«صلاح فضل بخط يده».. صديقي المؤرخ الذى وشى بي عند السفير
تحدث الكاتب الصحفي إبراهيم عبد العزيز عن تفاصيل يوم من حياة الدكتور الراحل صلاح فضل وكيف طلب منه إبراهيم عبد العزيز الكتابة في هذا الأمر فكتب الأول بخط يده يصف يوما من حياته.
وفي المقدمة التي كتبها إبراهيم عبد العزيز يقول:" حكى لي الروائي محمد جلال، وكان صديقا لوزير الثقافة فاروق حسني، حتى قبل أن يكون وزيرا، أن د. صلاح فضل طلب من الوزير أن يوليه منصبا ثقافيا، وقد استجاب الوزير وعينه مديرا لدار الكتب والوثائق القومية، وقد أراد القيام بعمل بارز يحسب له، فطلب مني أن أطلب من نجيب محفوظ بعض أوراقه ومتعلقاته الشخصية لإقامة متحف بدار الكتب للأديب الكبير، ورغم ما كنت أعرفه عن محفوظ أنه عازف عن مثل هذه الأمور، إلا أن الأمانة كانت تقتضي أن أعرض الأمر عليه، فاعتذر بأنه لا يحتفظ بشئ من متعلقاته أو أوراقه، لأنه "ممزقاتي كبير" – قالها ضاحكا. ورغم المناصب التى تولاها د. صلاح فضل إلا أنها قد نسيت كما تنسي في حياة أي مبدع حقيقي، باعتبارها أمرا عارضا، ولكن تبقى القيمة الحقيقية لقلم المبدع ، فهو به رئيس نفسه ، وقد ظل راحلنا الكبير قيمة أدبية ونقدية ومجمعية، وحينما طلبت منه أن يحدثني عن يوم من عمره لا ينساه ، حسبته سينتقي مناسبة أدبية تتفق وسيرته ومسيرته ، ولكنه شأن المبدعين الحقيقيين تكون بلدهم بحاضرها ومستقبلها هي شغلهم الشاغل، وهكذا كان د. فضل الذى لم يستطع ككل جيله أن ينسي أقسي لحظة مرت بها مصر ، وهي نكسة 5 يونيو 1967، ولكن نكسته الشخصية كانت فادحة حينما وجد أن صديقه المؤرخ يشي به لدي السفير المصري فى مدريد أثناء بعثته هناك ، المفارقة أن هذا المؤرخ نفسه تحول بعد ذلك لمهاجمة النظام الذى كان يعمل لحسابه بعد أن ذهب زعيمه، وكتب مقالا شهيرا بمجلة "أكتوبر" يهاجم فيه ثورة يوليو بعنوان "ذهب ملك وجاء أحد عشر ملكا"، مما جعل الرئيس مبارك يستاء وقتها ويتحدث إلى أنيس منصور رئيس التحرير آنذاك ، ووعد بتنبيه المؤرخ بألا يشتط ، ولكن مبارك طلب منه ألا يفعل ، فقط يرد عليه ، ومن ثم استكتب أنيس اللواء جمال حماد ليصبح بعد ذلك مؤرخ الثورة، تلك الثورة التى رفعت آمال جيل د. صلاح فضل إلى عنان السماء ، حتى جاء اليوم الأصعب، وهو ما يتناوله فى هذه السطور التى كتبها بخط يده يوم 18 أغسطس 1996.
أما التفاصيل كما كتبها الدكتور صلاح فضل فيقول فيها: "عودتني الكتابة النقدية على تغييب الذات، وإخفاء ضمير المتكلم حتى يطمئن القارئ إلى موضوعية التناول ، وكبح جماح مشاعر الهوى الشخصية، كما عودتني على النفور من مدح الذات والميل إلى التأمل النقدي فيها .
واليوم الذى أريد أن أتوقف عنده من عمري هو أحد تلك الأيام القليلة التى امتزج فيها بشدة العام والخاص، الوطني والشخصي فى لحظات فائقة هي التى تصنع خبرتنا بالحياة ووعينا بالتاريخ.
وربما كان أبناء جيلي ممن عاشوا شبابهم فى ظل ثورة يوليو هم أكثر من عانوا من التقلبات السريعة وإيقاعها المتلاحق، فقد طارت نفوسنا فرحا عندما حمل السوريون سيارة عبد الناصر على أكتافهم فى شوارع دمشق، وظننا أن حلم الوطن العربي الكبير قد أصبح وشيك التحقق، بمقدار هذه البهجة الطاغية طفرت الدموع من عيوننا ونحن نسمع أنباء الانفصال، ولم نختلف على ضرورة التضحية فى حرب الجزائر واليمن، وأذكر أنني عقب ترشيحي للبعثة إلى فرنسا، وإلغائها نتيجة لعدم توفر العملات الصعبة، دخلت فى مناقشة حادة مع صديق لي كان يتردد على ندوة العقاد ويسمع نقده اللاذع لرجال السلطة، فانبريت للدفاع عما يحدث حفاظا على الحلم القومي الجماعي.
