قضية للمناقشة فى الحوار الوطنى: «١-٢» تحرير الخيال المصرى ضرورة عاجلة
الفكر والإبداع المصرى شبه الحداثى والمعاصر، عانى، ولا يزال، من عديد القيود القانونية والسياسية، والاجتماعية والدينية على حرية العقل والخيال الخلاق، ترجع هذه القيود لسطوة العقل النقلى السائد- أيًا كانت مصادره دينية ومدنية وسياسية واجتماعية- الذى يميل إلى السيطرة الرمزية على المجال العام، وكل يسعى إلى الغلبة والسيطرة وإزاحة أى مساعٍ لمقاربات فكرية وإبداعية مختلفة، لا سيما تلك التى تحلق فى فضاءات مختلفة عن الثقافة العامة، السائدة، لا سيما الرسمية أو ثقافة المجتمع بمختلف مكوناتها، من هنا تشكل السلطات الدينية والسياسية والعرفية وما يطلبه عليه التقاليد، وفوائض التدين الشكلى، أحد كوابح وقمع العقل الحر، والخيال الخلاق، ثمة مصادر تاريخية وتراثية واجتماعية تقف وراء مشكلات الثقافة المصرية، الحديثة، والمعاصرة، ولا تجديد ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا دون تحرير الخيال، والعقل النقدى. من هنا نبدأ!
إذا شئنا استعارة عنوان خالد محمد خالد ذائع الصيت، هل يمكن لثقافة ما أن تُبدع فى البحث عن المعنى دون حرية للمغامرة الفكرية والفلسفية؟!، وفى الإبداع فى جميع مجالاته العلمية والسياسية من خلال الخيال السياسى المبدع المؤسس على المعرفة، والرأسمال الخبراتى السياسى، والبحوث العلمية، والمعلومات الدقيقة؟، هل يمكن للمجتمع، والنظام السياسى- الشمولى والتسلطى- أيًا كان، أن يتطور من خلال قمع العقل الناقد والحر؟ أيًا كانت إنجازاته التقنية، والاقتصادية.
هل يمكن لمجتمع ما أن يطور ثقافاته ومكوناته دون الاعتراف بالعقل الحر المستقل، أو احترام الحق فى الاختلاف؟! هل يؤدى احترام ما يطلق عليه بعضهم «الثوابت»، والتقاليد، والقيم، والأخلاق إلى تطور المجتمع، والدولة، والنظام السياسى والاجتماعى؟ من أين جاء مفهوم «الثوابت» الماضوى، وما هى توظيفاته السياسية والدينية، والأخلاقية، المعاصرة؟ وهل هو مفهوم علمى سوسيو سياسى على ماضويته؟! لماذا رهاب الخوف من الإبداع الشعرى، والسردى؟
هل يمكن أن يحدث تطور ما فى ثقافة شعب، أو جماعة ما، فى ظل قمع العقل الحر، والخيال الإبداعى والسعى للبحث عن معنى الوجود وإشكالياته فى عالم يتصف فى تحولاته بالنظريات والأفكار الحداثية وما بعدها وما بعد بعدها؟
لماذا تحفل القوانين العقابية العربية والمصرية بنصوص تقيد الحق الدستورى فى حرية الرأى والتعبير والبحث؟
هل هناك عقل نقدى حر، دونما تحليل ونقد وهدم فى سعيه وراء تأسيس أبنية جديدة، وعالم ومجتمع ورؤى مختلفة؟
لماذا لا تزال مسألة العقل الحر، والتعبير والخيال الحر، معوقة سياسيًا ودينيًا واجتماعيًا، رغم تحولات عالمنا إلى عالم ما بعد الحداثة، وما بعدها، وحتى ثورة الرقمنة والدخول إلى عصر الذكاء الاصطناعى؟
هذه الأسئلة سالفة السرد، تطرح فى عالم مختلف دلالة على جمود العقل المصرى والعربى الرسمى، والجمعى الشعبى للجموع الغفيرة الفعلية والرقمية، وسكون الفكر الدينى المسيطر بالنقل والعنعنات والنزعة الإفتائية الماضوية فى كل تفاصيل الحياة المصرية والعربية الجديدة والمستجدة دومًا دون إجابات اجتهادية جديدة كما كان فى المرحلة شبه الليبرالية حتى نهاية خمسينيات القرن العشرين!
