ليست آخرهم شيرين.. شهداء الكلمة فى تاريخنا
لطالما أبهرني ذلك المونولوج المسرحي المتمثل في بعض الأبيات التي كتبها المبدع الراحل عبدالرحمن الشرقاوي في مسرحيته الشعرية عن الإمام الحسين رضي الله عنه، وكم أمتعني أداء العمالقة من رموز الفن أمثال: محمود ياسين، كرم مطاوع، نور الشريف، عبدالله غيث، أحمد خليل لتلك الأبيات التي تحدث فيها الشرقاوي عن قيمة الكلمة منشدًا:
"أتعرف ما معنى الكلمة؟.. مفتاح الجنة في كلمة.. دخول النار على كلمة.. وقضاء الله هو كلمة.. الكلمة لو تعرف حرمه زاد مزخور.. الكلمة نور .. وبعض الكلمات قبور.. وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري.. الكلمة فرقان ما بين نبي وبغي.. بالكلمة تنكشف الغمة.. الكلمة نور.. ودليل تتبعه الأمة.. عيسى ما كان سوى كلمة أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين.. فساروا يهدون العالم.
الكلمة زلزلت الظالم.. الكلمة حصن الحرية.. إن الكلمة مسئولية إن الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة".
كلمات راقية تهذب النفس وتعلي من قيمة الكلمة وتحتفي بها، مشهد تمثيلي مقنع تمامًا وخاصة حين يؤديه باقتدار عمالقة فن التمثيل بأداء هو الأروع والأصدق، هكذا كانت تلك الأبيات بالنسبة لي فيما مضى لكنها اليوم اكتسبت معنى جديدًا في يقيني، نعم فبعد سنين طويلة أمكنني أن أستشعر مذاقًا مختلفا للكلمات وأن أصل إلى أبعاد أخرى لمعاني المفردات، تفسيرات لم تكن لتصل إليك لولا موقف عابر أو حادث مزلزل ذلك هو ما حدث معي تجاه كلمات الشرقاوي عن الكلمة بمجرد سماعي نبأ اغتيال الإعلامية الفلسطينية الشجاعة والمتميزة شيرين أبو عاقلة.
تابعت المسيرة المهنية لأبو عاقلة كغيري من عموم المصريين والعرب عبر الفضائيات كمتابع أولًا، ثم كمهني يبحث عن المجيدين ليتعلم منهم بالتقليد وباقتفاء أثرهم وبحثًا عن سر قوة تأثيرهم، وأذكر أنني أنجزت قبل سنوات برنامجًا خاصًا بعنوان "ربات الكلام" استعرضت خلاله مسيرة عدد من رموز العمل الإعلامي من الفضليات في عالمنا العربي باحثًا عن أبرز الرموز النسائية في مجال الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، بالطبع كانت شيرين أبو عاقلة إحداهن مع غيرها كثيرات.
رحبت أبو عاقلة بالاستضافة الهاتفية غير أنها ولأنها مهنية رهنت موافقتها بموافقة القناة التي تعمل بها، وبالفعل جاءت الموافقة وتم الحوار معها كنموذج للإعلامية التي تعمل تحت النيران وفي ميادين القتال بكفاءة عالية وبثبات وشجاعة الأبطال.. بطلة حقيقية هكذا كنت أراها لأنها كانت كذلك بالفعل ويوم فجعنا برحيلها المباغت الأليم قبل أيام، بكت قلوبنا قبل أن تدمع أعيننا بكينا فيها الشجاعة والعروبة والمهنية.
وبعيدًا عن "الجندر" أو النوع ذكرًا كان أم أنثى سرح بي خيالي لأتذكر عددًا من شهداء الكلمة في واقعنا وتاريخنا العربي الذين لحقت بهم شيرين لتضاف إلى قائمة طويلة من الشهداء الذين قضوا دفاعًا عن موقفهم وتمسكًا بكلمتهم.
