ولاء أسعد: أعمال نجيب محفوظ تتحدث عن المكان وهذه أمنيتي لرسالة الدكتوراه (حوار)
خطّت الأكاديمية ولاء أسعد، مدرس علم الاجتماع بجامعة عين شمس عن المكان المغاير في روايات نجيب محفوظ الذي أشارت فيه إلى أن صاحب نوبل يشغلها كلها المكان كجزء رئيس في بنيتها وغالبًا ما يأتي عنوان رئيس للرواية كـ السكرية، زقاق المدق، خان الخليلي، القاهرة الجديدة وغيرها.
وتكشف ولاء في حوارها مع “الدستور” عن الأسباب التي جعلتها حريصه على تقديم رسالة دكتوراه حول المكان المغاير في محفوظ وماهية المكان المغاير في أعماله واختلافها كحيّز مكاني من عمل لآخر وإلى نص الحوار:
◘ ما الذي حرّضك على القيام وطرح موضع المكان في أعمال نجيب محفوظ؟
أعمال محفوظ كلها تتحدث عن المكان وبما أن محفوظ يعد رائد المكان في الأعمال الأدبية فكتب 16 عمل أدبي يحمل في عنوانه المكان وهي: كفاح طيبة 1944م، خان الخليلي 1945م، القاهرة الجديدة 1946، زقاق المدق 1947، بين القصرين 1956م، قصر الشوق 1957م، السكرية 1957، أولاد حارتنا 1959، الطريق 1964، ثرثرة فوق النيل 1966، ميرامار 1967م، الكرنك 1974، حكايات حارتنا 1975، الحرافيش 1977م، أفراح القبة 1981م، قشتمر 1988، فدفعني شغفي أن أدرس المكان ولكن بصورة مغايرة في أعماله ومن منظور مغاير عما هو معتاد.
بعد ذلك اخترت الأعمال التي دارت في أماكن مغايرة، وقد كانت أربعة أعمال تم اختيارها بطريقة العينة العمدية التي تقوم على اختيار الروايات الأدبية بطريقة انتقائية، حيث راعيت في اختيارها أن تكون أحداثها قد دارت في أماكن مغايرة وفقًا لتعريف "فوكو" للمكان المغاير الذي تمت الإشارة إليه مسبقًا، كما حاولت الباحثة أن تختار روايات تمت في فترات تاريخية مختلفة، وكانت زقاق المدق، ميرامار، ثرثرة فوق النيل وأخيرًا أفراح القبة
◘ ماذا عن علاقة المكان المغاير في روايات صاحب نوبل بالواقع الاجتماعي؟
- عكس نجيب محفوظ الواقع الاجتماعي في كل رواياته، فقد جعل من المكان وعاء يحوي سكانه بظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ناهيك عن حالتهم النفسية والثقافية، فشخصيات محفوظ الروائية ماهي إلا تشريح للمكان ولا يمكن تحديد المكان ولا معرفة شخصياته دون تفاعل الشخصية مع المكان وقدرة الشخصية في تجسيد بعض المواقف ومن خلالها التعبير عن هوية وخصوصية المكان، فالمكان هو بعد مُكمل للشخصية.
◘ ما المقصود بالمكان المغاير كما عكسته الأعمال الروائية؟
المكان المغاير هو مصطلح صكّه فليسوف فرنسي يدعى ميشيل فوكو يقصد به الأماكن الحقيقة أو المتخيلة عادة ما تكون مرفوضة في الواقع يستطيع الشخص فيها أن يمارس كل ما هو مرفوض في المجتمع، المقصود بالمكان المغاير في روايات محفوظ هو مكانًا يلجأ إليه مجموعة من الشخصيات المُحبطة، أو المحكوم عليهم بالسقوط والضياع، أو الانهيار النفسي والاجتماعي. وقد يلجأ إليه الشخص عابرًا أو عارضًا أو مسافرًا كما حدث في البنسيون في رواية "ميرامار"، أو راضيًا كمحاولة للخروج من الأزمة كالعوامة في "ثرثرة فوق النيل" أو هربًا من ضغوط الحياة كبيوت الدعارة في "زقاق المدق"، أو متحررًا من قيود الواقع الفعلي كالتمثيل على خشبة المسرح كما في رواية "أفراح القبة"، وكلها أماكن تلجأ إليها الشخصيات مصادفة وبدون ترتيب لكي تتحرر من القيود المفروضة عليها في واقعهم الفعلي.
◘ ما أنواع الأماكن المغايرة التى رسمها محفوظ في روايته.. وهل تختلف من رواية لأخرى؟
تعددت الأمكنة وتنوعت في الروايات ما بين أماكن مغلقة وأخرى مفتوحة، حيث تعكس الأماكن المغلقة خصوصية وحميمية المكان، بينما تعكس الأماكن المفتوحة المعطيات الثقافية والاجتماعية، والنفسية وتؤكد على حرية الأشخاص في التعامل مع المكان. لذا تعمد محفوظ أن يذكر الأماكن بأسماء واقعية لتكون أكثر مصداقية.