أسئلة قديمة ومستمرة دلالة على أزمات متفاقمة، والأحرى مشكلات تبدو عصية على إيجاد حلول لها فى الثقافة والسياسة والاجتماع المصرى والعربى، واستمراريتها فى مراحل تاريخية طويلة، منذ أوائل القرن الماضى، وإلى الآن، أسئلة تعنى أن ثمة تكلسًا ما فى التكوينين السوسيو ثقافى- والسوسيو سياسى المصرى، يناهض حرية العقل النقدى الحر، بل يرفض حضوره فى الحياة العملية والسياسية والدينية والاجتماعية .الأخطر يعنى أن ثمة تواطؤًَا بين فواعل سياسية، ودينية واجتماعية، على رفض الحرية، والإبداع العقلى بل والتخييلى، فى حياتنا العملية، ومحاولة تجميد العقل والخيال، والواقع الموضوعى فى معاندة مع حقائق ومتغيرات التغير الاجتماعى والثقافى التى تتجاوز هذه التواطؤات متعددة الأطراف والفواعل الاجتماعية والسياسية! على نحو يؤشر إلى أن العقل السياسى المسيطر، والعقل شبه الجمعى، يتسم بالجمود وغياب النزعة اللا تراكمية، والخبرات، ومعاندة التغير الاجتماعى فى القيم، والسلوك الاجتماعى، وفى التحولات التقنية والاقتصادية بقطع النظر عن التسلطية السياسية، ومحاولات، وقيود قمع العقل الحر، وتعبيراته وخطابه. والمفارقة أن الواقع الموضوعى يتغير، ويطرح أسئلته المضادة للثقافة السائدة وقيمها ومروياتها وأساطيرها الوضعية؟!
إشكالية العقل الحر، وتناقضاته مع العقل السياسى، والدينى المسيطر، وقيود الواقع الاجتماعى الموضوعى، تبدو فى عديد الأحيان محمولة على الملل، والضيق، لغياب فهم الواقع المتغير، وتحولاته، فى ظل استمرارية نفس السياسات القمعية الدينية والسياسية والقانونية! كأن ثمة عقلًا سياسيًا وقانونيًا، ودينيًا، يتصور أن قوته غير العادية والاستثنائية وثقلها قادرة على حصار التغير الاجتماعى واعتقاله فى سياجات قمعية، تبدو له ناجعة، بينما الواقع يتحول بعيدًا عن معتقلات العقل السلطوى السياسى، والدينى، والجماهيرى للجموع الشعبية الغفيرة التى تعيش وسط ازدواجياتها المسيطرة بين المعلن من أخلاقها وقيمها القديمة، وسلوكياتها المناهضة تمامًا لخطاباتها الدينية، والقيمية المعلنة، وتظاهراتها وضغوطها على حرية العقل، والتعبير والبحث.. إلخ!
حالة مستمرة، وتبدو غير مدروسة، للقيود على البحث الاجتماعى، والسياسى والقانونى! دنيانا تتغير، وتتحول، ولا نزال نرفع شعارات ثوابت القيم الدينية والأخلاقية، والسياسية الخشبية، وهو ما يعنى الانشطار بين المعلن، وبين الواقعى، بين الشعارى، والسلوك الفعلى فى حياتنا! حالة انفصامية عن الثقافة الفعلية، ومحركاتها وتوجهاتها العقلية. إشكالية القيم الدينية أن بعض رجال الدين الرسميين، والسلفيين وغيرهم ومعهم العوام يربطون بينها وبين مفهوم الثوابت والمعلوم من الدين بالضرورة، مفهوم الثوابت الدينية بات ممتدًا، ويشمل عديدًا من المقولات الفقهية، والإفتائية الموروثة من سرديات، كبار الفقهاء العظام المؤسسين ومعهم التابعين، وتابعى التابعين، وشروحهم على المتون التأسيسية لكبارهم!
