الاختيار 3.. بين الواقع والخيال «18»
الإخوان كانوا أحد أسباب الفتنة الطائفية فى مصر منذ السبعينيات حتى 30 يونيو
كنت شاهدًا على تأسيس محمد عبدالعزيز لتمرد وكان انطباعى عنه أنه شخص مسئول وأهل للثقة
الجيش قدم تقديرات موقف مختلفة لمرسى وهذا معناه أنه كان يهدف للإبقاء على نظامه وإصلاحه من الداخل
الإخوان فشلوا فى السياسة وفى إدارة الحياة اليومية وعلقوا فشلهم على شماعة المؤامرة
مشكلة الإخوان أن ما فى داخلهم عكس ما يظهرون وما فى عقلهم الباطن عكس ما فى عقلهم الواعى وهذه إحدى علامات الخلل العقلى والنفسى
أعادتنى الحلقة ٢١ لذكريات تاريخية نقشتها الأحداث على ورق الذاكرة.. وكان المعنى الذى يلح علىّ أن الأحداث اليومية التى كنا نعاصرها فى تلك الأيام تحولت إلى تاريخ يُدون وفصول تُروى وهى مسألة لا تتكرر كثيرًا ولكنها تحدث فى الفترات المفصلية التى يتوقف على ما يدور فيها المستقبل.. ومن الذكريات التى توقفت عندها كثيرًا مشاهد تأسيس حركة تمرد على يد المحامى الشاب محمد عبدالعزيز والصحفى الزميل حسن شاهين ومجموعة أخرى من الشباب.. كنت وقتها رئيسًا لتحرير جريدة «الصباح» اليومية المعارضة للإخوان، والحقيقة أننى انضممت للصحيفة بعد الإعلان عن تأسيسها وانضمام أعداد كبيرة من الصحفيين لها.. ومع تعطل صدور الجريدة لمدة أربعة أشهر.. فاتحنى رئيس مجلس إدارتها فى أن أتولى رئاسة التحرير التنفيذية لها وأن أخرج بالصحيفة إلى النور فى أقرب وقت.. كانت الفوضى هى العنوان العريض للمرحلة.. وكان ذلك ينطبق على الإعلام كما ينطبق على كل شىء آخر.. وكان عدد كبير من الشباب الذين يتواجدون فى ميدان التحرير أو على أطراف الأحداث يقدمون أنفسهم على أنهم صحفيون دون سابق خبرة أو اشتغال بالمهنة من الأساس.. وكان هؤلاء يتوجهون صوب أى مشروع إعلامى جديد بحثًا عن فرصة للعمل أو الكسب الحلال أو التواجد والتأثير.. وكانت مأساة الصحيفة التى توليت مسئولية إصدارها أن الشبان الذين يقصدونها لم يمروا بأى فلتر مهنى.. فلا اختبارات قبول ولا مقابلات شخصية ولا سير ذاتية تتم دراستها ولا النظر فيها قبل قبول الصحفى للعمل فى الجريدة.. كانت صحيفة مفتوحة للجميع.. ولم أكن أكره هذا لأنى أؤمن بأن أرض مصر تمتلئ بالذهب والغالى والنفيس كما تمتلئ بالطوب والحصى والزلط، وأن علينا أن ننقب عن الغالى فنصقله ونضيف له ونتجنب الرخيص ونضعه جانبًا.. فى هذه الظروف تعرفت على المحامى الشاب محمد عبدالعزيز الذى كان يتردد على زملاء له فى جريدة «الصباح».. وكان انطباعى عنه أنه شخص مسئول، وأن إحساسه بالمسئولية يفوق سنه.. كان يتردد على الجريدة وكأنه أحد العاملين فيها ولم يكن هذا يزعجنى رغم أن أى رئيس تحرير قد يزعجه وجود شخص غير صحفى فى صالة التحرير بشكل يومى.. لم أكن على علم بالتفاصيل ولم أكن أثق كثيرًا فى تفاعلات السياسة فى تلك الأيام، حيث كانت مواقف القوى المختلفة من الإخوان تتغير من التحالف للعداء.. للتنسيق.. للتفاوض.. ولم أكن أثق كثيرًا فى جدوى هذا.. اعتبرت أن علاقتى العاطفية بثورة يناير انقطعت برحيل حسنى مبارك، وانزعجت للغاية من كل ما حدث بعد ذلك ولم أشارك فيه لا فعليًا ولا عاطفيًا.. قاطعت الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية لأننى من المستحيل أن أصوت لمرشح الإخوان وكنت أرى أن الفريق شفيق ليس هو الوجه المناسب لتمثيل الدولة المصرية، وبالتالى فلم يكن أمامى سوى المقاطعة والانفصال عمّا يحدث حتى إشعار آخر.. فى الجولة التى سبقتها منحت صوتى للأستاذ حمدين صباحى رغم عدم وجود أى علاقة شخصية بيننا وكانت وجهة نظرى أن دعمه يقلل من فرص فوز عبدالمنعم أبوالفتوح الذى كنت أسميه مرشح قطر فى الانتخابات