أنا وأبى فى «شتاء عند الفجر»
فى أجواء هستيرية الصراع العالمى، تعترى النفس ضروب من الجدل؛ حيث الحالة ملتبسة وغامضة ومفضوحة فى الوقت نفسه، ما يدفعنى للشعور بالكآبة. أنطوى على ذاتى، وحيث أواسى نفسى بتأمل الموتى أحن إلى أبى؛ كيف هو فى عزلته الأبدية، وهل من يد تخرجه قليلًا ليشاركنى مجريات عالمنا الحافل بالأحداث وتفاصيلها؟.
وبهكذا قصدت مقابر قريتنا النائية، قلت: السلام عليك وعلى مَن معك، قال: وعليك يا ولدى؛ ما الذى أتى بك إلينا؟. قلت: «حبيت أشرب معاك كوباية جنزبيل زى زمان»، فهلا أتيت معى إلى واحد من مقاهى المدينة. قال: لماذا المدينة، والقرية باتت مكتظة بالعديد منها؟. قلت: «فقط.. أريد أن أصطحبك للمدينة اليوم»، وأضفت ضاحكًا: لغرض فى نفس يعقوب. ابتسم وكأنه يقول: ليتك تعى ما تقول؛ حيث «كل شىء فقد براءته».
اخترت مقهى كبيرًا، وفى جلستنا لم يهتم بالحرب الدائرة على شاشات الفضائيات.
قلت ربما لأنه عاصر حربين عالميتين فضلًا عن حروب كارثية أخرى؛ أقربها لذاكرته تلك التى تفككت على إثرها يوغوسلافيا، ووُصفتْ بأكثر صراعات أوروبا فتكًا بعد الحرب العالمية الثانية، وشهدت أفظع جرائم ضد الإنسانية؛ بما فى ذلك الإبادة الجماعية، وأودت بحياة ١٤٠ ألف شخص؛ طبقًا للمركز الدولى للعدالة الانتقالية.
حاولت لفت انتباه أبى؛ أشرت إلى الشاشة: كل المتصارعين يقولون إنها حرب من أجل «الحفاظ على الأمن القومى»، لكنه أشاح بوجهه قائلًا: لقد ابتذلوا كل شىء؛ «وكأنهم مهرجون فى سيرك تجمعوا لأداء فقرتهم.. وأن علينا الالتزام بالهدوء والاستماع جيدًا، وذلك لأن هنالك تعديلات على الأوامر لهذا اليوم».. ثم أضاف: ألا تتذكر على سبيل المثال لا الحصر ما حدث فى العراق؟.
لم يثرنى سؤاله؛ رغم أنه كان قد فارق دنيانا قبل الغزو الأمريكى للعراق، وما أثارنى فعلًا هو عزوفه عن شراب الجنزبيل وقد كان من عشاقه؛ يعدّه بنفسه ولا يسمح لأى شخص بعمل ذلك. يقول: ليس لأنهم لا يجيدون إعداده، لكن لأن مذاقه يتغير مع تحوّل الطبيعة؛ كانت طبيعتنا عفية ورحيمة، وكنا نأتى به من «الخيران البعيدة»...، وراح يروى حكايته مع الجنزبيل بداية من تقطيعه وطحنه، وصولًا إلى صبه فى الأكواب؛ وختم قائلًا: الجنزبيل الصحى قوامه لزج بدرجة ما، ومذاقه «يضرب فى الدماغ».
مللت الحكاية المكررة، قلت بعفوية: أعرف كل ذلك يا أبى، والآن يحشدون كل شىء دون عناء؛ «وعلينا أن نعمل وكأننا وحيدون فى هذا العالم، كمن ترك كل ما له صلة بالمجتمع الإنسانى من أجل هذه الحملة المقدسة»، أقصد ليجعلوا المذاق سائغًا.
نفض عن ملبسه ترابًا لحق به، وقال بطريقة مسرحية: المذااااق!.. ماذا تعرف أنت عن المذاق؟ إنه مسيرة حياة، لكنكم لا تحسنون الإفادة فى دنياكم. قلت: وما لك ودنيانا؟.. قال: أنا ومَن معى فى عالمنا الخالد نتفرج على حياتكم؛ نرى كيف تفرغون مذاقها بالنيل من قيمتها الجوهرية؛ لصالح أمزجتكم المريبة والشاذة وهلم جرا. ثم أضاف: «أن تضع حالك بمحض إرادتك فى أيادى الآخرين أمر يصعب فهمه، ونتيجة لا تجلب لك إلا خيبة الظن فى النهاية..، ما أقل فهم الإنسان للحياة. تخيل؛ إن معرفة الإنسان تلك التى يظن أنه جمعها واستشف عِبَرَها من تراكم تجارب الآخرين، تصبح غير نافعة عندما يتعلق الأمر بالذات الإنسانية، فماذا استفدنا من هذه التجارب يا ترى؟». احتدَّ أبى قليلًا وهو يسأل: قل لى يا ولدى، ما مستقبل تلك الحرب التى تدور رحاها الآن فى عالمكم؟؛ لصالح مَن يُزَج بأبرياء فى حرب جيوش وميليشيات من أجل تحقيق أطماع دنيئة؟، وبأى زعم يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟.
لم ينتظر إجابتى؛ لكنه عاد إلى هدوئه، وسحب من جيبه رواية بعنوان «شتاء عند الفجر»، وتلا منها على مسمعى بعضًا مما استخلصه أحد المجندين فى ميليشيا عن تجربته فى الحرب؛ قال: «عندما تُدمَر القيم الاجتماعية يفقد الإنسان السيطرة على سلطته المكتسبة، فيوجه ضربته الحاسمة والأخيرة إلى مَن أعطاه تلك السلطة والتى أصابته بجنون العظمة، فتأتى ضربته هذه ليس بدافع القيام بعمل عادل يساعده فى نيل المغفرة من الرب، وإنما لعدم قدرته على ضبط النفس والتحكم بهذه السلطة. وستكون هذه الضربة هى عمله الأخير، لأنه يبدأ فى هذه المرحلة باحتقار ذاته وفى الوقت نفسه باحتقار مَن أولاه هذه السلطة».
عمَّ صمت؛ وعندما يعم الصمت تفقد الكلمات معناها، وبينما يهم أبى بالانصراف فاجأنى بسؤال عجيب: قل لى يا ولدى: «ما الذى يجب أن يفعله أى رجل عندما يكون جالسًا فى غابة ما يقضى حاجته وفجأة يظهر له دب فى مزاج؛ لنقُل غير حسن، فى الوقت الذى نسى فيه هذا الرجل أن يجلب أى سلاح معه؟».
ولم يمهلنى الفرصة لتخمين إجابة؛ قال: تأنَّ يا ولدى، فسوف ترى الإجابة مجسدة فى رواية «شتاء عند الفجر.. حكاية حرب» التى كتبها الروائى الدنماركى مارتن إريكسن، وترجمها الشاعر العراقى الأصل سليم العبدلى؛ أستاذ الفيزياء النووية بجامعة كوبنهاجن.
«الرواية: شتاء عند الفجر.. حكاية حرب- تأليف: مارتن إريكسن- ترجمة: سليم العبدلى- دار ميريت».