ثمة تجميد، للثابت والثوابت، على الرغم من أنه مفهوم وضعى بامتياز، يؤخذ ويستصحب عبر الزمن والمكان وتحولاتهما، وفى ذات الوقت يخضع للنقد، والتأويل مع تغير أسئلة الجماعات، ومشكلاتهم، وعصورهم، وأعرافهم، وأنساق قيمهم المتغيرة عبر الزمن. مفهوم الثوابت فقهى بامتياز، ومن ثم لا تحاط به قداسة النص المقدس، ولا سنة النبى الأكرم «صلى الله عليه وسلم» ومن ثم يقبل الحذف والإضافة وفق قواعد أصول الدين والفقه، ومن خلال أدواتهم التى تقبل التجديد، والإضافة من حيث المفاهيم، والأدوات، وأساليب المقاربات المنهجية، بل وتقبل الانفتاح على العلوم الحديثة والمعاصرة.
مفهوم الثوابت تحول إلى أداة وظيفية لدى بعض رجال الدين، وسلطاته للسيطرة والاستحواذ على المتون الإسلامية، المقدسة والوضعية معًا، والحيلولة دون تجديد الفكر الدينى، على الرغم من أن متن أصول الفقه للشافعى- رحمه الله- هى اجتهاد بشرى بامتياز، ومعه مذاهب أهل السنة والجماعة، والمذهب الشيعى، وآياته المختلفين.
مفهوم الثوابت، فى الخطابات الدينية السياسية والراديكالية يوظف سياسيًا فى مواجهة الأفكار والرؤى المغايرة الفقهية أو التفسيرية على أرضية الانتماء العقدى للإسلام العظيم- العقيدة والقيم الفضلى- وليست من خارجه. من ناحية أخرى يوظف المفهوم، ومعه السرديات الفقهية، فى رفض غالب العلوم الحديثة والمعاصرة لا سيما فى الفكر السياسى والاجتماعى، وإزاء التقنيات فائقة التطور، دونما مساءلة أسئلة العصر المتغيرة ومعالجة المشكلات الإنسانية، والاجتماعية، للإنسان المسلم فى مجتمعات مثقلة بالقيود على العقل الحر، والضمير الحر، وعلى حياته المعسورة عند الحافة. الغريب أن غالب رجال الدين، والسلفيين وغيرهم، يوظفون مفهوم الثوابت الدينية، والقيم الإسلامية، الموروثة فى المتون والسرديات، على نحو بالغ المحافظة والصرامة، والتركيز فى الهجوم الضارى على بعض الكتابات الفلسفية، والنقد السياسى، والاجتماعى، وبعض الروايات، والقصائد، والمسرحيات.. إلخ، بعيدًا عن قضايا العدل الاجتماعى، ومشاكل الفقراء والميسورين وأيضًا بعيدًا عن سلطة المتغلب السنى، وطغيانه، وفساده فى عالمنا العربى، وقضايا فساد الطبقات العليا بالغة الثراء والمفرطة فى استهلاكها. نحن إذن أمام أدوات فى أيدى السلطات الحاكمة فى غالب البلدان العربية، إزاء خصومهم السياسيين، وليس الدينيين! وهى ظاهرة قديمة تعود إلى قرون، وامتدت إلى دولة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربى. من الملاحظ أيضًا أن دورهم دفاعى وشعاراتى عن غرب غامض لا يعرفون عنه شيئًا فى تطوره التاريخى والسياسى والاجتماعى، وسياساته وثقافاته، فى حين أنه لا يوجد غرب واحد، وإنما مجتمعات لها تاريخها، وثقافاتها، وقيمها، ومشكلاتها المختلفة أو المتداخلة، إن بعضهم لا يعرف شيئًا عن تطوراته العلمية والاقتصادية، وفى الفلسفة والعلوم الإنسانية، وإنما خطاب قدحى وهجائى عام، وشعارات من خلال لغة خشبية، وفق التعبير الفرنسى، أو كلام ساكت، وفق التعبير السودانى، لا يعرف بعضهم تطورات نظريات الأدب والنقد ومذاهبه، ومدارسه الغربية، وتداخلاته مع علوم اللغة فائقة التطور، ناهيك عن عدم معرفة بعضهم المجتمعات الآسيوية الناهضة والصاعدة، والتى تبدو غامضة فى الأدبيات السياسية والاجتماعية، والثقافية العربية والمصرية إلا قليلًا، ولا يعرفها إلا قلة.
