نكشف الرسائل المجهولة بين فرج فودة وغالي شكري.. "حول النص والرصاص"(1)
رسائل فرج فودة النادرة ورد شكري عليها "أنت أيها الكافر لا تلزمنا"
الرسائل الأربع المجهولة فى حياة فرج فوة
المجموعة الأولى: من فرج فودة إلى غالي شكري
"الدين ليس لله والوطن ليس للجميع"
لم ينقطع الحوار بين المفكر الراحل فرج فودة وكثير من مفكري عصره، فقد حاور هو ومحمد أحمد خلف الله وفؤاد زكريا العديد من رموز العنف والإرهاب، خاصة في الندوة الشهيرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، عام 1992، المعروفة باسم "الدولة الدينية والدولة المدنية".
لكن الحوار والرسائل المتبادلة بين الراحل والمفكر المعروف غالي شكري هي الاكتشاف الحقيقي الذي يظهر كيف كان يفكر ويتخيل الفكر الديني وعلاقته بالحياة، لذا رأينا نشرها كما يجب لعلها تبين ما كان يعتقد كاتبها في كتابه الذي نشر بعد ذلك باسم "أقنعة الإرهاب"، وأعاد نشرها في سلسلة المواجهة الفكرية، التي نشرت في عام 1993، لمواجهة خطر الأفكار الإرهابية المتطرفة، وإلى تفاصيل الرسائل:
الرسالة الأولى: أرخص ليالي
من الخلف أغمدت رصاصتك، ولكني رأيتك.. رأيت عينيك المفتوحتين على آخرهما، ورأيت فمك المزموم الشفتين، ورأيت العزم في ساعديك.. أنت لا تعرفني، وربما لم تقرأ لي حرفًا، ولكني أعرفك.
أعرفك من قبل أن تأتي إلى هذه الدنيا، منذ لم يجد أبوك وأمك من مسرات الدنيا ولذائذها سوى أن يمنحاك الحياة، تلك هي "أرخص ليالي" يوسف إدريس.
كان أخوتك ينامون تحت فراش والديك.. أربعة جدران تضم الجميع فوق السطوح الساخنة والباردة.. في هذه الغرفة الراقصة شتاء يجود سقفها بماء الشرب هاطلًا من السماء مباشرة وتصلي صيفًا حتى لا تتجاوز الشمس حدودها؛ فلا تُحرق الخبز الذي قددته أشعتها، عشت عمرك مشدودًا بين الرقص المُثلج والصلاة الساخنة.
كان أبوك هو الذي يرسلك إلى العم جرجس لتأتيه بما لذ وطاب من "الجبن والزيتون"، وكانت أمك هي التي تحملك كعك العيد إلى الست جميانة.. وكنت وأخوتك تلعبون في الحارة مع إبراهيم وسعدية وبطرس وحنان وعبدالله وعبدالسيد، تحكون الحواديت وتغنون المواويل وتتعاركون وأنتم تشدون الحبل وأنتم تقفزون السيجة وترمون النحلة.
وكانت الحارة تبدأ بالمسجد العتيق الجميل وتنتهي بالكنيسة التي تصطف بجوارها مقاعد عم علي صاحب المقهى الصغير المتهالك، يجلس عليها الشيوخ والشباب يلعبون الطاولة والكوتشينة.
في السادسة من عمرك ذهبوا بك إلى المدرسة البعيدة من الحي.. ثار الخلاف بين الأب، الذي يريدك أن تتعلم "صنعة" في ورشة النجارة أو الحدادة المجاورة، وبين الأم التي أصرت على أن تدخل المدرسة وتفك الخط.
الرسالة الثانية: البقال والنجار والحداد والشيخ صابر والأسطى علوان
وذات يوم أثناء عودتك من المدرسة- هل تتذكر- قابلك بطرس، فلم تقف وتصافحه، كما هي عادتك.. قلت لوالدتك في السر: لن ألعب معه بعد الآن، لأنه وأهله أجمعين سوف يذهبون إلى النار.. هكذا قال "الأستاذ"، وهكذا قرأت في كتاب المحفوظات.. وطلبت من والدك ألا يرسلك إلى دكان جرجس مرة أخرى، ولم تقل "العم" كما تعودت.. واندهش أبواك من هذا الكلام الذي كبر واستطال عامًا بعد عام.. كان زملاؤك الأقباط يحفظون آيات من القرآن مثلك، ويذهبون كل أسبوع إلى "مدارس الأحد" لقراءة الإنجيل، في شهر رمضان لا يفطرون إلا في المغرب مع والدك وآخرين من أهل الحارة، ولكن هذه العادات تغيرت فجأة.
وذات يوم آخر، وأنت لا تنساه، قال الأب إنه سمع وشاهد في التليفزيون عند أحد الأصحاب كلامًا قريبًا مما سبق أن سمعته في المدرسة عن الكفرة والمشركين وأعداء الله، ولم تفهم والدتك هذا الكلام.. وكانت لا تزال تتبادل الزيارات مع الست جميانة، ولكن والدك طلب إليها أن تزورها في السر، وطلب من أختيك أن ترتديا الحجاب، ولم تفهم الاثنتان سببًا لذلك، ولكنهما فرحتا بالثياب الجديدة.
ولم تستطع أن تدخل المدرسة الثانوية، وفي اليوم الذي قررت فيه أن تقدم أوراقك إلى المعهد المتوسط، ورأيت مشهدًا لم يخطر ببالك من قبل.. وكانت الكنيسة الواقعة في نهاية الحارة تحترق، وقد ازدحم الأهالي وهم يطفئون النيران: عم جابر والحاج محمود والجزار والبقال والنجار والحداد والشيخ صابر والأسطى علوان والمعلم جورج والمقدس عبدالسيد، والجميع، للسيطرة على اللهب فلم يمت أحد، وإن احترقت بعض الكراسي والأبواب والستائر.. وهرولت أنت مسرعًا إلى البيت الذي كان خاليًا، إلا من أخيك الأصغر.
