تحولات الثقافة والمثقف فى عصر المابعديات والذكاء الصناعى والتحول إلى ما بعد الإنسان «1-3»
يبدو لى من خلال متابعة الحقل الثقافى المصرى، وفى العالم العربى والعوالم المتقدمة أن عمليات التغير السريعة بل وفائقة السرعة، تشير إلى ظاهرة بعضها مألوف، وبعضها الآخر جد غير مألوف، وصاعق فى تعبيره عن حجم التغير والتحول الاستثنائى فى التاريخ الإنسانى كله.
المألوف أن التحول وعمليات القطيعة مع ما هو سائد، بعضها نتاج للثورات التقنية من الثورات التكنولوجية الأولى إلى الثانية والثالثة التى أثرت فى أنماط الإنتاج، ومنظومات القيم والسلوك الاجتماعى فى مجتمعاتها، ومعها الثقافة السائدة، وتساهم فى ذلك أيضًا المدارس الفلسفية، والأدبية ونظريات العلوم الاجتماعية والقانونية وهندساتها، فى التنظيم والضبط الاجتماعى، وفى المفاهيم، والنظريات المختلفة، فى العلوم الإنسانية.
كانت التقنيات ولا تزال مؤثرة فى الاقتصاد والإنتاج بل فى النظم السياسية والأحزاب وفى الدين وأنماط التدين، أو الخروج عليه، وعلى التدين الوضعى، وعلى السلطات الدينية، وأيضًا فى الثقافة، وفق معناها الأنثربولوجى العام، وفق المفهوم التايلورى. كان التغير التكنولوجى يسبق التغير فى الفلسفة، والقانون، والاجتماع والفنون والأدب، والمسرح والفنون التشكيلية مع أثر التكنولوجيا على الحياة اليومية.
من هنا كان التحول يحدث فى الاقتصاد، والإنتاج والصناعة والزراعة، وينعكس على الحياة الاجتماعية، ومن خلال التفاعلات الاجتماعية، مع التغير وانعكاسه عليها تتشكل من خلال الفعل الاجتماعى والفعل السياسى ظواهر اجتماعية جديدة، بالإضافة إلى بعض الموروثات الاجتماعية التى تظل مستمرة، إلى حين أفولها، مع رسوخ المتغيرات الجديدة. من ثم كانت الثقافة تشهد تغيرات وظواهر جديدة مع استمرارية للسابق.
كان المفكر والمثقف والفنان والفيلسوف وعالم الاجتماع والقانون والسياسة، يوظف الأطر النظرية والمناهجية السابقة فى دراسة الظواهر الجديدة. كان بعضها يلعب دور التفكيك والتحليل والتفسير والنقد، والهدم للسائد والمسيطر من أفكار، وبعضها الآخر يهدم الأبنية الثقافية السائدة من أجل إحداث قطيعة معها، ثم تتبلور مفاهيم ونظريات وآلة اصطلاحية جديدة لتحليل الظواهر الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية والأدبية والفنية. من هنا ظهرت القطيعة المعرفية. كان ذلك يحدث فى الموسيقى والمدارس الفنية، وفى الفلكلور، حيث تعاد صياغتها فى بعض الأشكال الجديدة لتتناسب مع التحولات الاجتماعية، وفى المسرح، والسينما والغناء، والفنون التشكيلية والآداب، وفى المدارس والنظريات وأساليب المقاربة والتحليل. الفجوة بين الواقع المتغير وبين النظرية والمفاهيم والمصطلحات كان يؤدى إلى استخدام المنظومات التحليلية السائدة إلى أن يحدث القطع معها. كانت عمليات التحول إلى القطيعة مع السابق، تأخذ فترات زمنية لكى تحدث عمليات التكيف وإبداع مفاهيم، ونظريات جديدة تستطيع فهم الظواهر الجديدة وغير المألوفة