مين يشترى وقت؟.. تشتروا وقت يا شباب؟
أظن أن من بين قرائنا من يتذكر ذلك المشهد الذي يظهر فيه الفنان حسن يوسف في أحد الأفلام وقد حمل كلباً يستدرج به الجنود الإنجليز ليتمكن هو ورفاقه في المقاومة من قتل جنود الاحتلال، مناديا عليهم: "تشتري كلب يا خواجة؟".
مجرد مشهد في فيلم سينمائي قديم لا أدري لماذا استدعته ذاكرتي حين رأيت على صفحات السوشيال ميديا إعلانًا ممولًا لإحدى قنوات "بئر السلم" غير المصنفة، تعرض فيه استعدادها لبيع أوقات هواء لمن يرغب من الإعلاميين ومقدمي البرامج، وقد ذيّلوا الإعلان بعبارة "فرصتك جت".
أخذني الفضول للبحث خلف تلك "الفرصة" والحالمين بها بتصفح تعليقات رواد التواصل الاجتماعي الذين تفاعلوا مع الإعلان بتعليقاتهم في محاولة لمزيد من استيضاح الأمر، وكما تفهّمت دوافع ذلك الشباب الطموح الذي بادر بطرح أسئلة عن سعر الهواء وكيفية التعاقد ومدى إمكانية شراء حلقتين أو ثلاث إلى آخر هذه النوعية من الأسئلة المشروعة التي يطرحها شباب قد يكون فيهم من الموهبة والطموح والدراسة الأكاديمية ما يؤهلهم للظهور على الشاشات، لكن فرصهم في تحقيق حلمهم بالنجومية والظهور الإعلامي صارت محدودة، وتأتي محدودية الفرص مسألة مقبولة بل ومطلوبة في مرحلة مراجعات تعيشها عدد من القنوات الفضائية المصنفة، تُراجع فيها سياساتها العامة وبرامجها وعوائدها الإعلانية.
المهم أنني، وبدافع الفضول المهني، تتبعت تعليقات عدد ممن وصل إليهم ذلك الإعلان، بعض السائلين يعرف وجهته وحدد مراده، فإحداهن سألت عن سعر الهواء في برنامج فاشون، وآخر سأل عن فرصة تقديم برنامج للسيارات، وثالث وضع لينك لأغنية مهرجانات صنعها آملاً بالطبع أن تتبناها القناة وتتبناه هو شخصيًا مع أغنيته، ومن بين التعليقات التي لفتت انتباهي تعليق أحد أصحاب الطموح بقوله: "ممكن تاخدوني ومدفعش فلوس؟ والله أنا إعلامي شاطر بس مش لاقي ربع فرصة".
والإيجابي في الأمر أنني وجدت من بين التعليقات ما يثلج الصدر ويطمئن على ذائقة المشاهد المصري، إذ سأل بعضهم: من أين يتم البث؟ وهذا يشير إلى إدراك السائل طبيعة مثل تلك القنوات، وأنها لا تتبع ترددات النايل سات وإنما هي قنوات يتم بثها على أقمار أخرى على ذات مدار القمر المصري، ويتم التقاط بثها من خلال النايل سات بصورة غير قانونية.
كان من بين التعليقات المعارضة لطريقة القناة في تسويق نفسها، والتي تمكّنت من رصدها قبل أن يحذفها أدمن الصفحة، ما كتبه أحدهم من أن "القنوات المحترمة يكون لها إدارة تسويق ولا تقوم على سرقة جهد البسطاء والمتاجرة بأحلامهم"، وأضاف أن واجبهم هو شراء حقوق الأفكار البرامجية المتميزة ومكافأة فريق العمل وليس العكس، ووصف المسألة بأنها أشبه بقنوات بئر السلم، وذيّل تعليقه بقوله: "عالم مفلسة والله".
والتزم أدمن صفحة القناة بتعليق ثابت "تم الرد على الخاص"، في رده على غالبية التعليقات المستفسرة، في حين تجاهل المنتقدين، بل إنه يقوم تباعا بحذف التعليقات الرافضة لهذا الأسلوب، غير أنه وبذكاء تجاري رد على العام فيما يخص سؤال أحدهم من أنه ليس خريج إعلام ولكنه خريج تجارة وشاطر، فرد عليه مروج السلعة مؤكدًا أنه لا يشترط التخصص الدراسي!
متابِعة أخرى كتبت متسائلة: «بيع الساعة بكام؟ وهل يا ترى فيه خصم على الكلام الفارغ اللي يجيب مشاهدات؟ وهل هذا هو إعلام العصر؟».
ولهذه السيدة ولكل الغيورين على إعلام ينطق باللهجة المصرية وينطلق من أرضها أقول: لا يا سيدتي ليس هذا هو إعلام العصر، إنه إعلام المفلسين فكريًا الذين يستغلون أحلام الشباب ويتاجرون برغبات الحالمين بالشهرة دون مؤهلات.
والسؤال لكل الذين يمكن أن يخدعهم ذلك العرض هو: ماذا بعد أن تتم الصفقة؟ هل ستتحقق لكم الشهرة التي بها تحلُمون؟ وهل ستقدمون أنفسكم- كما يفعل أمثالكم من غير المؤهَلين- على أنكم الإعلامي فلان والإعلامية الفلانية؟ وهل سيقف بكم طموحكم عند هذا الحد أم ستكونون ضحايا جددا لآخرين يزجون بكم في أتون لعبة أخرى لمزيد من الاستغلال وجمع الأموال؟
جرت العادة أن يكون هناك صانع للمحتوى ومتلقٍ لها، فماذا يحدث لو أصبحنا كلنا صُناع محتوى؟ وإذا كانت السوشيال ميديا قد أتاحت لنا أن نصنع إعلامنا، أفلا يكفينا هذا؟ وهل لا بد أن نقحم أنفسنا في مهن الآخرين دون خبرات ولا مؤهلات حتى نتحقق؟ ومتى تتيح القنوات والإذاعات الرسمية فرصًا جديدة للموهوبين الحقيقيين لتسد العجز في كوادرها ولتستوعب هذا السيل من الموهوبين ومن خريجي كليات الإعلام الحكومية والخاصة؟ ومتى تمارس نقابة الإعلاميين دورها في الحفاظ على المهنة بالتصدي لهذه الخروقات التي أحدثت تصدعات في جدار الثقة بين المواطن وإعلامه المهني النزيه؟