباشر مع خطابات وجيزة، ونظيرة، ثم تحديد كلماتها سلفًا من الشركات الرقمية الكونية، التى تعيد صياغة أنظمة التفكير، واللغة، والحياة الإنسانية الفعلية، عبر عوالم الحياة الرقمية.
العزلة هى حياة الكاتب فى الحياة ذاتها الفعلية والرقمية، هى قدر المفكر والمبدع أيًا كان حقل إبداعه وفضاءاته، لأن العزلة بها قدر من النسبية، فهى لا تعنى الانفصال عن الواقع وأفعال الحياة، وتفاصيلها، ولكنها تقول الواقع وسياقاته، فى محاولة تفكيكه، وهدم أنظمته، وحكاياته، وسلطاته، والكشف عن اختلالاتها، سعيًا وراء القطيعة معه معرفيًا وبنائيًا، والسعى إلى تأسيس الأبنية الجديدة التى تحاول أن تستجيب لأسئلة الشرط والوجود الإنسانى فى كل مراحل التطور التاريخى فى غالب مجتمعاتنا الإنسانية على تمايزات بعضها، وتقدمه عن بعضها الآخر.
من هنا نحن إزاء حالة عزلة مستمرة، عبر الأزمنة والإنتاج الفكرى، تتغير طبيعة العزلة وأحوالها، ومعها أسئلة العزلة، والتفكير، والإبداع وأجناسه، وسروده، بل والكتابة الإبداعية العابرة للأنواع، والأجناس فى زماننا.
العزلة فى المجتمعات الغربية المتطورة، وأفعال وعمليات التفكير الإبداعى، والكتابة، اتخذت أوضاعًا وحالات سوسيو-نفسية أكثر تركيبًا من ذى قبل، لاسيما مع التطورات التقنية، والمعرفية المختلفة، فى ظل الثورات الصناعية من الأولى إلى الرابعة. فى كل مرحلة من مراحل تطور الثورات الصناعية، اتخذت العزلة أشكالًا وحالات مختلفة، لكن تطورت حالة عزلة الكاتب، وليست الكتابة من خلال بروز ظواهر الأنوميا anomie.
حالة القلق والاضطراب، وعدم الاستقرار الناجمة عن تآكل وانهيار المعايير والقيم الاجتماعية، وغياب الأمل، والمتمثل فى تفكيك الأبنية والمؤسسات فى بعض المراحل التاريخية غير المستقرة، انظر تعريف الأنوميا لدى دوركايم، وجيد مارى غويو، فى مدونة عرب سوسيو الأربعاء ٢ أغسطس ٢٠١٧ «arabsocio - blogspost. com»، والحالة اللامعيارية التى تسود المجتمع، وبعض فئاته أو طبقاته الاجتماعية، فى واقع مضطرب، هنا تبدو العزلة كحالة سوسيو- نفسية، وعقلية مهمة ليست فقط فى أنوميا الكاتب أو المبدع، ولكن لأنها تمثل حالة لإنقاذ الذات القلقة من الواقع المضطرب، بل والسعى إلى نجاتها بالتفكير المستقل، والحر، عن واقع الجموع المضطرب واللامعيارى وتفتح الأبواب أمام التأمل والتفكير المبدع، والكتابة عن عالم الوجود المضطرب وأسئلته الحديثة والمختلفة.
العزلة هنا حالة انتهازية للعقل وعمليات التفكير، والانفصال النسبى، عن صخب الجموع وآلامها، وصراخها، واضطرابها حتى يستطيع العقل، وعملياته، أن يبلور أسئلة الواقع، والجموع، والوجود، ويحاول إيداعها فى أفعال الكتابة الإبداعية أيًا كانت أنواعها، وأجناسها، وأنماطها.
