حديث «المرافعة الأخيرة»
بين الأرواب السوداء التي طالما ارتدى أحدها سقط. بين أبنائه سقط. في محراب العدالة والأحكام والاتهامات وآمال البراءة ومخاوف النطق بحكم يلقي بالواقفين خلف الأقفاص إلى بحر المجهول سقط. مات ميتة الأساطير، في فمه كلمة وبين أوراقه مرافعة، عاش 83 عامًا لأجل حكم تليه عبارة ثناء «الله ينور يا أستاذ». في الميدان مات.
وفي مواجهته كان أحدهم يحمل هاتفًا مفتوحة كاميرته فالتقط «الصورة الأخيرة»، بينما يسقط الأستاذ وتتلقفه أيادي أبناء جماعته حتى لا يرتطم أرضًا. وثقّت الصورة اللحظة الأخيرة في حياة الأستاذ رجائي عطية، نقيب المحامين (9 أغسطس 1938- 26 مارس 2022).
دقائق قليلة كانت كفيلة بذيوع «الصورة الاستثنائية» على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي القلب منها حسابات الصحفيين الذين انقسموا إلى فريقين؛ أحدهما يرى في نشر الصورة «خروجًا على الإنسانية والمهنية وتجرح أسرته»، وآخر يدافع عن نشرها باعتبارها «صورة صحفية من الدرجة الأولى مخطئ مَن رآها ولم يلتقطها».
هل الصورة عادية؟ وهل هي لشخص عادي؟ وهل سياقها وملابساتها عادية؟ قطعًا «لا». الصورة استثنائية لشيخ ذي وزن وقيمة بين أبناء القانون والمحاماة، وسياقها غير طبيعي، فهي لرجل بلغ من العمر أرذله يقف مدافعًا عن أبنائه المحامين في قاعة المحكمة ليس بصفته محاميًا فحسب وإنما هو رأس الهرم «نقيبًا للمحامين».
صورة مناسبة ومناسبة جدًا لأن توضع في بهو نقابة المحامين.. مناسبة لأن تُدرج في مناهج طلاب القانون في درس عن «أساطير المحاماة»، وكيف أن فارسًا يُدعى رجائي عطية قاتل حتى الرمق الأخير، حتى النفس الأخير، حتى الكلمة الأخيرة. مات ميتة الشهداء.
لا يختلف اثنان على أن الراحل قامة قانونية كبيرة، لكن يطل هنا سؤال ملح برأسه: ماذا لو مات الرجل ميتة طبيعية على سريره؟ ألم يكن للصورة مفعول السحر في التفاعل معها والسؤال عن صاحبها من الجمهور غير الخبير بمناقب النقيب؟ قطعًا لعبت النهاية الدرامية دورًا مؤثرًا في خلق رمزية يفخر بها المحامون لـ«مقاتل سقط في الميدان وفي يده سيف ورمح».
نقل أحد المحامين، الذين حضروا «سكرات الموت»، الكلمات الأخيرة للنقيب، وهي: «إيه الاستقبال الجميل ده؟ أنا بموت.. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله»، ثم سقط.. لكن «ليس مَن سمع كمَن رأى».. الصورة هنا تضعك وتضع القارئ في قلب المشهد.. ترسم المشهد كاملًا في الأذهان.
ندين للصورة بأن أساتذة الصحافة تفاعلوا معها وأدلوا بدلوهم في ميدان «المعايير والقيم» في موسم «الفوضى الصحفية» الذي زجّ بالهوامش في قلب المتن «زمن شورت ويجز ورأي عبير صبري في التعليم المجاني». ندين لصورة «حديث المرافعة الأخيرة» بأن استكتبت الأساتذة سواء أكانوا مع نشرها أم ضده.
ما أحوج مَن يتحسس خطواته الأولى في بلاط صاحبة الجلالة إلى غنيمة ظفرت بها الصحافة من «اقتتال الأساتذة» بالأقلام والأفكار والرؤى. في زمن «اللايف والترافيك» تتوه البوصلة ويفتقر الصحفيون أنفسهم شيئًا فشيئًا إلى الاهتداء بمعايير ومبادئ تلوك بها ألسنة المتحدثين الأنيقين في المؤتمرات وعلى الشاشات.