تجربة تاريخية.. تكنولوجيا تخزين الحبوب تحمى الدولة المصرية من مجاعات عالمية
«هنرجع لأيام سيدنا يوسف».. وردت هذه الجملة على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسى، أمس، خلال افتتاح مشروع «مستقبل مصر» للإنتاج الزراعى، أثناء حديثه عن أهمية مشروع صوامع تخزين السلع الغذائية والحبوب، التى نفذت فى مصر، على مدار السنوات الماضية، لضمان الاحتفاظ بالغذاء وتخزينه بطريقة سليمة وعصرية، وعلى رأسها محصولا القمح والذرة، وذلك فى مواجهة أزمة الغذاء العالمية المتزامنة مع التغيرات البيئية الحادة.
ذلك الربط التاريخى بين قصة نبى الله يوسف وإدارته الحكيمة لخزائن الأرض للخروج من المجاعة، وفقًا للرواية القرآنية، وبين تطور قدرات المصريين منذ الأزمة القديمة فى تخزين الحبوب والغذاء، اجتذب رواد مواقع التواصل الاجتماعى، وسلط الضوء على تعامل مصر، فى أزمنة مختلفة، مع أزمات نقص الغذاء، التى طالما هددت العالم وأثرت على تاريخه، وعلى مسار الأحداث السياسية والسكانية فى مختلف بقاع الأرض.
وطالما شكلت المجاعات الكبرى جزءًا مهمًا من تاريخ العالم، وأثرت بشكل كبير على استقرار المجتمعات القديمة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وسقطت مصر بين براثنها أحيانًا، وإن استطاعت أن تنجو فى أحيان أخرى بحسن تدبيرها واستعداداتها المسبقة ونجحت فى أن تحقق الأمان لشعبها، وأن تدعم قوتها وتبسط نفوذها السياسى والفكرى والعلمى على محيطها.
تلك المفارقة فى التعامل المصرى مع الأزمات المناخية، تظهر فى مرحلتين تاريخيتين مهمتين، أولاهما هى مجاعة القرن الـ٢٢ قبل الميلاد، والتى أدت لانهيار المملكة المصرية القديمة، والثانية فى التعامل مع أزمة «شعوب البحر»، التى ضربت المجتمعات القديمة فى شرق وجنوب المتوسط فى القرن الـ١٢ والـ١٣ قبل الميلاد.
ونجم أقدم المجاعات التى أثرت فى تاريخ مصر والعالم قبل ٤٢٠٠ عام، وفق ترجيحات بعض العلماء، عن تغير بيئى حاد، وأسفرت عن أزمة غذائية كبرى فى القرن الـ٢٢ قبل الميلاد، وتسببت فى الانهيار المتتالى لمجتمعات الحضارات الأقدم على وجه الأرض، ومن بينها المملكة المصرية القديمة والدولة الأكادية فى العراق، وحضارة السند، وكذلك بعض الممالك القديمة فى الصين.
تلك الموجة من الجفاف الضخم، كانت موضوع تقرير نشرته مجلة «نيتشر» البريطانية ذائعة الصيت، وتحدثت فيه عن التغيرات البيئية الشهيرة، التى ضربت الكرة الأرضية فى الأزمنة القديمة، وأعادت ترتيب أوراقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وأوضحت مجلة «نيتشر»، فى تقريرها، أنه من غير الممكن، رغم الترجيحات، أن يجرى التأكد من تاريخية حدوث المجاعات فى تلك الأزمنة القديمة، أو التحدث عن أسبابها أو آثارها البيئية والسياسية والاجتماعية، وذلك لصعوبة تفسير البيانات غير المباشرة، التى يقدمها علماء المناخ، وكذلك صعوبة ربطها بالتاريخ الدقيق.
ونوهت بأن طريقة التأريخ باليورانيوم، والتى تعتمد على التحلل الإشعاعى، يمكن أن تعطى تواريخ مشكوكًا فى صحتها، أى أنها ليست دقيقة بما يكفى للتعويل عليها فى توثيق الأحداث التاريخية.
ونقلت عن ستايسى كارولين، عالمة المناخ القديم بجامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، قولها: «ما حدث هو أن كثيرًا من السجلات المستخدمة لوصف حدث عالمى تم قبل ٤٢٠٠ عام لم تكن مخصصة من الأصل لهذا النوع من التحليل»، ما يعنى أن العديد من تلك السجلات ذات دقة منخفضة، ولا توجد علامات يمكن التأريخ بها بالقرب من وقت الحدث.
كما نوهت «نيتشر» بأن العلماء يختلفون بشدة فى طبيعية ما حدث قبل ٤٢٠٠ عام، رغم الترجيحات بحدوث موجة جفاف كادت تؤدى إلى مجاعة إقليمية فى الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط، وربما حتى مجاعة عالمية، خاصة أن تأثير المجاعة قد يكون امتد لعدة مناطق من العالم المعروف وقتها.