العزلة ارتبطت أيضًا بظواهر ومشكلات ما بعد الحروب الأهلية والكونية، والكتابة الإبداعية عنها، وعن الدراما الإنسانية بل والملهاة الإنسانية فى الصراعات بالحديد والنار والقنابل الذرية، وقصف المدفعية والصواريخ والطائرات، تبدو العزلة خارجة من قلب أتون الحروب، وفيضانات الدماء الصارخة بالوجع الإنسانى المركب، بل وعبثية بعض أشكال الوجود الإنسانى، وخاصة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، من هنا كان صعود السريالية، وسردياتها، وفنونها التشكيلية، والسينمائية وشعرها، وكتاباتها التى انطلقت من واقع موضوعى مختلف ومضطرب. كانت كتابات مسرح العبث، من يونسكو، وصمويل بيكيت، وآخرين، وصعدت معها الفلسفة الوجودية على المثال السارترى، ونظرائه، وتلاميذه.
فى ظل الانتقال من الثورة الصناعية الثانية إلى الثالثة، والحرب الباردة، وتمدد الإمبراطورية الفلسفية الماركسية، ومحاولة تحرير العمل الإنسانى من قيود استغلاله، وشروطه، وفوائضه المستقلة، كانت الكتابة الفلسفية، والسوسيولوجية، والقانونية، والأدبية، هى أيضًا تنطلق من حركة الجموع، والطبقات العمالية، إلى حالة العزلة للكتابة عنها، والإبداع حول أحلام صعود أقمية العمال فى التاريخ، والكون والحياة الإنسانية، من الواقع الموضوعى وصراعاته، إلى حالة العزلة للكتابة الإبداعية عنها فى السياسة، والشعر، والمسرح، والرواية، والفنون التشكيلية، لأن الإبداع، وأفعاله تحتاج إلى عزلة الكاتب ومكتبته، ومرسمه، وكتابة أفكار الأفلام السينمائية، وسيناريوهاتها، وحواراتها، ثم الانتقال إلى أفعال التصوير، والمونتاج، والموسيقى التصويرية.. إلخ!.
تبدو العزلة صنو الإبداع، لأنها هى التى تحث على التأمل والتفكير والكتابة، وبناء التطورات عن الأعمال الفنية، لا يوجد إبداع بلا تخييل من الواقع الموضوعى إلى ما وراء الواقع، أو الميتا واقع، والميتافيزيقيا.
فى ظل حالة الاغتراب- لدى ماركس وإريك فروم وآخرين- التى يعيشها الفرد، ونمط متفرد من المبدعين، تبدو العزلة حياة المبدع، وإبداعه، إنها حالة سوسيو- نفسية تؤدى، وتحفز على الإبداع الفكرى والفنى والأدبى.
حالة العزلة هى حالة محفزة على الإبداع، وترتبط بها الكتابة حتى السياسية والسوسيو-فلسفية، لأن فعل الكتابة الورقية، بل والرقمية، تحتاج إلى الانفصال والتمايز عن حركة الواقع، وصراعاته، ومنافساته، وتفاعلاته، ورصدها، وتأملها، وتفكيكها، وتحليلها فى أفعال الكتابة السياسية، والسوسيو- فلسفية.
العزلة حالة سوسيو- نفسية لدى الكاتب، والمفكر، والمبدع، والمثقف، إزاء موضوعاته وتخييلاته، وأيضًا عزلة مكانية، حيث يجلس وحيدًا أثناء فعل الكتابة المبدعة، حتى ولو كان يجلس على مقهى، وسط الشوارع، وفى ظل حركة الجموع، كما كان يحدث فى مقاهى باريس الشهيرة الدوماجو، والفلور، حيث كان يكتب جاك بريفير قصائده، أو يكتب بعضهم بعضًا من أفكاره، فى ظل صخب تفاصيل اليومى، ورائحة القهوة، والشراب.
حتى فى ظل ضجيج عربات القطارات، وصخب السيارات فى شوارع المدن، تبدو عمليات التأمل لعالم التفاصيل، والمشهديات، والاستعراضات، والتمثيلات الفردية، أو الجماعية فعل الرصد المتغير، والتأمل، والتحليل، والتخييل، وبناء الأفكار، والتحليلات، والقصائد، والقصص، والروايات، والمسرح، وسيناريوهات الأفلام وحواراتها، هى ابنة حالة العزلة السوسيو- نفسية، والكتابية.