حالة غياب العقل الدينى النقلى والسياسى وأيضًا التقليدى عن متغيرات مجتمعه، وعالمه وعصره، والأسئلة الجديدة الصادمة، يؤدى إلى المزيد من الالتحام بالمفهوم الوضعى للثوابت، وهى حالة نكوصية إلى السرديات الدينية الوضعية لكبار فقهائنا العظام أبناء عصورهم وأسئلتهم، ومشاكل مجتمعاتهم فى الدعوة، والإفتاء والتفسير، والتأويل، ومن ثم يغدو دفاعهم عن هذا المفهوم الوضعى وفق معناه وتعريفه ودلالته القديمة والتاريخية والموروثة، هو دفاع عن مكانتهم الاجتماعية، ودورهم السياسى التابع لسلطة المتغلب السنى الحاكم الذى لا يراكم تجاربنا السياسية ولايستفاد منها ويكرر أخطاءه القاتلة، وينسحق أمام الدول الكبرى فى عالمنا!.
لا شك أن هذا المفهوم المسيطر، بات مرجعًا فى مقاربة أمور السياسة والقانون الوضعى الحديث الذى ينظم الهندسات الاجتماعية والسياسية المتغيرة، للمجتمعات العربية، ومعها الثقافات، والأساطير اليومية، واللغة السائدة ا وأقنعتها الدينية فى الحياة بين الجموع، والقيم الاجتماعية المتغيرة، على نحو يبدو مهيمنًا على الحياة الظاهرة لرجال الدين، والسلطة الحاكمة، والجموع الغفيرة فى الواقع الفعلى، والرقمى، وأيضًا يوظف، ومعه معاييره الموروثة، فى مطاردة بعض الأفكار والروايات والقصص، والقصائد، ويخلط رجال الدين، وعديد من العاديين والمتعلمين بين السرديات، والقصائد والقصص والمسرحيات.. إلخ، وبين الواقع فى هذه السرديات والقصائد المغايرة عن الواقع الموضوعى، وبينها، ويوظفون القيم الدينية والأخلاقية المعلنة- وليست فى واقعها الحى- وبين هذه الأعمال الأدبية التخييلية. هذا الخلط دينى وسياسى بامتياز، لأنه أداة ضبط دينى وسياسى واجتماعى، وليس نقدًا أدبيًا، أيًا كانت توجهاته- ومدارسه النقدية على تعددها، واختلافاتها، وانقطاعاتها، غالبًا ما يستخدم هذا النمط من الآراء الأقرب إلى الفتاوى الدينية التراثية، من حيث بنية الرأى/ الخطاب، ومرجعيته فى تقييم بعض الأعمال الأدبية، حيث يميل إلى الآراء واللغة العامة السائدة، والفاحصة، وراء الضمائر والنوايا بحثًا عن سطور أو أبيات شعرية أو حوار فى مسرحية يؤول على أنه يشكل خروجًا على الثوابت أو صحيح الدين، أو المعلوم من الدين بالضرورة ثم يردف ذلك بالخروج على القيم والأخلاقيات العامة والأسرة المصرية وهكذا! دونما تحليل نقدى للعمل حتى مع المقاربة الدينية الفقهية الوضعية له.