الرئاسية.. أذكر أنه قبل تأسيس تمرد على يد محمد وزملائه جاءنى رئيس قسم الأخبار فى الجريدة وسألنى بشكل شخصى: ماذا سنفعل؟.. فقلت له ضاحكًا: سنحرر توكيلًا فى الشهر العقارى لوزير الدفاع.. لم أحرر توكيلًا بالفعل ولكننى قد أرى أن الجيش هو الطرف الوحيد القادر على لجم جنون القوة الذى سيطر على عقل الإخوان وحولهم إلى عربة طائشة لن تتوقف سوى باصطدام قوى.. تمرد كانت فكرة لامعة لمجموعة من الشباب لكنها كانت فكرة رمزية.. لولا مساعدة المصريين وتبنيهم لها لما تحولت من فكرة إلى واقع ملموس على الأرض.. من المشاهد التى لن أنساها أننى شاهدت السيدات فى نادٍ اجتماعى شهير يوقّعن استمارات تمرد ويتنقلن بين الموائد المختلفة لجمع التوقيعات.. كان هذا مؤشرًا لا تخطئه العين بالنسبة لى وأدركت بعده أن هناك شيئًا كبيرًا سيحدث على الأرض وأن الناس وصل غضبهم إلى الحلقوم.. فى أى حدث تاريخى من الطبيعى أن تلقى الضوء على النماذج المشرقة.. فى السياسة كما فى أى شىء آخر هناك من يبدأ بشكل جيد ثم يتم إفساده.. يتورط مثلًا.. أو يستغل ثقة الناس فيه أو.. أو.. أو.. فى هذه الحالة يكون أمام من يكتب التاريخ اختياران.. أولهما أن يذكر فساد هذا الشخص.. فيسىء لما كان طرفًا فيه.. أو يتجاهل وجوده حتى لا يضطر للحديث عما لا يجب الحديث عنه.. هذه حكمة تعلمتها بشكل عام ولا علاقة لها بواقعة معينة.. التاريخ يذكر المحترمين الذين خدموا أوطانهم فقط.. لا يذكر المرتزقة أو الفاسدين أو الذين زلت أقدامهم عن الطريق القويم لسبب أو لآخر، ولعل هذا أفضل للجميع.
جسدت أحداث الحلقة ٢١ بداية وصول الروح إلى الحلقوم.. وظهور دلائل فشل الإخوان على كل المستويات بعد مرور ما يقرب من تسعة أشهر على وجودهم فى الحكم، فقد فشلوا سياسيًا.. واصطدموا بالقوى المدنية وما كان يعرف بشباب الثورة وبالقضاة وبالإعلاميين وبالأزهر والكنيسة.. وفشلوا فى تسيير أمور الدولة العادية واليومية، ولم يكن هناك أى اعتمادات لبناء محطات كهرباء جديدة.. فانقطعت الكهرباء، وكانت حوادث موت الأطفال فى الحضانات حوادث حقيقية تنشرها الصحف، وظهرت الطوابير أمام محطات الوقود لأن الإخوان عجزوا عن تدبير اعتمادات لاستيراد النفط ولأن الدول الشقيقة كان لها موقف من ارتماء الإخوان فى أحضان هذه الدول أو تلك.. وكان الإخوان أساتذة فى تحميل فشلهم لغيرهم وكان هذا أكبر علامات الخلل العقلى للجماعة.. فالمعارضون لهم كلهم بلطجية.. وأزمات الكهرباء كلها مصنوعة و«الواد بتاع الكهربا بياخد عشرين جنيه وينزل السكينة» كما قال مرسى فى خطابه الأخير.. وأزمة البنزين أخت أزمة الكهرباء.. وكل الناس على خطأ والإخوان على حق لأنهم الفرقة الناجية.. وهم لا يخطئون أبدًا.. إلخ.. ومع تصاعد الأزمة تصرف الجيش المصرى بطريقة مهنية سليمة كما اختار لنفسه منذ البداية.. وقدم لرئيس الجمهورية تقديرات متتالية للموقف فى البلاد ونصائح بخطوات معينة يجب اتخاذها لإيقاف حالة التدهور العامة فى البلاد.. لكن مرسى كان يتعامل مع هذه التقديرات بتجاهل بناء على نصائح مكتب الإرشاد.. تقديرات الموقف عمل «إصلاحى» بكل تأكيد.. بمعنى أنها كانت تهدف لإصلاح «نظام» مرسى من داخله والإبقاء عليه إذا عدّل أخطاءه.. ولكن الإخوان كانت لهم حسابات أخرى اتضح أنها خاطئة كالعادة.. أولها الرهان على مساندة جماعات الإرهاب المسلحة لهم، وثانيها الرهان على الدعم الأمريكى والتركى، وثالثها الاعتقاد بأن أحدًا لن يجرؤ على اتخاذ خطوة حاسمة ضدهم، ورابعها اعتقاد غيبى وخرافى بأنهم جماعة «ربانية» كما يصفون أنفسهم وأن النصر سيكون حليفهم، وهو اعتقاد وهمى وخرافى كما أثبتت الأيام دائمًا ويكشف عن خلل عقلى جماعى وتاريخى ومتوارث.