أسئلة العزلة والكتابة هى حالة كونية عابرة للثقافات، والكتاب، والباحثين، والفلاسفة، من ثم عابرة للعصور والمجتمعات، وتأخذ أشكالًا مختلفة مع كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعى، والثقافى، والمعرفى، والفلسفى، والسياسى، حتى النظريات السياسية هى ابنة تنظيرات الواقع لكن فى عزلة المنظر والفيلسوف، والمفكر السياسى. الهندسات السياسية والاجتماعية والدينية اللاهوتية والفقهية تنطلق من الواقع الموضوعى، وتحولاته إلى العزلة للكتابة، والتنظير حولها.
العزلة الكتابية هى فعل تحرر من قيود الواقع الموضوعى وأحواله، ومن معتقلات الروح والعقل والجسد، ومحرمات السلطات السياسية، والدينية، والأخلاقية التى تفرض على الكاتب والمبدع، والمفكر، العزلة هى حالة من تحرر العقل والفكر والمخيلة، من الضوابط المجتمعية التى تضبط الفعل الاجتماعى، وإرادة الفرد وخياله.
العزلة هى قضاء العقل الحر، والخيال الحر، والكتابة الحرة المبدعة، من ثم لا تفكير ولا إبداع بلا عزلة سوسيو- نفسية. العزلة قد تكون حالة سوسيو- مكانية، حيث انعزال المبدع عن الآخرين أثناء فعل التأمل والتفكير، وتخييلات الإبداع الفنى التشكيلى، أو الشعرى أو القصصى، أو الروائى، أو المسرحى. حتى فى العزلة المكانية، بين الكاتب والآخرين، وهى لا تحدث إلا بين بعض الكتاب والفلاسفة والمبدعين ممن لديهم أمكنة معزولة عن الآخرين، إلا أن غالب المبدعين لاسيما فى القارات الثلاث- إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية- ليس بمقدورهم العزلة المكانية فى الغابات، أو الصحراء، أو على ضفاف الأنهار، والبحار لعسر حياتهم، إلا أن فعل الجلوس للكتابة فى غرفة أو شقة أو منزل أو فى المقهى، هو حالة سوسيو- نفسية، تجعل الكاتب يفكر ويبدع فى قلب الانعزال السوسيو- نفسى عن صخب المقهى، والشارع، والعابرين.
العزلة لم تعبر عن الواقع والجموع والصخب، والتفاصيل، والأشياء ومشاهد وصور الواقع الفعلى، وإنما تطورت الحالة السوسيو- نفسية للعزلة، والكتابة فى الحياة الرقمية أمام جحافل من الحمقى، وفق تعبير أمبرتو أيكو أثرت الرقمنة على خطاب المنشورات، والتغريدات الوجيزة، والكتابة، والصورة، والفيديوهات الطلقة. تحولت الحياة الرقمية إلى عزلة أخرى لبعض الكتاب عنها، من خلال البعد، أو إلى منصة لعرض بعض أفكارهم وكتاباتهم لكنها عزلة خاصة، بين الكاتب وتدفقات المنشورات والتغريدات، والصور، والفيديوهات الطلقة السريعة.
حيث يجلس أمام جهاز الحاسوب، والألواح الرقمية، أو عبر جهاز الهاتف المحمول متعدد الوسائط، هنا الكاتب يجلس فى غرفته، أو شقته أو فى الشارع أو القطار أو السيارة، ويتفاعل سريعًا مع الآخرين، سواء من خلال منشوراته أو تغريداته أو صوره، أو تعليقاته على بعض هذه الخطابات الرقمية للعاديين، هذه الظاهرة تبدو طاغية فى مصر والعالم العربى، وذلك سعيًا وراء الحضور والشيوع الرقمى، فى ظل قيود الواقع الموضوعى، وفرصه النادرة، والمنافسات الضاربة بين الكتاب!