أبرز ضحايا "الكلمة" في التراث العربي كان الحسين بن منصور الحلاج، ذلك الشاعر المتصوف العباسي الذي أعدم بسبب شطحات أفكاره وهو القائل: "ما رأيت شيئًا إلا رأيت الله فيه".
وقد حكى ابن كثير أن علماء بغداد قد اتفقوا على كفر الحلاج وزندقته فأجمعوا على قتله بينما هو يردد: "ظهري حمى ودمي حرام وما يحل لكم أن تتهموني بما يخالف عقيدتي ولي كتب في الوراقين تدل على سنتي، فالله الله في دمي".
شهيد آخر من شهداء الكلمة والموقف هو الأديب ونقيب الصحفيين المصريين يوسف السباعي الذي اغتيل في قبرص على خلفية تأييده للرئيس السادات في مبادرته للسلام مع إسرائيل ومرافقته له في رحلته إلى القدس عام ١٩٧٧، وقبيل سفر السباعي إلى المؤتمر الذي اغتيل فيه حذره كثيرون بسبب هشاشة الوضع الأمني في لارنكا حينها لكنه وبشجاعة الفارس النبيل قال: "لا أريد أن يقولوا إن يوسف السباعي جبن ولا يريد أن يحضر.. لا سأذهب".
ضحية أخرى من ضحايا الكلمة والموقف، هو د. فرج فودة الكاتب والمفكر المصري الذي أثارت كتاباته جدلًا واسعًا بين المفكرين وخاصة حين طالب بفصل الدين عن السياسة.
فحدث أن أصدرت جبهة علماء الأزهر بيانًا كفر الرجل في يونيو ١٩٩٢؛ وبالفعل سقط الرجل مدرجًا في دمه وهو يقول: "يعلم الله أنني ما فعلت شيئًا إلا من أجل وطني" المدهش أن القاتل عبد الشافي رمضان أعلن أنه قتل فودة استجابة لفتوى عمر عبدالرحمن، مفتي الجماعة الإسلامية بأنه مرتد يجب قتله فلما سئل القاتل من أي كتبه حكمت عليه بالردة أجاب أنه لا يقرأ ولا يكتب!
وإبان أحداث سياسية عاصفة شهدتها مصر في ديسمبر ٢٠١٢ سقط الصحفي الشاب الحسيني أبو ضيف، شهيدًا إثر رصاصة غادرة تلقاها على يد قناص بمحيط قصر الاتحادية أثناء اشتباكات بين مؤيدي ومعارضي الرئيس الإخواني محمد مرسي رفضًا للإعلان الدستوري الذي أصدره متضمنًا تحصينًا لقراراته، وقيل إن قتله جاء على إثر نشره تقريرًا صحفيًا حول عفو رئاسي عن مجموعة من المسجونين صدر عن مرسي بينهم شقيق زوجته.
وتمتد قائمة من مضوا غدرًا وغيلة على إثر موقف اتخذوه أو كلمة تفوهوا بها أو يقين اعتقدوه ليتوقف العد عند شيرين أبو عاقلة، لكنه توقف مؤقت بعده يتحرك قطار الغدر ليغتال أبرياء آخرين لم يستطع عدوهم التصدي لهم بالفكر والمنطق والحجة والبرهان فقرر اختصار المعركة ووضع النهاية لتكون بسلاح الغدر والقتل غيلة ليستمر صراع الخير والشر في مجتمع إنساني بدأ بخطيئة قتل قابيل لأخيه هابيل مع بدء البشرية، لتتكرر الحكاية بأحداث مختلفة وبأسماء متعددة لكنها تشهد في النهاية بأن البشر قد فقدوا إنسانيتهم ولغوا عقولهم فقتل قويهم من ظن فيه ضعفًا؛ غير أن هذا الضعيف كان هو في واقع الأمر هو الأقوى بقوة حجته ودفاعه عن الحق والخير والجمال والحرية.