على كافة مجالات الثقافة العامة، وفق التعريف الواسع الأنثروبولوجى، ومع الثقافة العالمة Savante، أى الثقافة الرفيعة، والمتخصصة، التى ينتجها كبار الفلاسفة والمفكرين والعلماء فى العلوم الاجتماعية والقانونية على اختلافها وتعددها، ظلت هذه الحالة المابعدية، مع كل الثورات التكنولوجية الثلاث الكبرى، من هنا ظهرت نظريات ما بعد الحداثة فى التاريخ مع إطلاق توينبى هذا المصطلح فى الأربعينيات، حتى إيهاب حسنى وآخرون فى الأدب، والفلسفة مع جان بودليار وفى العمارة... إلخ. مع انهيار النظريات ما بعد الحداثية، ظهرت ما سبق أن أطلقت عليه عصر المابعديات والسيولة، الذى يجمع ما بين الماسبق المستمر، والجديد الذى لا يزال سائلًا فى القيم والأخلاقيات والصداقة والحب والجنس والأسرة والزواج والعلاقات الموازية، وهو ما استطاع ببراعة عالم الاجتماع البريطانى من أصل بولندى زيجمونت باومان فى كتبه عن عالم السيولة أن يوصف ويحلل عوالم السيولة، إلا أن مرحلة السيولة لا تزال مرحلة انتقالية ريثما تتبلور وتتشكل الظواهر الجديدة، فى عالم السرعة الفائقة، حيث بدأت مؤشرات التحول من خلال الثورة الرقمية السريعة، وبدايات الذكاء الصناعى، وعالم الروبوتات، من هنا تبدو ملامح تحول جذرى نحو القطيعة مع العالم الحديث وما بعده، وما بعد بعده، والرقمنة مع الذكاء الصناعى، نحو عالم مختلف، وشرط مغاير وجوديًا للإنسان فى الوجود والحياة.
مع التطور المذهل فى عالم الرقمنة، والانتقال إلى مرحلة التفاعل بين الرقمى، والفعلى، تبدو مؤشرات التحول إلى عالم الأناسة الروبوتية، ثم إلى مرحلة ما بعد الإنسان فى الطريق إلى هاتين المرحلتين الفارقتين فى تاريخنا، تثور عدة أسئلة، أولها: حول الوضعية الإنسانية فى تحولاتها فى وجودها، وطبيعتها، وفعلها فى الحياة، وأنماط تفاعلاتها.
ثانيها: أثر عمليات التحول المابعدية السائلة على الثقافة والمثقف فى عالمنا؟
أدت التغيرات المناخية وظاهرة الاحتباس الحرارى إلى طرح أسئلة حول علاقة الإنسان بالطبيعة، التى اتسمت بالاستغلال المفرط، لا سيما فى ظل تحولات النظام الرأسمالى الكونى، فى مرحلته النيوليبرالية المتوحشة، على نحو أدى إلى اختلالات جسيمة وخطرة على الحياة الإنسانية.
من ناحية أخرى، ظهور ردود أفعال طبيعية إزاء هذه الاختلالات من خلال ظواهر الاحتباس الحرارى من ناحية. من ناحية أخرى ظهور الفيروسات المتحورة، مع فيروس كوفيد ١٩ المتحور الذى كشف عن أن الحياة الإنسانية حول الأرض ليست قصرًا على الإنسان كفاعل اجتماعى وسياسى، وأن ثمة كائنات فيروسية، غير معروفة، لديها ردود أفعالها على التوحش الإنسانى والاستغلال إزاء الطبيعة.
من هنا تبدو الأنظمة والسياسات الصحية فى عالمنا فى مأزق كبير فى مواجهة الجوائح على نحو ما ظهر فى جائحة كورونا المتحورة. لا شك أن التحورات الفيروسية تشير إلى مخاطر محتملة لجوائح فيروسية أخرى لا تزال غامضة، لكنها تمثل خطرًا ربما وجوديًا على الرغم من تطورات العلوم الطبية والعلمية المهمة والسريعة.
