«كان أعنف هجوم على الأزهر وشيوخه».. تفاصيل أول معارك طه حسين
من أقدم المعارك التي خاضها طه حسين كانت معركة ضد الأزهر وتحديدًا ضد الشيخ رشيد رضا، وكشف عن هذا المعركة شيخ الصحفيين حافظ محمود، وأوردها الكاتب الصحفي إبراهيم عبد العزيز في كتابه "طه حسين وثائق مجهولة".
ويصف إبراهيم عبد العزيز هذه المعركة وتفاصيلها فيقول: "يكشف لنا شيخ الصحفيين حافظ محمود عن هذه العلاقة، متذكراً: نحن الآن مع الطالب الأزهري ذي الثمانية عشرة سنة وهو يتلمس طريقه في لهفة واشتياق وعجلة، من حي الأزهر، إلى شارع حسن الأكبر.. كان قد سمع أن فيلسوف عصره لطفي السيد، قد افتتح هناك جريدة "الجريدة" ثم افتتح معها وداخل حجراتها قاعة للمحاضرات يحاضر فيها الشباب.. وفي قاعة المحاضرات بدار "الجريدة" التقى الطالب الأزهري الصغير بالفيلسوف الكبير، فقد كان لقاء العمر الذي لم تنفصم عراه أبداً. لم يكن الفتى طه حتى تلك اللحظة صاحب البيان السمح المتفجر الساحر الذي عُرف به، وعُرف عنه فيما بعد، فلما أراد أن يعقب على ما سمعه من المحاضرات كان تعقيبه بالكلمات المكتوبة التي فتحت لها "الجريدة" صدرها، وكان هذا أول اتصال مباشر بين طه حسين وبين صاحبة الجلالة الصحافة، هنا قامت أول معركة من معارك طه، وكانت هذه المعركة هي معركته مع نفسه، لقد كان ثائراً بطبعه، فكيف السبيل وهو لم يجد مكاناً لثورته، في أعمدة الحكمة" التي كان ينشرها الرجل الذي بادله الحب والتقدير؟".
لقد كان طه فتى ثائراً، وكان لطفي السيد رجلاً حكيماً، فكان يكبح جماح ثورة طه، فيكفكف من حدة قلمه، ويعلمه كيف يتأنى في تفكيره ويختار لفظه الموجز المعبر دون إسهاب أو تطويل، وإن كان طه لم يستطع أن يتخلى عن طريقته في الإسهاب والتطويل والاستطراد والإفاضة والإعادة والتكرار بأكثر من طريقة وأسلوب. غير أن ذلك مما لا يعيب طه حسين، وإن كان يعيب سواه، فإسهاب طه، لا يمله القارئ، وإطالته هي تلك الإطالة التي يطلب بعدها القارئ المزيد، فقد كون طه لنفسه أسلوباً اصيلاً متميزاً به لا يشاركه فيه أحد، فقد كان أسلوبه هو السهل الممتنع.
وقد تأثر طه حسين بلطفي السيد في ثقافته وأفكاره، تأثراً ملحوظاً، يتبين ذلك في مقارنة يعقدها "أحمد علي" بين فكر طه حسين خاصاً بالشريعة الإسلامية قبل تعرفه بلطفي السيد، وفكره في نفس الموضوع بعد أن تأثر به وأخذ عنه.
"لقد كان طه حسين متمسكاً بالشريعة الإسلامية يدعو لتطبيقها بحذافيرها لتحقيق الفضيلة التي لا تساهل فيها ولا تعزير، فالضرب أو أي عقوبة تأديبية لا يرتجى منها الخير، وإنما "من يَهدر الفضيلة يُهدر"، يقول طه في قصيدة له تحمل عنوان "النيل":
نسيت مصر دينها فعداها.. كل خير وجللتها كل الشرور
ولكن تحول طه عن رأيه على نحو جديد فقال "إن الدين بعد أن ينزل به الوحي من السماء ويودعه نفوس الناس عن طريق الأنبياء والمرسلين، لا يكاد ينتقل من وطن إلى وطن ومن بيئة إلى بيئة، حتى يأخذ شكلاً خاصاً وصبغة معينة هي بتلك البيئة أشبه".
وقد تأثر طه حسين بأفكار أستاذه لطفي السيد، إلا أنه لم يكن يستطيع أن يتمثل حكمته، فلم يحتمل الكتابة في "الجريدة" التي يديرها أستاذه الفيلسوف، حيث إن صحيفته لا تحتمل نفسه الثائرة، وكثيراً ما نصحه لطفي السيد أن يروض نفسه، ولكن لم يكن يجد إلى ذلك من سبيل، ووجد طه مبتغاه عند الشيخ الثائر عبدالعزيز جاويش وهو الشخصية الرابعة من تلك الشخصيات التي لعبت دورها في التأثير على شخصية طه حسين وتكويناته الثقافية والفكرية والنفسية الأولى، بعد الإمام محمد عبده، والشيخ المرصفي، ولطفي السيد.