الخطاب الفقهى، والتفسيرى والتأويلى لدى بعض كبار الفقهاء المؤسسين والتابعين وتابعى التابعين بإحسان، كان يعتمد على الحجاج فى عرض بعض الآراء، ثم الميل إلى موافقتها أو معارضتها، والإتيان بالرأى المخالف، وسنده المقدس، أو السنوى، والترجيح ثم الاستخلاص، مما سرى فى ظل تراجع حركة التجديد فى الفكر الدينى، وهيمنة النزعات السلفية وشيوخها، أصبح الإفتاء المعمم، والحاسم، هو السائد، وهو دلالة تراجع فى مستويات التكوين الفقهى والإفتائى، وضعف الملكات الفقهية والتفسيرية، ومن ثم الانصياع إلى التقليد القديم لدى التابعين، وتابعى التابعين وبعض المشايخ المعاصرين، وبعضهم لم يتخرج فى الأزهر وبعضهم تعلم على يد بعض السلفيين النقليين فى السعودية لشهور ثم تحول إلى مرجع سلفى! وهذا أمر مثير فى ظل السياسة الدينية السعودية الوهابية النقلية فى عهد ملوكها حتى الملك فهد بن عبدالعزيز، وكان ذلك جزءًا من السياسة السعودية الخارجية، بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة الاتحاد السوفيتى السابق، واحتواء مصر فى عهد السادات! وهذا ما حدث. هذا ليس استنتاجًا أو تحليلًا للسياسة السعودية الدينية والخارجية فقط، وإنما معلومات أدلى بها ولى العهد السعودى الحالى محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، فى مجال الدفاع عن سياسته فى ظل تغير نظام الخلافة السياسية من قِبل والده الملك سلمان بن عبدالعزيز، وأن سياسته تنطوى على خلاف مع السياسة السابقة لأعمامه الملوك، وتنطوى على انفتاح على الطبقة الوسطى لتكون سندًا اجتماعيًا لحكمه المستقبلى!
توظيف الجماعات ومشايخ السلفية مصريًا فى مواجهة جماعة الإخوان المسلمين، أتاح لهم التمدد تاريخيًا داخل المؤسسة الرسمية، وداخل الجموع الغفيرة من بعض الميسورين والفئات الوسطى، على نحو يجعلهم قوة مضادة للنظام السياسى والسلطة السياسية الحاكمة، وهو ما أدى إلى ظهور نمط من الاحتساب الشعبى- من الحسبة- فى مواجهة الأفكار والمبدعين من الروائيين والقصاصين والشعراء يتعقبون بعضهم، وبعض أعمالهم السردية وقصائدهم، بقطع النظر عن أهميتها وقيمتها الفنية، والإبداعية! المهم هو اقتناص بعض هذه النصوص، والخطابات، فقرة هنا أو هناك واصطيادها، وإطلاق الفتاوى والأحكام الدينية العامة حولها، وتقديم شكاوى احتسابية إلى السلطات الأمنية والنيابة العامة لتقديمهم للمحاكمة، وكلتاهما ليستا سلطات نقدية متخصصة فى النقد الأدبى. هذا الاتجاه ساد فى ظل النص القانونى الجنائى الإجرائى الذى كان يسمح للآحاد برفع دعاوى مباشرة على بعض الكتّاب بدعوى الكفر، والخروج على أصول الدين أو ازدراء الأديان، بعد ذلك تحول النص إلى رفع شكاوى للنيابة العامة، وبعد التحقيق يمكنها حفظ الشكاوى، أو التحقيق فيها، وتقديمها للقضاء! فى ظل النص القانونى الخاص بازدراء الأديان الذى ينص على أن « يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن ٥٠٠ جنيه ولا تجاوز ألف جنيه لكل من يستغل ويستخدم الدين فى الدعوة والترويج عن طريق الكلام أو الكتابة أو بأى طريقة أخرى «الأفكار المتطرفة»، بهدف تحريض على الفتنة والانقسام أو ازدراء أى من الأديان السماوية أو الطوائف التابعة لها، أو المساس بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعى». م ٩٨ «و» من قانون العقوبات المصرى.