لا شك أن المخاطر الطبيعية، والبيئية الناتجة عن الاختلالات البيئية، سوف تؤثر على مسارات تطور الثقافات الإنسانية على تعددها، وتنوعها الكونى، وذلك لأن ثقافات العالم التى تشكلت عبر المراحل التاريخية ومواريثها، ودرجة تطور مجتمعاتها تقنيًا، وعلميًا وقيميًا، تعبر عن تفاعل المجتمعات الإنسانية على بيئاتها، والطبيعة والعلاقة بين الوضعى، والميتا وضعى والأسطورى والأخلاقى والقيمى... إلخ. من هنا سيؤثر التغير البيئى، واعتلالاته واختلالاته، إلى بروز أشكال جديدة بالتفاعل بين الإنسان والبيئة، حيال ما إذا كان التعايش والتكامل لم يؤثر تأثيرًا خطيرًا على الحياة والعمل الإنسانى، على نحو يؤدى إلى زوال مناطق معينة فى جغرافيا العالم وأقاليمه الجوسياسية، والجوثقافية، والجودينية.
لا شك أن التغيرات البيئية ستساهم فى تحولات ثقافية حال استمرارية الاختلالات، والجوائح الفيروسية، والأمراض الناتجة عنها، على نحو ما تم فى ظل جائحة فيروس كورونا المتحور، من تباعد اجتماعى، وإغلاق جزئى وشامل ووقف السفر إلى بعض البلدان التى اجتاحها الفيروس، وإعلان حالة الاستثناء الطوارئ، والرقابات الرقمية... إلخ! لا شك أن بعض التكيف مع هذه الإجراءات وعسره فى بعض الأحيان، ورفضه فى أحيان أخرى، أدى إلى بعض من التغير فى السلوك الاجتماعى فى الدول الأكثر تطورًا فى عالمنا، وذلك على الرغم من العودة التدريجية لبعض مألوف الحياة اليومية، كنتاج لاكتشافات بعض اللقاحات فى مواجهة الفيروس المتحور وإلى الإنتاج الذى تدفع نحوه الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة.
إن أسئلة الشرط الإنسانى بدت معلقة فى الأفق الكونى، لكن الإجابات عليها فلسفيًا، ودينيًا لا تزال معاقة ومترددة ومفتوحة على مصراعيها بالنظر لأن طرحها وبعض الإجابات عليها يحتاج إلى بعض الوقت، خاصة أن الإجابات ستؤثر على ثقافات العالم المتعددة، حال تبلورها، وطرحها والنقاش حولها، وتمددها كونيًا.
لا شك أن ردود الطبيعة على مفهوم الاستغلال الإنسانى والرأسمالية المتوحشة - النيو ليبرالية - ستؤثر على الثقافة من حيث العلاقة مع الطبيعة، ليس بوصفها موضوعًا للاستغلال والانتهاك، وإنما من حيث كونها فاعلًا مؤثرًا على الفعل الإنسانى، خاصة فى حال استمرارية هذا المفهوم، وتزايد نسب الاحتباس الحرارى، سيؤدى ذلك إلى اختلالات مناخية تؤدى إلى تغيرات مناخية، تغير من بعض الخرائط الجغرافية فى بعض البلدان، والمناطق الجوسياسية.
من ناحية أخرى، لن يعود الإنسان مركز الوجود فى الفلسفة وفى الفكر قبل التغير فى بنى الأفكار الموروثة مع الحداثة، وما بعدها. لا شك أن ذلك سيؤثر على الحالة الدينية فى عالمنا، بكل مكوناتها الدينية، والمذهبية، خاصة مع التحول إلى عالم الأناسة الروبوتية، وما بعد الإنسانية.