وهنا يتوازى استخدام الوصف والسرد مع الواقع، فوصف الأماكن وصورها وجسَّد كل ما فيها بطريقة تمنح القارئ القدرة على تخيُّل المكان سواء كان مغلقًا أو مفْتوحًا.
اتخذ المكان المغاير في أدب محفوظ أشكالًا متعددة منها (الزقاق، العوامة، البنسيون، المسرح، الشارع، المقهى، المقبرة، السجن، المحلات التجارية، ومدرسة الدعارة... إلخ) وجميع هذه الأماكن تختلف في معماريتها مع الأماكن العادية لكون الكاتب يبحث عن بيئة مغايرة غير مألوفة لرواياته، ومن هنا تتنوع الأنساق البصرية، فيجمع المكان الواحد عدة أمكنة في آن واحد.
الأماكن المغايرة قد تكون أماكن حقيقية مؤقتة ولكنها مرفوضة من المجتمع والسلطة، يلجأ إليها الفرد المسافر كما حدث في ميرامار، أو مكان المضطر للخروج من الأزمة كما حدث في رواية ثرثرة فوق النيل، أو المجبور على الاعتراف بحقيقة بعض الأمور المرفوضة في الواقع الحقيقي ولكنها بصورة أكثر جرأة كما هو الحال في أفراح القبة، قد تكون أماكن طاردة لقاطنيها أو جاذبة لهم كما في زقاق المدق.
◘ أشارت رسالتك إلى أن محفوظ عبر رواياته منح المكان المغاير أشكالاً متعددة.. حدثينا عنها وعن أنواع تلك الاشكال؟
الأماكن المغايرة التي أقصدها هى أماكن يلجأ إليه مجموعة من الشخصيات المُحبطة أو المحكوم عليهم بالسقوط والضياع، أو الانهيار النفسي والاجتماعي.
وقد يلجأ إليه الشخص عابرًا أو عارضًا أو مسافرًا كما حدث في البنسيون في رواية "ميرامار"، أو راضيًا كمحاولة للخروج من الأزمة كالعوامة في "ثرثرة فوق النيل"، أو هربًا من ضغوط الحياة كبيوت الدعارة في "زقاق المدق"، أو متحررًا من قيود الواقع الفعلي كالتمثيل على خشبة المسرح كما في رواية "أفراح القبة"، وكلها أماكن تلجأ إليها الشخصيات مصادفة وبدون ترتيب لكي تتحرر من القيود المفروضة عليها في واقعهم الفعلي.لذا أوضحت الدراسة أن بعض أعمال نجيب محفوظ تدور في أماكن مغايرة مثل الزقاق الضيق والعوامة المتأرجحة، والبنسيون الثابت، وأخيرًا المسرح ذي القبة العالية وكلها فضاءات تكشف عن أن المكان ليس مُجرد فضاء فيزيقي وإنما مكانًا حيًّا يعمل على تشكُّل الحياة الاجتماعية داخله ويؤثر على مصائر الشخصيات التي تعيش في إطار المكان.
هنا يمتزج فن الكاتب مع إبداعه، فيجمع المكان بين الشيء ونقيضه في آن واحد يجمع بين الجاهل والمثقف، بين العاهرة والشريفة، بين القواد والتقي، بين قائم الصلاة ومدمن المخدرات، بين الهدوء والسكينة، بين الحركة والانفعال، بين الحب والكراهية؛ وكلها سمات للشخصية ظهرت من خلال تحليل الأماكن المختارة.
زقاق المدق، أحد الأزقة المتفرعة من منطقة الحسين بحي الأزهر الشريف بالقاهرة. بالرغم من أن هذه الراوية ترصد أحداثًا تدور في زقاق ضيق، غير أن هذا الزقاق يُجسد السياق الاجتماعي المصري في فترة تاريخية بعينها.
يبدأ الكاتب بوصف الزقاق وصفًا دقيقًا بداية من طوابق المنازل مرورًا بالمحلات التجارية ومحل الحلاقة، إضافة إلى الفرن، ودكان البسبوسة، ومقهى الزقاق وصفًا يجعل القارئ كأنه يشاهد لوحة فنية متحركة.
ويرجع ذلك إلى قرب الكاتب من هذا المكان بحكم نشأته الأولى التي قضاها في منطقة الحسين بصفة عامة، وحي الجمالية على وجه التحديد. لذلك استطاع أن يرصد الأحداث بعين مؤلف واعٍ وإخباري دقيق يرصد كل ما يدور في الزقاق. بتعبير فوكو، قام محفوظ بالحفر في التاريخ، فلم يكن المكان داخل الرواية نصًّا أدبيًّا فحسب، بل عرضًا مسرحيًّا أو سينمائيًّا فمن يقرأ النص يشاهد الصورة، فكان نصه نصًّا متحركًا.