من صياغة النصوص العقابية تبدو المفردات عامة وسائلة، وقابلة للتفسير والتأويل الواسع الذى يمكن أن يدرج أى واقعة أو سلوك، ويحوله من مجال حرية الفكر والاعتقاد والضمير الحر إلى مجال الاتهام، والتأثيم فى ظل شيوع النزعة المحافظة، والتطرف الدينى الذى يجعل بعض الجماعات السلفية والدينية السياسية أن تدفع بعض أفرادها إلى الشكوى للسلطات المختصة وتحيلها إلى التحقيق والمحاكمة، أو من خلال بعض الأفراد الذين يلعبون دور المحتسب للقيام بالشكوى من كتاب أو مقال أو رأى، أو رواية أو قصيدة أو مسرحية من خلال آلية انتزاع بعض الكلمات أو الفقرات أو بيت من الشعر وأكثر، وتقديم الشكوى الاحتسابية، إلى الشرطة أو النيابة العامة بدعوى ازدراء الأديان، أو الحض على الفتنة الطائفية.. إلخ!، وهو ما يؤدى فعليًا للعصف بالنصوص الدستورية المقررة لحرية التدين والاعتقاد، وحرية التعبير، والنشر، وما استقرت عليه المبادئ القانونية والقضائية، من محكمتى النقض والإدارية العليا والمحكمة الدستورية العليا، وتراثهما فى حماية الحريات رفيع المقام.
لا شك أن فوائض التشدد الدينى للجموع الغفيرة من خلال التحول من التدين الشعبى بكل محمولاته الثقافية، والاجتماعية السائدة، إلى أنماط متطرفة شكليًا فى اللغة اليومية التى تم تديين بعضها، والممارسات الظاهرية للطقوس الدينية أمام الجمهور بعضه بعضًا كآلية لكسب الاحترام، وأيضًا كقناع للسلوك الاجتماعى الفعلى، ومخاتلاته، ومراوغاته فى ظل العسر الاقتصادى والمعيشى للجموع. من هنا يلجأ بعضهم إلى اللغة الدينية سعيًا وراء سند إلهى، يجعلهم قادرين على الحياة. هذا النمط من التدين اللغوى والطقوسى بات يشكل أحد أبرز الضغوط على أجهزة الدولة، التى تجاريه حتى يتحقق الاستقرار السياسى، والاجتماعى النسبى، وغالبًا ما تتأثر بعض قيادات، وموظفى الدولة، بهذا النمط من التدين السلفى المتشدد، الذى يخلط بين المعايير الدينية، وبين الفكر الدينى، وبين الإبداع فى السرديات الروائية والقصصية والشعرية والأفكار الفلسفية والسوسيولوجية والقانونية المغايرة للثقافة السائدة وبعض من مواريثهم القديمة.
ما هو أثر التغير الاجتماعى فى القيم، وفى أنماط التدين الشعبى السائدة، وسط الجموع الغفيرة، وفى الثقافة العامة؟! غالبًا ما تسود لدى بعض المشرعين وموظفى أجهزة الدولة الدولة فى مختلف المجالات، آليات توظيف مفاهيم قانونية عامة مثل قيم المجتمع، وأخلاق المجتمع، والأسرة والمصلحة العامة، والنظام العام، فى إدراكهم القانونى والدينى والسياسى والأمنى وهى مفاهيم واصطلاحات تتسم بالعمومية والغموض وعدم الضبط الاصطلاحى، وقابلة للتأويل الفضفاض والمرن، والتعميم وإضفاء معانٍ متغيرة عليها، فى ضوء طبيعة السلطة، والوضع السوسيو دينى، والسوسيو ثقافى السائد فى كل مرحلة وداخلها أيضًا!
هذا التوظيف للمفاهيم العامة والسائلة يمثل إحدى أدوات السلطة السياسية فى الضبط الاجتماعى والسياسى.
مثلًا مفهوم القيم الأخلاقية وأخلاق المجتمع هو مفهوم متغير من خلال عمليات التغير الاجتماعى. مثلًا فى المرحلة شبه الليبرالية والناصرية، كانت غالب النساء فى المدن سافرات فى ظل التعليم ودخول سوق العمل.. إلخ. وبعضهن كاشفات عن بعض صدورهن وأكتافهن فى الصيف وحاسرات الرءوس، وكان ذلك أمرًا عاديًا، وبعض كبار مشايخ الإسلام، كانت بناتهن سافرات، وزوجة أحد مشايخ دولة القراءة المصرية العظيمة سافرة، وتلعب على آلة البيانو وهو يقف بجوارها، كانت صورة دالة على توافق ذلك مع القيم الاجتماعية، والأخلاقية السائدة آنذاك.