لا شك أن المكان والبيئة ودرجات الحرارة ساهمت ولا تزال كمحددات للثقافة فى كافة المراحل التاريخية، من حيث أثرها على الجماعات الإنسانية على تعددها، وتمايزها العرقى، وعلى بناء القوة داخلها وأيضًا على تشكل عاداتها، ونظامها القيمى، ونمط إنتاجها أيًا كان. الأمكنة / المكان / البيئة / درجات الحرارة، تساهم بفعالية تاريخيًا فى تشكل ثقافة الجماعة، بل وفى تشكيل تراثها المادى والمعنوى والرمزى، وكذلك علاقاتها بالميتا وضعى، والأساطير والعلاقة مع الآلة، أيًا كان وضعيًا من صنع مخيلات وأساطير الجماعة أو الله سبحانه وتعالى فى الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام - أو الآلهة عبر الزمن، وتطور هذه المجتمعات وتشكلات مخيالها الجمعى، وذاكرتها: المكان/ الطبيعة/ الإنتاج/ الأعراف/ الرموز/ الأساطير/ القيم التى تشكلت عبر التفاعل بين الإنسان والجماعة والمكان والطبيعة/ المناخ، شكلت ثقافة الجماعة التى هى ثقافة المكان والبيئة/ المناخ. من هنا التمايزات بين الأمكنة الزراعية والبدوية، وأثرها على التفاعلات الاجتماعية داخل الجماعة، بين القرية والبادية إلى المجتمعات الحضرية، حول نشأة المدن، وأشكال الإنتاج داخلها، إلى ظهور الرأسمالية ونمط إنتاجها، والصناعة مع الثورة الصناعية الأولى، ومخاضاتها، وانتقال بعض العمالة من الأرياف إلى المدن، والانخراط المؤلم والقاسى فى العمل بالمصانع، تشكلت المدن الحديثة، وتطورت فى فضاءاتها وأنشطتها الإنتاجية، والعلاقات الإنتاجية مع الرأسمالية والثورة الصناعية الأولى، وتنظيم المدينة وفضاءاتها المعمارية والعلاقة بين الأنسجة المعمارية والفراغات مع التحديث المادى، والحداثة، والثورتين الصناعيتين الثانية والثالثة، تطورت نظم الإنتاج والعلاقات الإنتاجية والتطور العلمى والتكنولوجى وأثره على تطور المجتمعات الأكثر تطورًا فى شمال العالم. مع فلسفة الأنوار، والنظم السياسية الديمقراطية، والدولة/ الأمة/ والتمايز بين المجتمع المدنى والدولة، وميلاد الفرد والفردانية، وثقافة الحريات العامة والشخصية.
المكان/ البيئة/ الطبيعة، شكلت أهم العوامل فى تطور بعض المجتمعات أو ثقافتها أو انعزالها، بل وساهمت وساعدت فى فرض بعض أشكال الحكم والغلبة وكرست الثقافة السياسية السائدة من الحكم القبلى والعشائرى إلى ثقافة الاتباع أو الإبداع على نحو ما نلاحظ فى بعض البلدان والمجتمعات قبل المراحل الكولونيالية فى إفريقيا، وفى العالم العربى ثم حدثت بعض التحولات فى ظل الحكم الكولونيالى. البريطانى، والفرنسى، والإيطالى، والبرتغالى وفوائض المواريث الإدارية، والمؤسسية الموروثة عن الكولونيالية: أيضًا لا شك أن الوضعية الجيوسياسية، وموقعها وموضعها على خرائط أماكن العالم، يجعل ثقافتها منفتحة أو منغلقة إلى حد ما عن تطوراته، وأزماته السياسية فى أعقاب ما بعد الكولونيالية، والتحرر الوطنى، بدا ثمة انفتاح على قضايا الاستقلال الوطنى، والتحرر فى السعى إلى طرق جديدة للتنمية، ثم سرعان ما انهارت، وأدت إلى التبعية وازدياد التخلف الحضارى.