وكنت أحسب أنني أتجاوز مصلحتي الشخصية لأشترك فى تضحية وطنية، عندما أسافر إلى إسبانيا على منحة ضئيلة ، وأسارع باتخاذ إجراءات السفر خوفا من أن تمتد إلى يد الاعتقال، بتهمة الانتماء لليسار أو اليمين.
كان همي أن أحقق مشروعي فى الرحلة إلى الغرب واغتراف العلم والنور من فضائه الرحيب.
لكن اليوم الذى أريد أن أتوقف عنده مليا كان من أفدح أيام يونيو عام 67 ، كنت حينئذ قد استطعت فى مدريد أن أتابع الصحف ووكالات الأنباء العالمية ، وهي ترصد بدقة متناهية انتهاء الحرب فى الساعات الأولى ، وأن تصور احتلال إسرائيل الكامل لسيناء ، ونزول الجنود للاستحمام فى مياه قناة السويس.
وصدرت صحيفة a b c الإسبانية الشهيرة وعلى صفحتها الأولي صورة عبد الناصر، وكتبت: "تحتها الرجل الذى قال لشعبه كفوا عن التفكير". وأوجعتنا الكلمات وتعلقنا بحبل الأمل فى الخطاب الذى أعلن عن موعد إلقائه، وذهبت مع عدد قليل من المبعوثين المصريين لمقر المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد ، وهو ذاته المقر الذى كان يديره حينئذ المؤرخ الكبير الدكتور حسين مؤنس .. ذهبنا للاستماع معا إلى الخطاب الموعود من جهاز الراديو الكبير الذى يملكه المركز ، وتعلقت أبصارنا بصوت القائد والزعيم وهو يعلن بنبرة متهدجة المفاجأة التى لم يكن ينتظرها.. كنت حينئذ أتصفح جريدة "الأهرام" الصادرة يوم 4 يونيو والتي وصلت المركز لتوها، والمانشيت العريض فيها "اقتربت ساعة الصفر" .. فتجلت لي المفارقة المدهشة بين الكلام والحقائق العينية ، وكانت المفاجأة أنهم جاءوا من الاتجاه العكسي غير المنتظر، فإذا كانت الحرب خدعة وأنت الذى أعلنت الحرب عمليا بطلب سحب قوات الأمم المتحدة وإغلاق المضايق البحرية .. فلا معنى لهذا الكلام.
واستقر فى نفسي أن هذا الانهيار المدوي قد أحدث كسرا لا يجبر فى نفس كل مصري ، فعدت إلى مسكني لأخبر زوجتي بما حدث ، وأطلب منها أن تستعد لمغادرة الشقة المشتركة بيننا وبين زميل من "بيرو" بأمريكا اللاتينية يدرس للدكتوراه معنا، إذ كثيرا ما كان يعيرنا أثناء الحرب بأن العرب لا عذر لهم فى الهزيمة ، فهم دول منتجة للنفط ، تستطيع أن تترك طائراتها فى السماء ليلا ونهارا بالتناوب، وأننا سننقرض مثل هنود أمريكا اللاتينية.
كان الإحساس بالخزي والعار يطغي علي ، وأريد أن أهرب من أي إنسان أعرفه . ودق جرس التليفون فى المساء لأجد المستشار الصحفي للسفارة المصرية ، وكان رجلا نبيلا يستعين بي فى بعض أعمال الترجمة لتقديم صورة مشرفة لمصر، لأجده يعاتبني بشدة لتهوري فى التعليق على خطاب الرئيس، وأن كلامي قد نقله الدكتور مؤنس حرفيا للسفير المصري – الذى كان مديرا سابقا للسجن الحربي بمصر – وطلب منه إلغاء بعثتي وإبلاغ السلطات عني، وأن السفير قد رد عليه : "من الذى لم يفقد أعصابه فى هذا الموقف، وتفلت منه الكلمات المحمومة". تجلت لي طبيعة النظام حينئذ بشكل أليم فليس المهم هو ما يحدث للبلد ، ولكن أصحاب السلطة يريد كل منهم أن يستغل الفرصة لتدعيم موقفه ، والتضحية بالآخرين . تضاعف حزني فى هذا اليوم الحالك على المصير الذى انتهينا إليه ، وتجسدت لي مشكلة أزمة الثقة لدي الإنسان المصري ، والتخريب الداخلي الذى سبق الهزيمة العسكرية .. تذكرت النبأ الذى سمعته ولم أصدقه قبل شهور من اكتشاف مؤامرة لقلب نظام الحكم فى إحدى الدول الأفريقية، ومصادرة حقيبة مصرية بها خمسة ملايين جنيه استرليني لتمويل المؤامرة. تساءلت ألم تكن هذه الملايين كافية للإنفاق على جميع البعثات العلمية التى ألغيت فى التخصصات العملية والنظرية ، والتي تضمن أساسا سليما لمستقبل مصر؟، لكن الغريب أنني شعرت بارتياح عظيم لأنباء اليومين التاليين من رفض الشعب لاستقالة عبد الناصر ، معنى هذا أنه لا يسلم بهزيمة لا يستحقها ، ويريد منه أن يعمل على تجاوزها. معناه إذن أن روح مصر قالت لعبد الناصر مثلما هتفت بتلقائية : يا أحمق ليس هذا وقت التنحي عن المسئولية!.