ووفقًا لعالم الوراثة ناثانيال جينسون، فإنه من غير المحتمل أن تكون المجتمعات البشرية قد ازدهرت بطريقة كبيرة فى القرن الـ١٣ قبل الميلاد بعيدًا عن مناطق الشرق الأوسط وحوض المتوسط وشمال إفريقيا، ما يعنى أن موجة الجفاف المحتمل أنها ضربت هذه المنطقة قد تكون قد أثرت عمليًا على العالم المعروف آنذاك.
وحول مناطق انتشار إحدى أكثر المجاعات تأثيرًا عبر التاريخ، نقلت مجلة «نيتشر» عن عالم الآثار هارفى فايس قوله: «لدينا بلاد ما بين النهرين ونهر النيل وبحر إيجة والبحر المتوسط على طول الطريق إلى إسبانيا»، مضيفًا أن جميع تلك الأماكن، وقبل ٤٢٠٠ عام، تعرضت لموجة من المناخ الجاف، أدت لانهيار السلطات المركزية، وجعلت الناس ينتقلون بحثًا عن الأراضى الخصبة.
ويوضح «فايس» أن السجلات المجمعة من جميع أنحاء العالم تظهر جفافًا كبيرًا فى تلك الفترة، موضحًا أن ذلك الحدث لم يقتصر على مصر ومحيطها فقط، لكنه وصل إلى الأمريكتين، ورما امتدت آثاره إلى ولاية كولورادو بالولايات المتحدة وحتى إلى أمريكا الجنوبية نفسها.
وأشارت «نيتشر» إلى أن هناك أدلة على أن تلك الموجة من الجفاف والتصحر زحفت إلى الهند والجزيرة العربية وشمال إفريقيا، وبقية بلدان البحر المتوسط والشرق الأوسط.
ونوهت بأن ذلك ربما أثر على المجتمعات المستقرة على أطراف الدول الكبرى، وكذلك دول المدن، التى كانت منتشرة فى ذلك الوقت، وربما اضطرت شعوبها للارتحال إلى تلك الدول للبحث عن الغذاء، ما أدى لضغوط على المجتمعات الحضارية الكبرى، التى لم تكن تستطيع توفير الغذاء للعالم أجمع، فضلًا عن مواجهة الاضطراب فى مجتمعاتها المحلية، فانهارت تحت وطأة تلك الضغوط المتزامنة.
وفقًا للتأريخ المصرى المعتمد، فقد بدأت المجاعة فى عام ١٧٠٨ قبل الميلاد، وربما انهار إثرها العديد من الدول والمدن، أو انتقلت شعوبها إلى مصر لشراء الحبوب وبيع الماشية، أو حتى للغزو والنهب.
فى المقابل، تشير السجلات التاريخية إلى تعامل مصر الناجح مع فترات المجاعات فى العالم، واختلافه عمَّا حدث فى نهاية الدولة القديمة، فإن كانت الدولة القديمة قد سقطت تحت وطأة أزمة القرن الـ٢٢ قبل الميلاد، فإن مصر استطاعت فى المقابل مواجهة الظروف الناجمة عن جفاف محتمل فى عصر الغزوات المعروفة بهجمات «شعوب البحر»، التى ضربت الشرق الأوسط، قدومًا من حوض المتوسط، فى القرن الـ١٢ قبل الميلاد، وأدت لانهيار المملكة الحيثية ودول ممالك شرق المتوسط، وعلى رأسها أوغاريت.
ويشير الباحثون عادة إلى عبقرية المصريين منذ العصور القديمة فى التعامل مع أزمات الغذاء المختلفة، وابتكار آليات متطورة لتخزين الحبوب بشكل خاص، والغذاء بشكل عام، تتناسب مع البيئة المصرية، وهو ما جعل مصر تتجاوز كثيرًا من الأزمات العالمية المشابهة.
فيما ينوه البعض بأن أحد نماذج تلك العبقرية يتمثل فى قصة نبى الله يوسف، التى حدثت فى مصر وفقًا للرواية التوراتية والقصة القرآنية، واستطاع خلالها التعامل مع مجاعة امتدت لسبع سنوات، وظهرت فى رؤيا الملك لسبع سنبلات خضر وأخر يابسات.
وتمثلت آلية التعامل مع أزمة الغذاء، وفقًا للرواية الدينية، فى مقترح لتخزين الحبوب من سنوات الرخاء، عبر ترك القمح على سنابله إلا قليلًا، حتى لا تأكله الحشرات، مع الاقتصاد فى الأخذ منه إلا بقدر الاحتياج، وادخار الباقى منه للسنوات الصعبة المجدبة.