أدى انهيار نماذج التنمية التى اعتمدت على رأسمالية الدولة الوطنية، وبعض الطرق اللارأسمالية باستثناء آسيا الناهضة إلى العودة إلى الطريق الرأسمالى، مع النيوليبرالية الوحشية والاستغلال المفرط للطبيعة وثرواتها ومواردها الأولية للبلدان الفقيرة، والمتوسطة، اهتداءً بالدول الكبرى الأكثر تطورًا فى شمال العالم، واستغلال ثرواته الطبيعية بتواطؤات من نخبة السياسة الحاكمة التابعة. لا يقتصر الدور الملوث للبيئة والطبيعة، والاحترار الإيكولوجى قصرًا على الدول الرأسمالية الكبرى فى شمال العالم، وإنما امتد إلى دول آسيا الناهضة حول الصين وكوريا الجنوبية، وسنغافورة وماليزيا، والهند... إلخ! لانتهاج هذه الدول فى صعودها ذات الممارسات النيوليبرالية الغربية.
من هنا ارتكزت عمليات الاستغلال الوحشى للطبيعة على طبيعة الرأسمالية الكونية، فى مرحلتها النيوليبرالية وسيطرتها على العالم، ومن ثم على ثقافة مركزية الإنسان فى الكون والطبيعة التى تناسلت من الفكر الفلسفى الغربى. لا شك أن ثقافة الحداثة، والحداثة العليا - بتعبير هابرماس - التى شكلت الآفاق الثقافية الكونية - فى ظل تعدد الثقافات التى استلهمت الحداثة أساسًا، طريقًا للانعتاق من أصفاد التخلف التاريخى البنيوى المركب فى جذوره ومجالاته وأبعاده المختلفة. لا شك أن لا مبالاة بعض النخب السياسية الحاكمة ما بعد الكولونيالية، على اختلاف توجهاتها لم تكن على درجة من الوعى العلمى والسياسى، بأثر استغلال المواد الأولية، وعمليات توطين الصناعات الملوثة للبيئة بين الدول الأكثر تطورًا فى الدول المتخلفة والنامية فى آسيا، وإفريقيا، منذ عقود الستينيات والسبعينيات وما بعد فى هذه البلدان وأثرها على التلوث البيئى والانبعاث الحرارى، وأثره على النظام البيئى فى هذه البلدان وعلى المستوى الكونى، سعيًا وراء النمو الاقتصادى فى إطار رأسمالى نيوليبرالى.
ما أثر ذلك على الثقافة بمعناها العام الذى يمس القطاعات الاجتماعية الواسعة فى هذه البلدان؟
تشكل ثقافة الغذاء من حيث مكوناته وذائقته، وطرائق عمله الموروثة، أو المستجدة جزءًا من الثقافة الوطنية فى بلدان عالمنا، لا شك أن البلدان كثيفة السكان مع التفاوتات الاجتماعية، والانقسامات الطبقية الواسعة، تجعل الأغلبيات الشعبية المعسورة تركز على المأكولات الشعبية، ذات المكونات الأولية البسيطة، من الأرز والدقيق والتوابل، وبعض بقايا الطيور والحيوانات الأليفة والجارحة والأسماك وغيرها من مكونات الطبيعة. الاعتماد فى إعداد هذه الوجبات على الطعم الذى يتم إضفاؤه على الوجبات ونوعية الطعام. بعض أساليب الطبخ موروثة، وبعضها مستجد، أو تطوير لطعم هذه الأكلات.