أما العوامة في رواية ثرثرة فوق النيل فهي مكان المغامرة الحكائية حيث النيل هو الشاهد على هذه المغامرة احتوت العوامة مجموعة من المثقفين الهاربين من الواقع البائس المحيط بهم إلى عالم مستقل يمثل نوعًا من الانتحار الذاتي، وطريقًا للخلاص من المشكلات التي يواجهونها.
فقد أشار فوكو إلى العوامة بوصفها مكانًا مُغايرًا، لأنها قطعة من الفضاء العائم فهي مكان دون مكان، حيث يستمد الفرد حياته من ذاته، ويصبح منغلقًا على ذاته، حرًّا بمعنى ما، ولكنه منذور حتمًا ونهايته البحر.
استخدم محفوظ المعنى نفسه الذي استخدمه فوكو، ولعل هناك تشابهًا بين عوامة محفوظ وسفينة الحمقى التي أشار إليها فوكو في دراسته "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" التي أبحر فيها عدد من مجانين وحمقى ومنبوذين في القرن الخامس عشر إلى أماكن بعيدة عن واقعهم الأليم. ففي العوامة تمكن مجموعة من الشخصيات التحرر من قيود المجتمع والسلطة من خلال التعبير عن أنفسهم والتحرر من قيود الواقع الاجتماعي والتعبير عن ميولهم وإشباع رغباتهم التي عجزوا عن تحقيقها في الواقع، فأصبحت العوامة هي المكان الذي من خلاله تمكنوا من تعويض ما افتقدوه.
ويُعد البنسيون في رواية ميرامار، مكانًا مغايرًا آخر أعطى لشخصياته نوعًا من الراحة المطلقة لإشباع احتياجاتهم التي كانت مرفوضة في الواقع الاجتماعي الحقيقي، وساعدهم على التحرر من قيود هذا الواقع، وأتاح لهُم فرصة في التحاور حول بعض القضايا والأحداث المسكوت عنها. كما عدَّه نزلاؤه مكانًا لتحقيق نزواتهم والخروج من كبت وضغوط الحياة والتخلص من ماضيهم المؤلم. ولعل البنسيون في الرواية كان بمثابة قبلة للكثير وملهمًا لهم بوصفه مكانًا يقع في مدينة كونية تحوي العديد من الثقافات.
وتُعد خشبة المسرح في رواية أفراح القبة أيضًا، وفقًا لإطروحات فوكو، مكانًا بدون مكان، جعلها محفوظ في روايته منصة للاعتراف والبوح عن بعض ما اقترفوه من سلوك عجزوا في الإفصاح عنه.
لذلك عُدَّت خشبة المسرح مكانًا لكشف المسكوت عنه والبوح بمكنون النفس وأحلامها. وقد ظهر ذلك من خلال الأدوار التي رسمها مؤلف المسرحية التي اتخذت عنوان الرواية نفسه "أفراح القبة" وشخصياتها محورًا لها، ومن خلالها ظهرت تناقضات شخصية كل منهم وعكست في الوقت ذاته التحولات والتناقضات التي حدثت في المجتمع المصري خلال حقْبتيْ الستينيات والسبعينيات.
◘ لماذا لجأتِ للتصوير الفوتوغرافي في تصوير الأماكن التي دارت فيها الأعمال الروائية؟
استخدمت بالفعل التصوير الفوتوغرافي كأداة توضيحية، لكن في نطاق ضيق جدًّا للتعرف على طبيعة بعض الأماكن الواردة في رواية -زقاق المدق- لتصوير المباني السكنية والشوارع، وتوضيح مدى ضيق هذه الشوارع واتساعها، وكذلك مدى تقارب المباني السكنية وتباعدها. وكنت اتمني أن استخدمها في بنسيون ميرامار محطة الرمل بالإسكندرية ولكن لظروف البلد فترة كورونا لم اتمكن من فعل ذلك، هي بالفعل أداة جديدة في مجال علم اجتماع الأدب.
جعلت القارئ وكأنه يشاهد لوحة فنية عن عمل أدبي مكتوب لنوضح مدى التقارب بين الواقع والإبداع وخاصة بعد إجراء مقابلة مع "عبد الجليل عبده" حفيد المعلم "علي يوسف" صاحب مقهى الزقاق الذي أكد على أن كل شيء تغير ولكن صمدت تلك القهوة أمام رياح التغيير فبقيت كما هي على وضعها، وما زال بيت أم حميدة موجود وشرفتها المصنوعة من الأرابيسك -المشربية- ما زالت على وضعها، أكد ذلك حفيد صاحب المقهى بقوله: "إن أسوأ شيء في الرواية أن الكاتب ذكر كل الأماكن باسمها ولكن مذكرش اسم شخصية صاحب المقهى الحقيقية المعلم علي يوسف وسماها قهوة المعلم كرشة.
◘ أخيرًا.. هل سنرى الرسالة قريبًا في كتاب متاح للقراء وخارج أسوار الجامعة؟
أتمنى أن تنشر رسالتي في كتاب يكون متاحًا للقارئ العادي، ولا يكون الأمر مقتصرًا على الباحث الأكاديمي.