التفاعل الرقمى ينطوى لدى بعض الكتاب على العزلة والانفصال عن الحقيقى، والفعلى، والانخراط فى الرقمى، وفى عالم الفيديو الطلقة، أى الحياة الرقمية إلى غلبة الافتراضى على الفعلى، والتأثير من خلاله على الحياة الفعلية فى السياسة، والأمن والقرارات السلطوية والأمنية، حتى فى المجتمعات المتخلفة اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا.
هل تشكل حياة العزلة الكاتب على مواقع التواصل الاجتماعى، ونمط كتاباته؟
نستطيع القول إن ثمة عزلة افتراضية، سوسيو- نفسية، بين الكاتب، والحياة الفعلية أثناء انخراطه فى الحياة الرقمية، ومنها من خلال تفاعله مع ذوات رقمية أخرى سواء من خلال منشوراته أو تغريداته، أو تفاعله مع أفعال الآخرين الكتابية الرقمية.
ثمة عزلة رقمية أثناء الكتابة الرقمية على الهواتف، والألواح، تفصله عن الآخرين أثناء الكتابة أيًا كان نوعها، لأنها تحتاج إلى هذه العزلة، بما فيها التأمل وتحليل الظواهر الرقمية، وفضاءات التواصل الاجتماعى، ومواقعها، وصورها، وتخييلاتها، وتحويلها من الحياة الرقمية كمادة خام لبناء عوالمه السردية أيًا كان نوعها، أو تعديها للأنواع الأدبية، أو الكتابة السوسيو- رقمية الهادفة إلى رصد وتفكيك الظواهر، والأساطير الرقمية فى كل أنواع الكتابة، ثمة حاجة للتأمل فى الظواهر، والذوات الرقمية لمليارات العاديين، وشخوصهم، واهتماماتهم، وصراخهم، وألمهم، وتحولهم جميعًا إلى صخب «فيالق الحمقى»!
العزلة حاضرة فى حياة الكتابة والكاتب فى ظل الكتابة الرقمية، وتؤثر فى النظام اللغوى الرقمى، وتخييلاته، ومجازاته، وفضاءاته الإبداعية، ثمة سرد رقمى محنك عن السرد الذى ألفناه فى مراحل تطور الإبداع الأدبى، والفنى، حتى فى الرسوم الرقمية، ثمة احتياج لعزلة ما، عن سياقات الحياة الرقمية لممارسة الرسم الرقمى!
من هنا موضوع العزلة والكتابة، والتجربة، متداخل، ومتصل ومتواشج عضويًا، لأن التجربة فى الكتابة أساسية، وإن لم تكن تجربة وجودية عميقة، فلا تستطيع الكتابة أن تؤدى فى عزلتها إلى إنتاج إبداعى، وتخييلى، وبحثى رفيع، وكذلك استلهام تجارب الآخرين الكتابية، وعوالمها غير المألوفة لكبار الكتاب، والمبدعين لن يؤدى إلى إثراء تجارب الكتاب الذين يحاولون استهلامها، لاسيما فى الأدب المصرى والعربى، لأن إنسانية التجربة الوجودية، وطابعها الخصوصى، والمحلى فى شرطها الوجودى، هى التى تعطى العمل الأدبى ألقه وبعده الإنسانى المتعدى للخصوصيات، والثقافات، ولأن مثل هذه التجارب العميقة نادرة، لم يستطع الأدب المصرى الحديث والمعاصر أن يتعدى حدوده المحلية إلا قليلًا، ومثالها الأستاذ نجيب محفوظ بعد نوبل، وجمال الغيطانى فى فرنسا، وتجربة علاء الأسوانى لأسبابها، والتى انتهت، وأدونيس ودوره فى الأدب العربى، وترجماته إلى الفرنسية والإنجليزية، وغيرها من لغات المركزية الأوروبية التاريخية.