لا شك أن استخدام بعض الحيوانات والطيور والأسماك - أيًا كانت أنواعها- يؤدى إلى إيجاد خلل فى التوازن البيئى بين مكونات الطبيعة، وبين الإنسان فى هذه المناطق، وذلك لصالح ثقافة المطبخ التى ترمى إلى إطعام الغالبيات الشعبية المعسورة. مع تطور الأوضاع الاقتصادية، تظل تقاليد المطبخ سائدة، مع إدخال أضعاف جديدة تتماشى مع الذائقات السائدة فى هذه الأوساط الاجتماعية المعسورة، دونما نظر إلى بعض مخاطر هذه المكونات فى ثقافة المطبخ على التوازن البيئى، ويؤدى ذلك إلى استمرارية بعض مكونات الخريطة المرضية للأمراض السائدة، وبروز أمراض جديدة، وذلك على نحو ما أشر إلى بعضه عن العلاقة بين بعض مكونات الأكل، ونقل فيروس كورونا المتحور فى الصين كإحدى فرضيات نشأة المرض، وانتشاره الوبائى كجائحة فى عالمنا.
فى ظل الأديان والأساطير والرموز الوضعية السائدة فى هذه البلدان - البوزية والهندوسية والهندوكية... إلخ - تبدو مسألة العلاقة بين الإنسان والطبيعة فرعية مقارنة بين العلاقة بين الإنسان، والآلة الوضعية، من ثم لا تدخل الطبيعة ضمن العلاقة المباشرة، مع الآلة، حتى فى ظل الأديان السماوية، لأن الرب، أو الله، العلاقة مباشرة فى الإسلام، لأن الرب خالق الكون وكل شىء - وأنماط التدين الشعبى القدرى تجعل الطبيعة وتحولاتها هى جزء من هذا الإدراك الشعبوى السائد، من ثم لا تألو بالًا بتحولاته الطبيعية أو الحفاظ عليها.
فى المسيحية الكاثوليكية والإنجيلية، ثمة وسيط يلعب أدوارًا وظيفية، وغالبًا ما يكون جزءًا من خطابات بعضهم توظيف التدين الشعبى السائد، ومن ثم يستخدمونه فى الوعظ والإرشاد الدينى، ومن ثم يميل بعضهم مع هذا التوظيف نسبيًا للتدين الشعبى السائد، وإلى الخلفيات الدينية الماورائية التى كانت سائدة قبل الكاثوليكية، والبروتستانتية، خاصة أن غالب الأكليروس فى هذه البلدان من بين أبنائها.
فى بعض اللحظات التاريخية المعاصرة ومع بروز أزمة المناخ تنبّه بعض رجال المؤسسات الدينية إلى أهمية مواجهة المشكلة، بعد أن أصبحت جزءًا من اهتمامات النظام العالمى، ودوله، ومنظماته الدولية، إلا أن الملاحظ أن الأسئلة التى يطرحها التغير المناخى والاحتباس الحرارى، والفيروسات المتحورة- كورونا وتحوراتها- لم تزل مسكوت عنها من قِبل المؤسسات الدينية الكبرى، والوطنية- أيًا كانت دياناتها ومذاهبها ولاهوتها وفقهها، ورجال الدين الرسميين، وغيرهم! وهى أسئلة تمس الأساس الميتاوضعى للدين كعقائد، ناهيك عن أنماط التدين الشعبى حول كل دين. من هذه الأسئلة مركزية الله سبحانه وتعالى- والرب.. إلخ فى المسيحية فى الكون بوصفه الخالق لكل الكائنات والأشياء الأول، والمحيى والمميت، وهو على كل شىء قدير فى المعتقد الإسلامى! والسؤال الثانى فى ظل الثورة الجينية، والاستنساخ البشرى، والحيوانى ومآلاته المستقبلية!