وفي المساء كانت الحارة تضرب أخماسًا في أسداس عما جرى؛ فأنت ذهبت إلى موعدك الذي لم تفش سره لأحد.. قال لك ذلك الشاب الطويل الأسمر: إياك أن تحزن مما رأيته اليوم.. ما هي إلا بداية لنهاية الكفر.. وإياك أن تظن الكفر مقصورًا على غير المسلمين؛ فالكفر يملأ دنيا المسلمين وغيرهم.. الجميع يعيشون في الجاهلية، وإن تلبسوا مسوح الإسلام أو غيرها من الأديان.. أنت الآن تولد مسلمًا للمرة الأولى.. دعك هذه اللحظة من الكفار حتى لو كانوا من أهل بيتك، إنهم أعداؤنا، وأعداء الله ورسوله.. لا تنظر وراءك، واترك كل مالك في الدنيا واتبعني.
الرسالة الثالثة: التوهة والهداية
أصغيت إلى الصوت في خشوع المتبتلين، وفقد الجميع عنوانك منذ ذلك الحين، لم يكن لك عنوان.. كنت تنتقل من عنوان إلى آخر، ربما مرات في الليلة الواحدة، وأمسيت صديقًا لليل والصمت ولغة العيون والخوف والأسرار الغامضة، ولا بد أنك شعرت بأنك جزء متواضع، ولكنه يزداد أهمية في "بيت" كبير له أرض وسقف وجدران ومدخل ومخرج.. أنت من أهل هذا البيت، لست ضيفًا ولا شريدًا في مأوى للعجزة والأيتام وأبناء السبيل، لم يُعد الجوع لأن يتسع هذا البيت ليشمل الدنيا كلها هو الذي يدفئ صدرك بنيران الطموح، لأن يكون لك دور في بناء هذا البيت وتوسيعه.
وفي إحدى ظلمات الليل وفي رقعة من الصمت والسر والخوف الغامض قيل لك إن المُسدس هو الذي يبني البيت الجديد، وهو الذي يحقق وجودك ويكسبه معنى، وبه يظهر الإسلام من الجاهلية الجديدة وتفتح ديارًا للإسلام ما زالت في غيبوبة الكفر.
قيل لك إن لا ولادة بغير الدم، وإنك تولد الآن للمرة الأولى؛ فاحرق الذاكرة التي عشت بها حتى الآن، نحن أبوك وأمك وأخوتك، لا عائلة لك سوانا، لا أمس لك، انسَ كل ما تعلمته وعرفته من قبل، والتاريخ يبدأ هنا والآن، وفي البدء كانت الرصاصة، وفي المنتهى، وكذلك الرصاصة هي التاريخ والجغرافيا، والحياة لمن يطلقها أولًا.
الرسالة الرابعة: المُهمة المُقدسة
كنت صامتًا ترتعد في داخلك، ولكنك كسرت وجهك بقناع نسجته من خيوط الطاعة والصرامة، وحاولت أن تلغي ذاكرتك وأنت تقسم على تنفيذ المُهمة "المُقدسة"، لم تتذكر شيئًا.. كانت أعماقك ترتجف.. في البدء كان القتل وهذا كل ما وعيته وأنت تتلمس الجسم البارد للمدفع الرشاش.. القتل، القتل ثم القتل.. الحرارة تنبثق في رأسك.. ينبوع ساخن يتفجر في أعضائك.
أنت لا تعرفني.. رسموا لك الخرئط والبدائل والوجوه والأزياء، وخطوطا متقاطعة وألوانا وأحجاما وكتلا وفراغات وأضواء وظلالا، كلها من ورق بلا حياة، وحين وقفت تنتظرني كان لديك الوقت لتفكر أو تتأمل أو تتذكر، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث، توقفت كل أجهزة الرأس تعطلت كل الحواس ما عدا العين تقطر والساعد يمسك بالمدفع.
فجأة انبثق داخلك ضوء يشبه الحلم إنك مثل المدفع مجرد قطعة من الحديدا أداة، وسيلة.. وكادت الأسئلة تبرق في مخيلتك: لماذا؟ لماذا؟.. ولكن الوقت قد فات.. ضغطت عليك الأعصاب.. ما علاقة الإسلام بما سيجرى بعد لحظات؟ ماذا صنع "الهدف" هذا الرجل الذي سأذبحه بعد دقائق؟ لمذا سيحدث لأبي وأمي وأخوتي وأهل الحارة ومصر كلها إذا افترشنا الدماء وأظلتنا الكوابيس العمياء، لم تتضح في وعيك الأسئلة.
تشابكت وارتطمت وتداخلت، وشعرت أنك تسبح في ظلمة عاتية، لا ترى، ولا ترى، ولا تدرك، ولا تفهم، ولا تعي، كدت تشعر إنك في مصيدة، إنك وقعت في فخ، أن غسيلًا مدمرًا للدماغ يزهق روحك، ولكن الرصاصة الأولى انطلقت فلم يتوقف الرشاش عن الصراخ الذي قتل كل الأسئلة، ورأيت وجهك في بحيرة دمي يحملق مذهولًا.. الرصاصة لا تبني بيتًا لا وجود له.. الرصاصة لا تمنح دورًا لمن أطلقها.. الرصاصة لا تقتل الكلمات.. رحت أنا في غيبوبتي، وأنت في غيبوبتك، والآخرون في غيبوبتهم.