عمرو فاروق يكتب: لماذا اغتال الإخوان المقدم محمد مبروك؟
ألقى الجزء الثاني من مسلسل "الاختيار" الضوء على شخصية محورية خلال محاولات تجفيف منابع التطرف والإرهاب التي تولدت بشدة إبان سقوط حكم الإخوان في يونيو 2013، وتشكيل ما يعرف بخلايا اللجان النوعية المسلحة من داخل جدران اعتصام "رابعة" المسلح، تمثلت في المقدم محمد مبروك، مسئول ملف النشاط الديني بجهاز الأمن الوطني، والذي تعرض للاغتيال في 18 نوفمبر 2013 بـ12 طلقة صوت على مقدمة رأسه أثناء مروره بسيارته في شارع نجاتى فى مدينة نصر.
يعتبر المقدم محمد مبروك (الحاج عامر) أحد تلاميذ اللواء أحمد رأفت (الحاج مصطفى رفعت)، أحد العقول الأمنية المصرية التي انحازت بقوة لما يسمى "المراجعات الفكرية"، في محاصرة موجات العنف في تسعينيات القرن الماضي، وتفعيل مبادرة الجماعة الإسلامية، تحت عنوان "تصحيح المفاهيم" عام 2002، وتبعتها بتنظيمات الجهاد المصري من خلال وثيقة "ترشيد العمل الجهادي" عام 2007، التي كتبها الدكتور سيد إمام.
تلقى المقدم محمد مبروك ما يزيد على 10 دورات تدريبية في مجال مكافحة الإرهاب، ما مكنه من استيعاب ملف التيارات الأصولية، وجماعات العنف المسلح، منذ دخوله بوابة جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقا)، برتبة ملازم أول عام 1997، فضلا عن ملازمته المستمرة وقربه الشديد من اللواء أحمد رأفت، الذي تولى مسئولية ملف نشاط الجماعات التكفيرية والمتطرفة بعد اغتيال اللواء رؤوف خيرت، في 16 أبريل عام 1994.
كان مبروك شاهدا على الكثير من الأحداث المتعلقة بجماعة الإخوان والتيارات المتشددة في السنوات الأخيرة من نظام الرئيس مبارك، لا سيما ملف التنيظم الدولي، وملف علاقاتهم بدوائر صنع القرار الأمريكي والأوروبي، فضلا عن دراسته ومتابعته الدقيقة خريطة التنظيمات الإرهابية التي تشكلت في عمق سيناء وزاد نشاطها عقب 2011 مباشرة.
لم يكن محمد مبروك بالنسبة لجماعة الإخوان والتنظيمات الأصولية مجرد ضابط عادي في جهاز الأمن الوطني، لكنه كان بمثابة كمبيوتر مسجل عليه كافة التفاصيل والمعلومات التي من شأنها أن تكشف تورط الجماعة وتدين قياداتها الفاعلة والرئيسية، لاسيما أنهم عملوا فعليا على تنفيذ مشروع يستهدف تسريح مختلف قيادات جهاز أمن الدولة المحسوبين على نظام الرئيس مبارك، منذ أحداث يناير 2011، كنوع من خلق كيانات أمنية جديدة يمكن استخدامها فى المشروع الإخواني في حال عجزهم وفشلهم عن الاختراق التام للجهاز وقياداته وسياساته.
لا يمكن بحال فصل قضية اغتيال المقدم محمد مبروك عن اقتحام مقرات أمن الدولة في توقيتات زمنية واحدة التي تمت في 4 مارس 2011 ، في نفس المنهجية التي استخدمتها جماعة الإخوان وقياداتها في الخلاص من مختلف الملفات التي تدينها وتكشف مخططها، وتدمير مختلف الملفات المحملة بأكبر قدر من المعلومات عن المشروع السياسي للتنظيم الإخواني، كنوع من غسيل سمعة الجماعة وتاريخها أمام الرأي العام، كانت عملية الخلاص من أهم ضابط في جهاز الأمن الوطني في تلك المرحلة لما يحمله من تفاصيل من شأنها أن تسقط النقاب عن الوجه القبيح للتنظيم الإخواني وجرائمه .
عمل قيادات الإخوان منذ وصولهم للسلطة على إبعاد محمد مبروك نهائيا عن جهاز الأمن الوطني، وطالبوا رسميا بتسريحه لصلته الكبيرة بمراقبة نشاط الحركات الأصولية، لكن وزير الداخلية حينها، اللواء أحمد جمال الدين، أبلغهم بضرورة وجود المقدم مبروك، بصفته المسئول عن محاضر تحريات قضية خلية "مدينة نصر"، وحضوره كشاهد أمام القضاء في جلسات المحاكمة، ما يستلزم وجوده في الخدمة.
كان مبروك بحكم عمله ومتابعته ملف جماعة الإخوان في تلك المرحلة، شاهدا على أخطر القضايا التي تمس الأمن القومي المصري، منذ تحركات الجماعة وتجهيزهم مسارات "الفوضى الخلاقة"، التي رسمت سيناريهات إسقاط الأنظمة السياسية العربية، وإحلالها بمكونات الإسلام السياسي، وصناعة ما يعرف بـ"التقسيمات الطائفية والمذهبية"، في عمق المنطقة العربية.