السؤال الثالث: فى ظل التحول إلى مرحلة الأناسة الروبوتية مع الذكاء الصناعى، والدور المتعاظم للروبوتات فى التنظيم والتفكير، والعمل مع الإنسان! هل الروبوتات، بوصفها آلات، ذكية، تفكر، وتعمل من خلال التنظيم الإنسانى فى مراحلها الأساسية، ثم تحولاتها إلى التفكير الذاتى دون مدخلات معلوماتية بشرية، هل هذه المرحلة ما دور الدين فى الضبط الاجتماعى، والضبط السياسى فى بعض البلدان لا سيما الإسلامية؟ ما دور رجل الدين ومؤسساته الرسمية ولاهوته، فى ظل أداء بعض الروبوت هذه الوظيفة بكفاءة؟ ما مستقبل هذه المؤسسات الوظيفى؟
بعض هذه الأسئلة ظهرت مع الاستنساخ الحيوانى، الذى وقفت المؤسسات الدينية الكبرى فى عالمنا ضده، وأيضًا إزاء الاستنساخ البشرى، الذى قاوموه بشدة وحزم ووقفوا مع الدول فى منعه، لكن كما هى العادة تتم التجارب العلمية الكبرى فى سرية- على نحو ما يتم فى آسيا- قبل الإعلان عن نجاحاتها بعد عديد التجارب كما حدث تاريخيًا فى التطور العلمى.
الأخطر أن هذه الأسئلة ستزداد مع التحول إلى ما بعد الإنسان، سيطرح موضوع مكونات الديانات والعقائد.
من ناحية أخرى مع التحولات إلى الذكاء الصناعى والثورة الصناعية الرابعة سوف تزداد عمليات التحول من الاعتقاد الدينى إلى الإلحاد، أو إلى اللاأدرية خاصة فى بعض المجتمعات العربية الإسلامية، بل وداخل بعض الأقليات المسيحية، أو إلى أديان ومذاهب أخرى داخل الدين، ولا تزال الخطابات الدينية السائدة تعيد إنتاج ذاتها، وإيمانها المطلق بسردياتها وخطاباتها الوضعية التاريخية النقلية. نستطيع ملاحظة أن ثمة بعض التغيرات اللاهوتية فى الإطار البروتستانى، والكاثوليكى بعد مقررات المجمع الفاتيكانى الثانى، ومع البابا فرنسيس- الذى ولد باسم خورخى ماريو بيرجوليو البابا السادس والستين بعد المائتين من ١٣ مارس ٢٠١٣- القادم من عالم لاهوت التحرير الأمريكى اللاتينى، بابا الفقراء.
المرجح أن صدمة عالم الرقمنة والذكاء الصناعى والأناسة الروبوتية، ستؤدى إلى حركية ما فى اللاهوت والفقه، وستؤدى إلى نهاية رجل الدين التقليدى النقلى، وستتقوض المؤسسات الدينية التعليمية الموروثة لصالح أشكال جديدة فى التعليم الدينى، مع بعض الاستمرارية لأشكال من التدين الموروث القلقة، وسط بعض الفئات الميسورة فى مجتمعات جنوب العالم، لا سيما كبار السن، وبعض الشباب من الميسورين فى الأرياف وهوامش المدن.. إلخ.
لا شك أن هذه التغيرات ستؤثر على أحد مكونات الثقافة وفق التعريف التايلورى الواسع، وهى المعتقدات والرموز الدينية، وموروثاتها وتفسيراتها وتأويلاتها. فى المرحلة الما بعدية- بين الما قبل وما الما بعد بين السائد من موروث ما بعد الحداثة أو الحداثة العليا وفق هابرماس إلى ما بعد بعدها إلى مرحلة الذكاء الصناعى، ومؤشراتها وتقنياتها- ستكون مرحلة مخاضات عنيفة فى الأفكار، ورفضها ويمتد العنف الرمزى إلى السلوك الاجتماعى لجماعات المؤمنين، وتبدو مظاهر الغلو الدينى الناتجة عن رهاب الخطر المهدد للمعتقدات الدينية الوضعية الموروثة والسائدة وتأويلاتها القديمة والجديدة.