من أهم أحداث الحلقة حادثة الاعتداء على مُشيعى ضحايا أحداث الخصوص فى كاتدرائية الأقباط فى العباسية وإطلاق نار على الكاتدرائية، فى حادث غير مسبوق فى تاريخ مصر.. وكانت الأحداث قد انفجرت فى قرية الخصوص فى القليوبية عقب مشاجرة بين أطفال نتج عنها نزاع مسلح سقط فيه ضحايا من الأقباط.. وتم الاتفاق على أن تُشيع الجنازة نفسها من الكاتدرائية فى العباسية.. لكن مجهولين هاجموا الجنازة وأطلقوا النار على المشيعين وعلى الكاتدرائية نفسها.. وقد تبرأ الإخوان من الحادث واتهموا طرفًا خفيًا بالهجوم.. والحقيقة أن الموقف من الأقباط هو أكثر موقف استخدم فيه الإخوان فكرة التقية وأعلنوا خلاف ما يبطنون ورفعوا شعارات المواطنة والأخوة وهم فى داخلهم يكرهون المسلم المختلف معهم فما بالك بالقبطى؟. وقد تورط عصام الحداد، مستشار مرسى للشئون الخارجية، فكتب منشورًا موجهًا للغرب قال فيه إن المسيحيين هم من أشعلوا الأحداث واضطرت الجماعة للتراجع.. لكن الحقيقة أن الفتنة الطائفية فى مصر لم تبدأ سوى مع سنوات صعود الإخوان فى السبعينيات وخروجهم من السجون، وأن أول أحداث طائفية تشهدها مصر فى الخانكة ١٩٧٢ كانت مع بداية عودة الإخوان.. وفى عام ١٩٧٩ نشرت مجلة «لواء الإسلام» فتوى لمفتى الجماعة محمد عبدالله الخطيب بحرمة بناء الكنائس فى الجيل الأول من المدن الجديدة الذى بدأ يظهر وقتها، وقبلها كان عضو الجماعة وداعيتها عبدالحميد كشك السبب الأول لانتشار المناخ الطائفى فى السبعينيات وكان يهاجم الأقباط أسبوعيًا ويقول للبسطاء إن الإخوان هم الوحيدون القادرون على إخافة الأقباط وتعليمهم الأدب، وفى بداية الألفية أجرى مرشد الإخوان مصطفى مشهور حوارًا مع «الأهرام ويكلى» قال فيه إن الأقباط لا يجب أن يخدموا فى الجيش ويدفعوا الجزية بدلًا عن ذلك.. وقد كانت هذه إحدى مشكلات الجماعة.. فظاهرها عكس باطنها.. وعقلها الباطن دموى وتكفيرى وميليشياوى، وعقلها الظاهر متسامح ومهذب وخفيض الصوت وعاقل.. ومن يعرف جوهرها يكرهها وينزلها حيث يجب أن تنزل، ومن ينخدع بظاهرها يتعاطف مع هؤلاء الذين يتحدثون فى الدين بأصوات خفيضة وابتسامات تحتاج إلى خبرة كبيرة لتدرك كم هى لزجة.. وقولى النهائى فى الجماعة إنها مثل أى مختل عقليًا يحتاج إلى علاج مكثف بالكهرباء ولتقييد حركته بقميص الأكتاف ومنحه جرعات مكثفة من المهدئات والأدوية الكيمائية ومراقبة حالته عن بُعد مع إبقائه معزولًا لخطورته على نفسه وعلى الآخرين.