فى مراحل التحول التقنى، والسيولة، واللايقين، يشيع الاغتراب كحالة نفسية وسوسيو-لوجية، ومعها خاصة فى ظل التحول من المابعديات ما بعد الحداثة، وما بعد بعدها إلى الثورة الصناعية الرابعة تنبثق وتنطلق من بين أصلاب السيولة والاضطراب، والقلق، والاغتراب من نمط جديد، أسئلة مختلفة فى الحياة الإنسانية الفعلية فى المجتمعات الأكثر تطورًا، وفى المتوسطة، والدول والمجتمعات المعسورة، والتى يعيش أبناؤها، وكتابها فى الغالب عند الحافة، هنا تبدو العزلة للكاتب والكتابة مفروضة، وفى مجتمعات الرفاهية، وأزماتها المرتبطة بالاكتشافات العلمية والرقمية، تبدو العزلة للكاتب اختيارية فى عديد الأحيان، لأن الحياة فى العزلة تمنح الكاتب فضاءات تأملية وتخييلية استثنائية.
العزلة فى مجتمعات معتقلات الروح والرأى والجسد فى عالم الممنوعات فى الإقليم العربى، مفروضة واقعًا ومجازًا على الكاتب والمبدع العربى، ليبنى سردياته الإبداعية، بل أعماله فى الفن التشكيلى، عزلة ترقى إلى تحرر الذات المقموعة، والمسيجة بالمحرمات السياسية، والفلسفية، والجنسية، والدينية، وسلطاتها، وأعرافها، هنا العزلة قرينة تحرير الذات المقموعة من أصفادها الجسدية والفعلية والروحية، والرمزية. لا كتابة بلا عزلة ما نفسية وسوسيو- كتابية، مرتبطة بفعل بناء التصورات، والأخيلة، ونظام اللغة والأسلوب الكتابى للكاتب.
إن نظام اللغة، وأساليبه المتعددة التى يبنيها الكاتب هو ابن العزلة، وحياتها العقلية واللغوية وأساطيرها، وتخييلاتها، ومن ثم يبدع الكاتب حياته اللغوية وأساليبه الكتابية، من خلال الحياة السوسيو- نفسية فى العزلة، لأنها تمنحه بعضًا من الصفاء النسبى، والتحرر من تراكمات الأساليب اللغوية السائدة، سواء على مستوى أساليب الكتاب الكبار فى الموروثات الأدبية المصرية والعربية، أو تلك الوافدة مع الترجمة عن الآداب العالمية، أو عبر لغاتها الأصلية مباشرة، أو الأساليب اللغوية المسيطرة لخطة تجربة الكتابة/ العزلة، حياة العزلة السوسيو-نفسية، والكتابية، هى التى تمنح الكاتب قدرته على امتلاك أسلوبه الخاص المائز عن الأساليب الكتابية لنظرائه ومجايليه.
فى المشاهد الأدبية المصرية، والعربية، يمكن ملاحظة أن ثمة عزلة من نمط آخر، ليست العزلة المكانية فى فعل التأمل، والإبداع، والبناء، وإنما نمط من العزلة السوسيو- نفسية، والتاريخية تتمثل فيما يلى:
١- العودة إلى بناء سرديات قصصية وروائية فى بعض المراحل التاريخية، بحثًا عن التشويق، والغرابة، من خلال استلهام بعض مراحله فى السلطة، وتفاصيل الحياة، والقيم لتحمل بعضًا من الهموم المعاصرة، وذلك هروبًا من قيود الواقع الاجتماعى والسياسى والدينى، وسلطاتها!
بعض هذا التخييل اتسم بالهشاشة، والتوتر التاريخى، وطقوسه فى المراحل المملوكية، وغيرها سعيًا وراء سهولة استمداد الشخوص، وتركيباتها، وسلوكها، من خلال بعض هذه المراحل، وتفاصيلها المستمدة من المتون التاريخية الموروثة عن هذه المراحل التاريخية، وقصصها.