السؤال الذى نطرحه هنا أين نحن مصريًا وعربيًا من هذا التغير والتحول القطعى مع عالمنا، الذى كنا نحاول أن نلهث وراء تطوراته وأخفقنا؟
حالنا الدينى/الثقافى فى وضعية مأزومة من حيث جمود الفكر الدينى النقلى الوضعى، وحامله المؤسسى، والجماعاتى، ناهيك عن اختراق الفقه النقلى المتشدد والطقوسى الشكلانى على السلوك الاجتماعى، وعلى الفعل والاعتقاد الدينى الإسلامى، واللاهوتى الأرثوذكسى وعجز السلطات الدينية عن ملاقاة عصور متغيرة.
التداخل بين أنماط التدين الرسمى السلطوى لرجال المؤسسة الدينية، والسلفيين والإخوان المسلمين، وتدين الراديكاليات الإسلامية الأخرى، تداخل مع التدين الشعبى، وتشكُل نمط من التدين العنيف الشكلانى الطقوسى الاستعراضى، وأقنعته وتجاوزه التدين الفردى الأكثر عمقًا، وتداخلت المرويات والأساطير، والثقافة الشعبية، وسرديات الأصول الدينية التأسيسية والتاريخية، فى خلطة أدت إلى التغير فى أنماط التدين الشعبى، وبعض الاعتدال الدينى، باتت الإقصاءات لا تشمل المغاير دينيًا، بل والمغاير مذهبيًا داخل ذات الدين، بل وإلى المؤمن بذات الدين الذى لا يساير الذوات الجمعية الأخرى. ناهيك عن أنماط التدين الرقمى الاستعراضى الجديدة التى تداخلت مع هذه الأنماط الجديدة، وأثرت فيها، وفى مساراتها واستعراضاتها المختلفة. أصبح الاستعراض الدينى الرقمى، والفعلى قناعًا يخفى الازدواجية والمخاتلة حول الذات الحقيقية، وسلوكياتها ومضمراتها الخفية فيما وراء الاستعراض الدينى القولى والسلوكى وفى نظام الزى للمرأة، واللحى وتديين اللغة اليومية.
لا شك أن ثقافة الاستعراض الدينى باتت تعبيرًا اختزاليًا عن هوية الفرد، وأيضًا من مخاضات التغير الاجتماعى العسيرة، والمؤلمة، من تفكك النظام الأسرى وتراجع المنظومات القيمية السابقة الحضرية المزيفة أو الريفية المخلطة بالحضرية فى الأرياف والبوادى على خصوصية الأخيرة، فى مطروح وأولاد على، وسيوة والواحات الداخلة والخارجة وفى مناطق حياة النوبيين بجنوب الوادى. بروز بعض العلاقات خارج الزواج، والطلاق المتزايد، والعلاقات الموازية، والعنف الأسرى والخيانات الزوجية، والعلاقات الحرة دونما زواج بين بعض من أبناء الأجيال الجديدة. التغير فى مفاهيم الصداقة من الواقعى إلى الصداقة الرقمية، ومن مفهوم زمر الرفاق الفعلية إلى زمر الرفاق الرقمية والتداخل بين كليهما فى بعض الأحيان، تزايد حالات الخيانات الزوجية على نحو غير عادى مع عمليات التنصت من بعض الأزواج على بعضهم فى المكالمات وعلى الرسائل.. إلخ. ظواهر جديدة تحتاج إلى درس وتحليل إمبريقى لا يزال غائبًا عن البحث الاجتماعى، من ناحية أخرى أدى تدهور الأوضاع الاقتصادية والبطالة، وعسر الحياة، وارتفاع معدلات التضخم إلى تحريك مستويات ومؤثرات العنف الاجتماعى، والأسرى، وكلها تعبيرات عن بعض من انفصال السياسة والنخب السياسية الحاكمة، عما يجرى فيما وراء السطوح المجتمعية، وشكلياتها، ومظاهرها، وبعض طقوسها، وبين حنايا المجتمع وفئاته الاجتماعية المختلفة، وبما يؤثر على الثقافة بالمعنى التايلورى العام.