مع حركة المد السياسى الإسلامى المحافظ المعاصرة، منذ هزيمة يونيو ١٩٦٧ وإلى الآن، بات الحجاب جزءًا من القيم السائدة، ومع الهجرة إلى دول النفط وسطوة الإخوان والسلفيين، وكان النقاب ولا يزال يسود مع الإسدال القادم من السعودية ودول الخليج! هنا حدث تغير فى القيم حول نظام التدين الشعبى ونظام الزى، وتديين اللغة اليومية. لا شك أن ذلك أثر على تركيبة وقيم موظفى الدولة وعمالها، والعاملين بالقطاع الخاص. خذ على سبيل المثال قضايا فكرية إشكالية مثل كتاب الشعر الجاهلى للعميد الدكتور طه حسين، والتحقيق معه فى النيابة العامة، وتصدى النائب العام للتحقيق، وتولى المهمة باقتدار المستشار الكبير محمد نور، وعارض فيها بعض آراء العميد، ثم أصدر قراره بحفظ الشكوى إعمالًا لحرية البحث والتعبير.
أيضًا فى قضايا الإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبدالرازق، انتصر القضاء المصرى العظيم للحرية فى الفكر والتعبير، وكذلك فى كتاب د. محمد عصفور عن الاستبداد الدستورى وكتاب من هنا نبدأ لخالد محمد خالد. كانت قيم الحرية والعقل الناقد والبحث والتعبير هى التى تسود المجتمع وجهاز الدولة.
هنا مفاهيم النظام العام، والأخلاق والآداب العامة فسرت تفسيرًا متقدمًا، ومنضبطًا لأن النظام شبه الليبرالى، كانت قيم الحرية هى الأساس فى عمل النظام. فى ظل التسلطية السياسية خلال نظام يوليو كان الميل إلى توظيف هذه المفاهيم على نحو تسلطى، وتؤدى وظيفة فى الضبط السياسى والدينى والاجتماعى لصالح سيطرة النظام. مع المد الدينى المحافظ والمتشدد الإخوانى والسلفى والأزهرى أثر ذلك على توظيف هذه المفاهيم على نحو تسلطى / دينى، تماشيًا مع التسلطية السياسية والتسلطية الدينية، من هنا يمثل التغير الاجتماعى فى القيم الاجتماعية والأخلاقية تأثيرًا على توظيفات النظام السياسى، والسلطة السياسية الحاكمة لمفاهيم الأخلاق والآداب العامة، والنظام العام، وقيم الأسرة المصرية، ومن ثم فى استخداماتها المتغيرة إزاء حريات البحث، والإبداع، والنقد، والتعبير، إزاء بعض الكتّاب، والروائيين، والشعراء على نحو ما حدث فى مصر، خلال حكم مبارك مثل الروايات الثلاث، ورواية أحمد ناجى «استخدام الحياة» واتهامه بخدش الحياء العام، وصدور حكم بحبسه لمدة سنتين! وتم استخدام هذا المفهوم خدش الحياء العام الغامض، والعام وغير المحدد إزاء الكاتب وروايته المؤسسة على التخييل، وليس كتابة الواقع الفعلى فى ذاته! بينما الواقع مترع بخدش الحياء العام، والخاص فى اللغة اليومية لغالبية الجموع الغفيرة الواقعية، والرقمية فى خطاب البذاءة، والانتهاكات الجنسية اللغوية داخله، على نحو مسيطر، وفقدت معه دلالاتها القدحية، والخدشية لحياء عام توارى فى الغالب فى الحياة اليومية، وراء بلاغة البذاءة إذا جاز التعبير، وساغ!، لكن هذا الاستخدام الأخلاقى للتعبير العام كاشف عن حالة انفصال بين واقع خطابات البذاءة اليومية، داخل الأسرة وجماعة الرفاق، وزملاء العمل، وفى الشارع، والسيارات العامة والخاصة وشجاراتها اليومية! هذا الانفصال بين خطابات البذاءة وخدشها لما يسمى بالحياء العام الغامض والغائب فى الواقع إلا قليلًا، يشير إلى أثر النزعة الدينية المحافظة فى القيم السائدة فى جهاز الدولة، ولدى بعض رجال القانون والمحاماة سعيًا من بعضهم وراء الذيوع والشهرة، أو للنزعة الاحتسابية لدى منتسبى التيار الدينى السلفى المتشدد والإخوان.. إلخ، والأهم التوظيف السياسى لخدش الحياء العام، فى الضبط السياسى والأخلاقى للسلطة إزاء الجماعة الثقافية، فى مصر، وعدم اتهامها بتشجيع هذا النمط من السرديات الروائية.