هذا النمط من الكتابة الروائية التخييلية فى التاريخ، وجدت بعض الأعمال الإبداعية فى جيلى الخمسينيات والستينيات بعد الأستاذ العميد نجيب محفوظ، ومنها السائرون نيامًا لسعد مكاوى، والزينى بركات لجمال الغيطانى، هذه الأعمال اتسمت بالجدة، والإبداع الروائى، إلا أن بعض الأعمال الحالية اتسمت بالعزلة والهروب إلى التاريخ بحثًا عن بعض الغرابة، والاختلاف بلا إبداع لعوالم سردية مغايرة، وغير مألوفة.
هنا نحن أمام نمط من العزلة فى التاريخ، وبعض فضاءاته- المملوكية- ومن ثم هى كتابة عزلة فى التاريخ، والمرجح أيضًا عزلة مكانية للكاتب فى الغالب أمام مكتبه، ومتون التاريخ التى نستلهمها فى مكتبته، أو من خلال الكتب الرقمية المرقمنة على المواقع الافتراضية.
٢- هناك عزلة من المدنية إلى العوالم الحكمية الريفية، وطقوسها، وبعض أساطيرها اليومية، والميتاواقعية التى تخايل الريفيين فى حياتهم، هذا النمط من الكتابة يتطلب عزلة ما فى أفعال الكتابة والسرد٫ وهى عزلة من عالم المدنية/ عالم الرواية إلى العوالم الريفية المسحورة، بحثًا عن الحلمية المؤسطرة، ولغة الريفيين، مثل هذه السرديات تتطلب العزلة، والاستدعاءات الطفولية لأساطيرها، وحكايات الجدات والأمهات، والجدود، والآباء، والخالات والعمات والجارات وأصدقاء الطفولة والمراهقة، هى عزلة انسحابية إلى عالم اللاوعى، ومكوناته، وتخييلاته، وتحميله همومًا وجودية معاصرة. هذا النمط من العزلة يجاوره ويتوازى معه عالم صدمة المدن المريفة لا سيما القاهرة، وتفاصيلها اليومية اللامحدودة، والضياع داخلها وفقدان الألفة، والتعمق، والغرق فى تفاصيلها، والاغتراب فى عوالمها وطبقاتها المختلفة المركبة، وهو ما يتطلب عزلة ما للكاتب لسرد تخييلاته القصصية والروائية.
فى الشعر المصرى المعاصر، تبدو صدمة المدنية فى ديوان الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى مدينة بلا قلب، وهى صدمة مستعارة من صدمة المدنية الأوروبية فى ظل الثورة الصناعية الأولى فى بريطانيا.
هناك عزلة تحتاجها الكتابة التى تتناول فى سردياتها التداخل بين عالمى الريف، والمدينة المريفة.
مثل هذه الكتابة التداخلية بين عوالم المدينة المريفة المتضخمة المنفجرة بالضياع، والألم، والإحساس باللا وجود فى قلب الضجيج، والتفاصيل، والأشياء، تحتاج إلى عزلة ما للكتابة!
فى عالم الما بعديات، واضطرابه، وسيولته، واللا يقين المحلق، ازدادت كثافة وغليان السيولة، واللا يقين مع بشائر عمليات التحول إلى عالم الثورة الصناعية الرابعة، والانفجارات الرقمية، والأناسة الروبوتية، فى ظل هذه الحالة الكونية المتحولة تبدو ملامح القطيعة المعرفية، بل والوجودية مع مراحل التاريخ السابقة بما فيها المرحلة شبه الانتقالية الراهنة بسيولتها، وصخبها الزاعق الكثيف الأصوات المليارية على الحياة الفعلية والحياة الرقمية! صخب كثيف، لمليارات الذوات الرقمية الملتاعة، الناطقة بخوف اللا وعى الكونى من مآلات التحول، وأثره على الوجود الإنسانى المهدد، بأفعاله، وبأسئلة جد مختلفة واستثنائية فى تاريخية هذا الوجود والوعى به، وبأسئلته! يمكن القول إن الوعى بخطورة هذا التحول الفارق على كافة الأصعدة، ربما لا شاغل وعى المليارات من الذوات العاديين الرقميين، إلا أن مشاغبات اللا وعى، قد تحمل بعضًا من هذه الأسئلة التى يعرفها قلة القلة من العقول الكبرى كونيًا على محدودية أعدادهم، وتخصصاتهم، من ثم تبدو عزلة الفعل المفكر والمبدع عند قمة الكونية انغلقت على مصيرها، ووجودها، تعبيرًا عن هشاشة الوجود وأسئلته الجديدة المختلفة فى حياتنا الكونية والتى تحتاج إلى أخيلة مغايرة محلقة فى عالم التحول، وما بعده، وتتابع تفصيلات التحول فى التقنية، والأناسة الروبوتية، ومآلاتها الكبرى على العقل الإنسانى، وعمليات التفكير، والإبداع!