الصاع صاعين
كان الشيخ عبدالعزيز جاويش صحفياً ثائراً يرأس تحرير جريدة "العلم" وكان طول لسانه لا يقل عن طول قلمه وعنفه، وقد التقى طه حسين معه في هذه الصفات، التي وجد الشيخ جاويش يشجعه عليها ويدفعه ليكون أكثر حدة وقسوة في مهاجمة الآخرين، لقد استثمر موهبة طه لتكون كتاباته ثائرة عنيفة لزيادة توزيع صحيفته، وكانت فرصة لطه حسين ليفجر غضبه على الأزهر من خلال صحيفة "العلم" التي يديرها الشيخ عبدالعزيز جاويش، فراح يطالب بإصلاح الأزهر ومناهجه، وكان أعنف هجوم على الأزهر وشيوخه يوم أن كتب ينتقد ما أشيع عن حفل أقامه الشيخ رشيد رضا بمناسبة افتتاحه مدرسة "الدعوة والإرشاد"، لم يكن هذا هو ما يهم طه حسين، وإنما المهم في نظره أن يقام مثل هذا الحفل في فندق "الهيلتون" حيث دارت كؤوس الشمبانيا على مشايخ الأزهر الذين دعاهم الشيخ رشيد رضا لهذا الحفل، وكان وراء هجوم طه الشيخ جاويش الذي كان يعادي الشيخ رشيد رضا الذي كان برأيه قد انحرف عن خط أستاذه الإمام محمد عبده، وتعاون مع القصر والخديوي، وقد ندم طه حسين فيما بعد لهجومه على الشيخ رشيد رضا، كما ندم على هجومه على آخرين غيره، رأى أنه قد هاجمهم بغير حق، مدفوعاً بشهرة يريد تحقيقها من وراء الهجوم عليهم، أو مدفوعاً بآخرين له معهم صحبة وصداقة، فكان يعادي من يعاديهم ويصادق من يصادقهم، وكانت الصحافة هي وسيلته التي وإن جنى منها شهرة واسعة فقد جنت على عبقريته كما يقول الرافعي عنه – فيما أورده أحمد علي: "لو انتهى كما بدأ لكان اليوم أحد عباقرة الدنيا، ولكنه بلغ المنزلة المرجوة قبل الأوان، لأسباب غير طبيعية، فأعفى طبعه واطمأن إلى منصبه المضمون ومجده المكتسب، علمه علم الأديب يأخذ من كل شيء بطرف، وأدبه أدب الصحفي تصرفه الساعة عن الإجادة، وأسلوبه أسلوب الوادي المنحدر، يشتد جريانه ويقل عمقه، ذهنه لماع الذكاء، ولكنه لا ينفد، وقريحته واسعة الحيلة ولكنها لا تخلق، لذلك تجده معسول الكلام لا أثر فيه لروعة الفن ولا لبراعة الفكرة".
ولم يكن لهجوم طه على الأزهر ومشايخه، خاصة في انتقاده الشديد لهم في حفلة الشيخ رشيد رضا، أن يمر كغيره، خاصة أنه كان أيضاً قد هجا بشعره شيخ الأزهر نفسه الشيخ سليم البشري، وكان ذلك فيما يبدو في سنة حاسمة يتقرر فيها مصيره في الأزهر حيث كانت السنة النهائية لنيل شهادة العالمية. ولم يكن هناك مفر من أن يرد الأزهر لطالبه المتمرد عليه الصاع صاعين، فبيتوا أمر رسوبه قبل أن يدخل الامتحان. ورغم أن شيخه المرصفي، قد حذره من دخول الامتحان لأن القوم قد بيتوا له يأتمرون به ليسقطوه، إلا أنه لم يستمع إلى النصيحة، كعناده دائماً، ومضى إلى الامتحان ليصبح رسوبه في الامتحان حقيقة، وإن طويت بذلك صفحة طه حسين في الأزهر، إلا أن علاقته بالأزهر أو علاقة الأزهر به لم تنته برسوبه في امتحان شهادة العالِمية.
فبعد حصوله من الجامعة المصرية القديمة – بعد أن ترك الأزهر – على إجازة الدكتوراه عن أبي العلاء المعري، تقدم عضو باللجنة التشريعية التي يرأسها سعد زغلول، بسؤال يطلب إثارته في البرلمان حول هذه الرسالة التي تجنى فيها طه حسين على أبو العلاء وأخرجه من دين الإسلام، وعلى ذلك يجب حرمانه من حقوقه الجامعية وعدم سفره إلى بعثة فرنسا – حيث كان طه قد تقدم لهذه الدكتوراه ليستوفي شروط تلك البعثة – بل ذهب النائب البورسعيدي عبد الفتاح الجمال إلى حد المغالاة فطالب بإغلاق الجامعة التي منحت طه حسين شهادة دكتوراه يكفر فيها شاعراً كبيراً مسلماً هو أبو العلاء المعري.
وكان سعد زغلول من الحكمة بحيث أقنع النائب البورسعيدي بسحب اقتراحه، حيث إن مطالبته بإغلاق الجامعة التي يدرس فيها طه حسين يقتضي كذلك إغلاق الأزهر الذي كان يدرس فيه قبل الجامعة، ومن شأن اقتراح كهذا ألا يثير نار الفتنة في الجامعة فقط، بل يمتد أيضا إلى الأزهر، خاصة أن من بين الأعضاء المشرفين على الرسالة أزهريون.