لا شك أن النزعة الاحتسابية الشائعة بين العوام والجموع الغفيرة هى جزء من فوائض التدين الشعبى المتشدد شكليًا، والناتج عنه الازدواجية بين المعلن والمضمر فى القيم المعلنة والسلوك الفعلى المناهض والمناقض لها، وتبدو كآلية للتماسك السوسيو نفسى إزاء تحولات الواقع ومشكلاته القاسية. وللتوازن بين الظاهر فى اللغة اليومية، وبين الباطن وتمثيلاته السلوكية داخل الأسرة، وجماعات الرفاق والعمل والجيرة والشارع.. إلخ.. وإزاء انتهاك قانون الدولة والرشى، والاختلاس، وغيرها من انتهاك حرمة المال العام.. إلخ!
هذا النمط من الحسبة الفردية والجماعية مصدره خطاب وسلوك الحسبة، ومساءلة أفكار الآخرين وسلوكهم فى خطاب الدعاة السلفيين، والإخوان، ودعاة المؤسسة الدينية الرسمية، ودعاة الطرق وفق تعبير د. طه حسين، وتحول ذلك إلى رافعى أذان الصلاة من العوام، وأنصاف المتعلمين.. إلخ! فى مساجد الأوقاف، والمساجد الأهلية، ومراكز حفظ القرآن الكريم.. إلخ!
هذه الظاهرة أيضًا قبطية لدى الأساقفة والقمامصة والقساوسة فى الأكليروس القبطى الأرثوذكسى، وآخرين فى الكنائس الأخرى.
كل هؤلاء المحتسبين من رجال الدين والعوام نقليون بامتياز وهدفهم بناء المكانة، والذيوع، والشهرة، وعداؤهم علنى وصارم إزاء العقل النقدى الحر، والإبداع والأفكار المختلفة، وينازعون سلطة أجهزة الدولة، وموظفيها وعمالها، لردعها! من خلال توظيف المفاهيم العامة، والغامضة، من مثيل القيم الدينية وقيم الأسرة، والآداب والأخلاق العامة، والنظام العام، كلها مفاهيم غامضة وتشكل أسلحة صراع مع سلطة الدولة، وقانونها، وهيبتها ودستورها! المثير والغريب انصياع موظفى الدولة والسلطات العامة إلى هذه المفاهيم، وتوظيفها وتطبيقها تحت أسر هذه الضغوط الاحتسابية المناهضة لها من رجال الدين، وغيرهم، وبعض الجموع الغفيرة لها!
هذا النمط من التواطؤ بين أجهزة الدولة- فى عالمنا العربى ومصر تحديدًا - وهذه الخطابات الهجومية الاحتسابية على الإبداع والاختلاف والتخييل فى الفكر والسرديات والأشعار أدى إلى صمت بعض المبدعين، وإلى صمت المثقفين- على نحو ما سبق لنا تناولها فى كتب ومقالات سابقة لنا منذ عقود- وهو ما أدى إلى موت المثقف، دورًا ووظيفة، وأثر سلبًا على الثقل الثقافى المصرى التاريخى فى الإقليم العربى لصالح دول ناشئة فى تاريخ المنطقة، تتسم بالثراء المفرط وجوائزها السخية، واحتفالياتها مفرطة الاستعراضات!
غدًا.. ننشر الجزء الثانى