السؤال الكبير هل نستطيع عقليًا وإبداعيًا الاستمرار فى سلطة النقل والابتكار والإبداع التقنى أن نسيطر على عالم الروبوتات؟ هل ستستمر العمليات التكفيرية، والتخييلية الإنسانية كما كانت فى ماضى الحياة الإنسانية؟ وإبداعاتها فى حقول الإبداعات السردية والفنية والسينمائية كما كانت فى عصر السينما والصورة، والفيديو، والفيديوهات الطلقة؟ هل يدخل الروبوت مجال الكتابة والإبداع بعيدًا عن الدور الوطنى لصناعه ومدخلاتهم فى الكتابة والإبداع فى المستقبل؟
أسئلة مختلفة، وتمثل أسئلة القطيعة مع عالم الما بعديات، وبشائر التحول إلى الثورة الصناعية الرابعة، الرقمية والذكاء الصناعى، وحلول الروبوت محل التفكير والفعل الإنسانى.
أسئلة صعبة جدًا، ومرجعها أنها تشكل أسئلة القطيعة، مع مألوف حياة الدول والمجتمعات الأكثر تطورًا فى حياتنا الكونية.
هل تشكل جائحة كورونا ١٩ المتحورة تأثيرًا نوعيًا فى حالة الكتابة لعزلة الكاتب؟
ما تأثير حالة التحول إلى عالم الأناسة الروبوتية وما بعدها على الكتابة والكاتب والعزلة؟
السؤالان السابقان، وما يتفرع عنهما من أسئلة أخرى يكشفان عن استثنائية حالة التحول وبشائرها، وعملياتها، فى تاريخ تطور الحياة الإنسانية الفعلية والرقمية، لأننا إزاء ملامح القطيعة مع المراحل التاريخية السابقة لعالمنا، وهو أمر يبدو من المنظورات التاريخية ومقارباتها أمرًا تاريخيًا، لأنه مع كل مرحلة من تطورات النظام الرأسمالى الدولى كانت تحدث تحولات فى بنية النظام، وعلاقاته، ومعه بعض الانقطاعات فى النظم المعرفية، والثقافية، والاجتماعية، وفى طبيعة السلطات السياسية والدينية، وفى أسئلة الشرط الإنسانى، والوجود.
منذ الثورة الصناعية الأولى، وصدمة المدنية أثر ذلك على الشعر والشاعر والكاتب، وولدت الرواية كجنس أدبى بارز، ابنًا للمدنية وتشكلاتها فى أوروبا، وتطور الشعر والرواية مع الثورة الصناعية الثانية، ومع الحربين العالميتين، الأولى، والثانية، ظهرت السيريالية، وأثرها الفكرى والفلسفى فى الفن التشكيلى- التصوير- النحت، وتطورت الفلسفة الوجودية والاتجاهات العدمية، وبشائر ما بعد الحداثة مع أرنولد توينبى، وبزوغ مصطلح ما بعد الإنسانية كأطروحة مستقبلية نبوئية لم تؤخذ على محمل الجد آنذاك!