محمد عبدالمنعم زهران: أنا فى أول طريق لا نهاية له
تحاصرنا أخبار الموت من كل جانب، وبشكل متسارع، خصوصًا فى السنوات الأخيرة؛ فقبل أن ننعى رحيل صديق نفاجأ برحيل آخر وثالث ورابع حتى إننا ألفنا الموت المفاجئ، وصرنا نتوقعه أكثر من الحياة.
كان رحيل القاص محمد عبدالمنعم زهران صادمًا لجميع من يعرفونه، وكان كذلك بالنسبة لى، فأنا واحد من محبى قصصه، وهو كاتب مجيد وإنسان نبيل، وكنت أحرص على لقائه حين أعرف أنه فى القاهرة، لكنه غالبًا ما يترك ذلك للصدفة، كما حدث فى آخر لقاء، فقد مضى زهران سريعًا، ولم أشأ أن أعطله؛ أعرف أنه يأتى- مثل كثيرين- وفق خطة وخريطة زيارات والتزام بمواعيد غير قابلة للتأجيل، ولم أكن أعلم عن معاناته شيئًا، أسأله الجلوس على المقهى قليلًا، فيقول فى ابتسامة وحياء: المرة الجاية، أؤكد ضرورة تحديد لقاء خارج نطاق «الصدفة»، فيقول فى استعجال: لا أريد أن أزعجك، وأتركه يمضى إلى حال سبيله، فأنا لا أريد أن أعطله؛ أعرف أن حضوره إلى القاهرة موقوت بتذكرة العودة إلى المنيا.
لم أتوقع بأى حال من الأحوال أن تكون الكلمات التى قالها لى هى آخر ما أستمع إليه منه وجهًا لوجه، وكنت أتمنى أن أراه فى معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى حضرت فيه إبداعاته، أو أسمع صوته عبر البرنامج الإذاعى «حفل توقيع» بإذاعة الشباب والرياضة، الذى جاء مواكبًا لصدور طبعات جديدة لعدد من أعماله فى القصة والمسرح والشعر عن دار «أكوان»، وتحدثت فيه زوجته الكاتبة سمية عبدالمنعم عن «زهران المبدع والإنسان»، كما تحدثت فى مداخلة موجزة عن عالمه القصصى علّ يكون صديقى قد تسمّعَها قبل أن يمضى إلى عالمه الجديد.
حدث ما جرى ويظل محمد عبدالمنعم زهران معنا بأعماله الإبداعية المؤثرة، فلم يكن مجرد عابر فى ساحة الإبداع، فكل ما قدمه جدير بالقراءة والتأمل، وفيه روحانية خاصة؛ «هو يستكشف فى (حيرة الكائن) روح الكائنات، عبر الاهتمام بما هو بسيط وهامشى وعابر، أو ما يراه كثيرون هكذا، بينما يمثل فى حقيقته الكينونة الإنسانية وفى (سبع عربات مسافرة) يتجاوز الحدث وتداعياته إلى فلسفة الرحلة الإنسانية؛ حيث السفر متواصل؛ فإذ ينتهى بموت العالم، وهذا تقريبًا يوازى حياة البسطاء فى كل مكان، معاناتهم وكفاحهم، حيث تتحول رحلتهم إلى رحلة سرمدية لتمضية الوقت، السكينة التى تغمرهم هى سكينة البسطاء، وبإمكاننا جميعًا أن ندركها فى الواقع، سكينة الرضا والتسليم والقبول. وفى (هندسة العالم) نرى انعكاس تضخيم الأشياء على العلاقات الإنسانية؛ كيف نصنع كرة الثلج، وندعها تدمرنا».
وعالم زهران القصصى حافل ومتنوع ويدعوك للتأمل، وقد وقفت على بعض منه بعد صدور مجموعته «بجوارك حينما تمطر» عام ٢٠١٦ فى مقالة بعنوان #محمد عبدالمنعم زهران.. ينظر إلينا ويقرأنا فى كتاب. وجدته يكتب وكأنه يلعب؛ فالكتابة بالنسبة له «لعبة.. وحكاية لطيفة»، ويحقق ذلك بجدارة حيث التماهى بين الكاتب والقارئ، وتعد قصة «حياة الأحلام» نموذجًا لذلك التماهى، ففى بداية القصة يتأمل القارئ حال البطل الذى «جلس يدخن أحلامه»، وبينما يوغل ونوغل معه فى القراءة نكتشف أن تبادل الأدوار قائم بين القارئ وبطل القصة؛ «ولأننى.. أنا مجرد قارئ يقرأ فى فراشه لمجرد حث النوم على المجىء، فقد تجاهلته واستمررت فى القراءة مندهشًا من هذا الذى رآنى بينما أقرأه فى كتاب يحمل قصته». ثم «وأخيرًا وجدته، غير مرئى تقريبًا من دخان سجائره. كان جالسًا فى هدوء بلحيته الطويلة.. ينظر إلىّ، ويقرأنى فى كتاب». وبقدر ما كان عطاء محمد عبدالمنعم زهران الإبداعى متدفقًا ومميزًا كان عطاؤه فى الواقع الثقافى، سواء فى داخل محافظته «المنيا» أو خارجها، كذلك، ولا شك أن للمقربين من أصدقائه كما لكل مبدع حكاية معه؛ قد تجد سبيلها إلى التدوين آنفًا. أما أعماله الإبداعية فمن المهم طباعتها بالهيئة المصرية للكتاب ضمن سلسلة الأعمال الكاملة.
مونولوج أخير:
بينما أتلمس سماع صوت محمد عبدالمنعم زهران فى العودة إلى أعماله القصصية وتأمل عالمه السردى، أتذكر آخر ما طالعت له على صفحته الشخصية من مونولوج داخلى، يقول: «لكل حدث إيقاع سردى يلائمه وتفاصيل تلائمه وحده ولغة تخصه وحده هى اللغة السردية لهذا الحدث تحديدًا». وحين يقال له: «إذن لن يكون لك أسلوب يخصك فى الكتابة؟». يرد: «فقط لى روح خاصة فى الكتابة؛ مدهش ذاك الكاتب الذى يملك روحًا تحوى عشرات من الساردين». ويتابع: لكل حكاية ساردها المثالى الذى يختلف عن السارد المثالى فى حكاية أخرى. ثم يقول باختصار جميل: لكل حكاية ساردها الملائم تمامًا.. ونجاحك يتوقف على قدرتك على اختياره من متعددين فى روحك. وحين يُسأل: هل تفعل هذا؟ يجيب: «أنا فى أول طريق لا نهاية له».