لم تتوقف ضغوط الجماعة للتخلص بقوة من محمد مبروك، فتم نقله إلى فرع الجهاز بمدينة أكتوبر، وأعيد إلى عمله بالمقر الرئيسي عقب ثورة 30 يونيو 2013، وتم تكليفه بجمع التحريات في القضية رقم 371 لسنة 2013 وأصلها 275 لسنة 2013 حصر أمن الدولة العليا، المعروفة إعلاميا بـ"التخابر الكبرى"، وقضية "الهروب من سجن وادي النطرون"، وتقديمها لنيابة أمن الدولة العليا، والتي كشفت عن ترتيبات قيادات الإخوان لمشهد إسقاط النظام السياسي، واتصالاتهم بجهات خارجية متعددة .
ضمّت أوراق قضية "التخابر الكبرى" شهادة المقدم مبروك، وتقريره حول رصد مكالمات هاتفية بين "مرسى" والقيادي الإخواني أحمد محمد عبدالعاطي، الذي كان متواجدا بتركيا حينها، بناء على إذن صادر من نيابة أمن الدولة العليا بتاريخ 9 يناير 2011، وكشفت التنسيق بين قيادات مكتب الإرشاد وعناصر من الاستحبارات الأمريكية بتاريخ 21 يناير 2011، قبل أحداث 25 يناير بعدة أيام، حيث أحاط قيادات الجماعة الاستخبارات الأمريكية بموقفها ودورها في تحريك الشارع، من خلال إعلانها 10 مطالب كانت تتوقع أن يرفضها النظام، ما يساعدها على زيادة تأجيج الأوضاع.
سجلت، أيضا، التحريات والمعلومات التي أدلى بها المقدم محمد مبروك، بشكل دقيق وموثق، تحركات عناصر حماس وحزب الله داخل مصر، بداية من الدخول للبلاد عبر أنفاق غزة، مرورا بعمليات المواجهة مع قوات الشرطة، وحتى الانفصال إلى 3 مجموعات توجهت لتنفيذ مخطط اقتحام سجون وادي النطرون والمرج وأبوزعبل.
كانت عملية اغتيال المقدم محمد مبروك هى المرة الثالثة التي يتعرض فيها لمحاولة الاغتيال، لتحقق نتائجها بمعاونة عدد من ضباط جهاز الشرطة الذين تبنوا الأطر الفكرية للتيار القطبي، وتم استقطابهم وتجنيدهم بما يحقق المشروع السياسي الديني لجماعة الإخوان في قلب القاهرة، في مقدمتهم الضابط محمد عويس، الذي كلف بتقديم كافة معلومات التحرك والمراقبة والأكواد الأمنية الخاصة بالمقدم محمد مبروك، بجانب عدد آخر من ضباط جهاز الأمن الوطني.
اعترف محمد عويس، في تحقيقات النيابة، بتعاونه مع عناصر "تنظيم بيت المقدس" وتسليم معلومات خاصة بضباط جهازالأمن الوطني، وفي مقدمتهم زميله وصديقه الشخصي المقدم محمد مبروك، منها خط سيره ورقمه الكودي ومحل إقامته، بهدف تنفيذ عملية اغتياله، فضلا عن تأثره بالخطاب الديني المتطرف.
اغتيال المقدم محمد مبروك، مسئول ملف النشاط الديني داخل جهاز الأمن الوطني، كان بمثابة رسالة واضحة من قيادات جماعة الإخوان لتنفيذ مسلسل كامل لاغتيال كبار قيادات المؤسسات الأمنية والسيادية، بعد سقوط حكمهم وكشف مخططهم أمام الرأي العام، لاسيما التقارير المرفقة بالصوت والصورة وكافة المستندات التي قدمها المقدم محمد مبروك، والتي من شأنها أن تضعهم جميعا على منصة الإعدام.
كان الجناح المسلح الذي أسسه الدكتور محمد كمال بمثابة اللاعب الرئيسي في قضية اغتيال المقدم محمد مبروك، من خلال تحديد الهدف، وجمع المعلومات اللازمة، والتخطيط الدقيق لتنفيذ السيناريو، وتم إسناد العملية لتنظيم "أنصار بيت المقدس"، لعدة أسباب أهمها إبعاد شبهة الجريمة وفاعليها عن الجماعة، فضلا عن استخدام استراتيجية "الأجنحة المنفذة"، التي يتم دعمها لتدير المعركة نيابة عن الجماعة وقياداتها لتحقيق المشروع القطبي الداعي إلى إسقاط مؤسسات الدولة.
كان تنظيم "أنصار بيت المقدس" ما زال على بيعته لتنظيم "القاعدة"، الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع جماعة "الإخوان" بحكم العلاقة والروابط التاريخية والدعم المباشر بين الطرفين منذ الحرب الأفغانية وما تلاها من ترتيبات نتج عنها إشهار "قاعدة الجهاد"، التي أطلقها أسامة بن لادن، فضلا عن أن المكون "القاعدي" يمثل نتاج جماعة الإخوان فكريا وتنظيميا، كونه أحد مشاريع مصطفى مشهور، المرشد الخامس لجماعة الإخوان ومؤسس التنظيم الدولي.
في النهاية تمكّن قطاع الأمن الوطني من تحديد هوية القائمين على التخطيط والتنفيذ ومحاكمتهم أمام القضاء المصري، بارتكاب 54 جريمة إرهابية، من بينها اغتيال المقدم محمد مبروك، ومعاقبة 37 بالإعدام والسجن المؤبد والمشدد لـ178 آخرين.