السياسة وأشياء أخرى
أكبر خطأ تقع فيه النخبة المصرية هو اقتصار الاهتمام بالشأن العام على السياسة.. أما الخطأ الثانى فهو النظر للسياسة من منظور عاطفى رومانسى تحكمه شاعرية الهتافات وحبكة الشعارات وسخونة المظاهرات.. إذا كان هذان خطئين كبيرين فهناك خطيئة ثالثة هى الاستفادة من العمل السياسى وتحويله لمصالح مادية ومهنية رغم أن الهدف المعلن منه هو النفع العام.. والأساس فى ممارسته هو العطاء لا الأخذ.. لا ينطبق هذا على الجميع.. لكنه ينطبق على البعض بكل تأكيد.. لهذه الظواهر جذورها فى السياسة المصرية وكان لها انعكاسها على حياة المصريين كلهم بكل تأكيد.. أبرز نماذج الأداء السياسى العاطفى كان الزعيم الوطنى مصطفى كامل بكل تأكيد.. كان خطيبًا مفوهًا.. وصحفيًا صاحب جريدة.. له علاقة صداقة وثيقة بالخديو عباس حلمى الثانى دفعته للعداء الشديد للورد كرومر ممثل الاحتلال الإنجليزى فى مصر ومنافس الخديو عباس على الحكم الحقيقى للبلاد.. فى وقت مبكر امتلك مصطفى كامل صحيفة وحزبًا سياسيًا.. ومساندة من الدولة العثمانية التى كان يقنع المصريين أن مصر تابعة لها وأن لتركيا حقًا شرعيًا فيها.. كان زعيمًا نبيلًا بلا شك.. أنصفته ثورة يوليو وخلدت حياته فى فيلم سينمائى.. لكن هذا النبل لا ينفى أنه أورث السياسة المصرية عيبًا قاتلًا ما زالت تعانى منه حتى الآن.. اختصر مصطفى كامل حياة المصريين وسياستهم فى قضية الاحتلال البريطانى.. لم يكن ثمة حديث عما أصبحنا نعرفه فيما بعد بـ«التنمية» أو «التقدم» أو «الإصلاح الاجتماعى»، والمفاجأة أنه كان يتبنى مواقف رجعية جدًا فى القضايا الاجتماعية حتى يكون قريبًا من مزاج الجماهير... والأهم أن أنصاره فى الحزب الوطنى طرحوا شعارًا رومانسيًا أصبح دليلًا على السذاجة السياسية فيما بعد وكان الشعار يقول «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء».. وهو ما جعل البعض يتساءل ساخرًا.. وعلى ماذا سيكون التفاوض إذًا.. ما دامت إنجلترا ستقوم بالجلاء عن مصر؟.. ثم ما هى تلك القوة الجبارة التى ستدفع إنجلترا للجلاء دون تفاوض على ما تريده!.. قادت هذه الرومانسية والعاطفية، الحزب الوطنى إلى الاضمحلال بعد هزيمة تركيا فى الحرب العالمية الأولى وعزل الخديو عباس الراعى السياسى للحزب.. ظهر جيل جديد من السياسيين المصريين فى ثورة ١٩١٩ يمكن وصفه بأنه أكثر واقعية وأكثر ثقافة وأكثر وعيًا بالعالم وكان رمزه هو الزعيم الكبير سعد باشا زغلول.. لكن هذا الجيل العظيم رغم كل مميزاته ورث العيب الأساسى من الحزب الوطنى وهو حصر قضايا مصر كلها فى القضية السياسية وتأجيل كل الملفات الأخرى لما بعد الجلاء.. وللأسف الشديد تأخر الجلاء سبعين عامًا كانت مصر تقف فيها محلك سر.. كانت هناك حالة من الرخاء لدى طبقات معينة سببها ارتباط الاقتصاد الزراعى المصرى بمصانع النسيج فى لانكشاير.. لكن مصر لم تتجاوز هذه النقطة.. المستشارون الإنجليز للوزارات المصرية أضافوا كثيرًا من الخبرة للجهاز الإدارى المصرى بسبب جودة تعليمهم وخبرتهم الكبيرة، لكنهم أبقوا مصر فى حدود كونها مزرعة كبيرة للقطن الذى تحتاجه المصانع الإنجليزية.. منذ ثورة ١٩١٩ كانت المفاوضات والجلاء هما محور حياة المصريين.. من مفاوضات إلى مفاوضات.. حصلت مصر على الاستقلال وشكل سعد زغلول الوزارة ثم أرغم على الاستقالة.. وخاض محمد محمود وإسماعيل صدقى ومصطفى النحاس وتوفيق نسيم مفاوضات مع الإنجليز لم تسفر عن شىء، وقوض مصطفى النحاس قواعد اللعبة السياسية حين ألغى معاهدة ١٩٣٦ مع الإنجليز.. اشتعل الموقف فى القناة وقتل الإنجليز شهداء الشرطة فاندفع الناس لإحراق قلب العاصمة التجارى ومئات المحلات الأجنبية التى كانت تجعل مصر قبلة الاستثمار العالمى فى العالم، من ١٩١٩ إلى ١٩٥٢ قامت ثلاث ثورات شعبية تتفاوت فى قوتها، فضلًا عن مظاهرات يومية فى بعض الأحيان.. كان ذلك أمرًا نبيلًا وعظيمًا وتعبيرًا عن عواطف دينية ووطنية، لكنه لم يفد مصر فى شىء.. حين قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ وجدت أمامها عشرات من مشروعات التنمية كان يجب أن تنفذ منذ عقود.. كل ما نفذته يوليو كان مشاريع قديمة لم تجد الحكومات المصرية جهدًا لتنفيذها نتيجة انشغالها بقضية واحدة ووحيدة وهى القضية السياسية.. لسبب ما مجدت ثورة يوليو كل الفورات السياسية ذات البعد العاطفى وأعادت تكريم أصحابها.. انتقل هذا البعد العاطفى والدينى والقومى للسياسة المصرية بعد يوليو مع وجود إنجازات لا تخطئها عين على الأرض.. كانت هناك حركة تصنيع وقطاع عام واستصلاح أراضٍ وتوسع فى التعليم والرعاية الصحية، لكن هزيمة يونيو قضت على كل شىء.. ونحن مقبلون على حوار وطنى جاد، يجب أن ننتبه لأن السياسة ليست كل شىء.. على الحوار أن يتسع ليشمل محاور واضحة عن «هوية مصر الحضارية» و«الإصلاح الاجتماعى لأحوالنا» و«خطط التنمية خلال العشرين عامًا القادمة» و«القوى الناعمة المصرية» و«التصنيع والتصدير كوسيلة للعبور من الأزمة».. كل هذه قضايا لا غنى عن طرحها والاستماع لرؤى شابة وجديدة وجادة فيها.. أما إذا أعدنا إنتاج ما نفعله منذ بداية القرن أو حتى منذ تسعينيات القرن الماضى، بنفس العناوين، والمحاور، نفس الشخصيات تقريبًا فنحن نضيع فرصة جادة لكى نخطو للأمام.. نريد قضايا جديدة ورؤى جديدة وأصواتًا جديدة.. وإلا فإن النتيجة ستكون إعادة إنتاج الماضى بكل عيوبه وأخطائه وهزائمه.. ألا قد بلغت.. اللهم فاشهد.