إمام المتكلمين أبومنصور الماتريدي.. عقيدته وأسرار انتشار مذهبه
يعد الإمام أبي منصور الماتريدي أبرز علماء المتكلمين، وإليه تنسب فرقة "الماتريدية"، التي يعتبر منهجها أساسا في علم التوحيد لدى أغلب المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، لما يحمله المنهج من إعلاء لقيمة العقل في الرد على المخالفين في أمور التوحيد والعقيدة، خاصة أسماء الله وصفاته، ومسائل الإيمان بكل محاورها.
فهو أحد كبار أئمة الخلف، ونظرا لجهوده الكبيرة في هذا الإطار فقد تعددت ألقابه، ومنها إمام الهدى، وعلم الهدى، إمام المتكلمين، مصحح عقائد المسلمين، قدوة أهل السنة، ورافع أعلام السنة والجماعة.
ولا شك أن هذه الألقاب الكبيرة لم تكن مجاملة للرجل، بقدر ما كانت تعبيرا عن اجتهاداته العقائدية التي تمثل منهج "علم الكلام" الذي يعتبر إماما وصاحب مذهب فيه، ولذلك تضعه المعاهد العلمية منهجه على رأس مناهجها ومنها الأزهر الشريف الذي يعتز بالإمام أبي منصور الماتريدي، وينتسب علماؤه إليه.
تعريف علم الكلام ومباحثه:
يعرف العلماء علم الكلام بأنه: " علم يعنى بمعرفة الله تعالى والإيمان به، ومعرفة ما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز، وسائر ما هو من أركان الإيمان الستة ويلحق بها" (1)
يعتمد علم الكلام على المنهج العقلي بجانب النصوص الشرعية في إثبات مسائل العقيدة، مع تغليب الحجج والبراهين العقلية، وتأويل النصوص الشرعية التي توهم التشبيه بما يتناسب مع هذه البراهين*.
"ويقوم علم الكلام على بحث ودراسة مسائل العقيدة الإسلامية بإيراد الأدلة وعرض الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، وإثبات بطلانها، ودحض ونقد الشبهات التي تثار حولها، ودفعها بالحجة والبرهان". (2)
نشأة الإمام الماتريدي
نشأ الإمام أبي منصور الماتريدي في سمرقند على الأرجح في الثلث الأول من القرن الثالث الهجري، وليس هناك اتفاق في المصادر التاريخية على تحديد تاريخ مولده بشكل دقيق، غير أن هناك من أشار إلى أن مولده كان بين عامي 238 هـ و258هـ بناء على قياس عمره بعمر شيوخه. (3) وتوفى على الأرجح ما بين عامي 331هـ، و333 هـ.
شيوخه ومصادر تلقيه
تلقى الماتريدي علوم الفقه الحنفي والكلام على أحد كبار علماء ذلك العصر، وهو نصر بن يحيى البلخي المتوفى سنة 368 هـ، وغيره من كبار علماء الأحناف، كأبي نصر العياض وأبي بكر أحمد الجوزجاني وأبي سليمان الجوزجاني، حتى أصبح من كبار علماء الأحناف وقد تتلمذ عليه بعض المشاهير في علم الكلام، وبالتالي فإن الإمام الماتريدي ينتمي للمذهب الحنفي في الفقه، وينتسب إلى علم الكلام في العقيدة، بل هو أحد قطبي علم الكلام.
يقول عنه كبرى زاده: "إن رئيس أهل السنة و الجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما، حنفي والآخر شافعي، أما الحنفي فهو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي إمام الهدى.. وأما الآخر الشافعي فهو شيخ السنة ورئيس الجماعة إمام المتكلمين وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين والساعي في حفظ عقائد المسلمين أبو الحسن الأشعري البصري" (4).
منهجه العلمي
يحتفي الماتريدي بقيمة العقل احتفاء كبيرا، ويعتبره مصدر التلقي الأول في العلم بالله تعالى ويقسم علم التوحيد إلى سمعيات وعقليات، فالسمعيات هي التي تعتمد على النصوص الشرعية، أما العقليات فهي التي تعتمد في العلم بها على الأدلة والبراهين العقلية.
يقول أحمد اللهيبي: "مصدر التلقي عند الماتريدية هو العقل، وقد صرح بهذا الماتريدي في عدد من كتبه، فقال: "إن العلم بالله وبأمره غرضٌ لا يدرك إلا بالاستدلال" أي بالمعرفة العقلية، وقال في تفسيره لقوله تعالى:(لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [سورة النساء/الآية165] قال: "وأما الدين فإن سبيل لزومه بالعقل فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة.
والماتريدية لا تقول بالقدرة المطلقة للعقل، إذ إن العقل عندهم يدرك ظواهر الأشياء ولا يدرك ماهيتها وحقائقها، يقول الماتريدي موضحا هذا: "إن العقول أنشئت متناهية تقصر عن الإحاطة بكلية الأشياء، والأفهام متقاصرة عن بلوغ غاية الأمر..". وهم بهذا يحاولون أن يصلوا إلى غايتهم وهي محاولة التوسط بين العقل والنقل، وهذا دفعهم إلى تقسيم العقائد إلى إلهيات ونبوات (يستقل العقل بإثباتها)، وإلى سمعيات (لا يستقل العقل بإثباتها ولا تدرك إلا بالسمع" (5).
ويفرق الشيخ محمد أبو زهرة بين الماتريدية والأشاعرة في مسألة الاعتماد على العقل في تقرير مسائل التوحيد والأمور الغيبية، فيقول:
"إنّ منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أيّ شطط أو إسراف، والأشاعرة يتقيّدون بالنّقل ويؤيِّدونه بالعقل، حتّى إنّه يكاد الباحث يقرّر أنّ الأشاعرة في خطّ بين الإعتزال وأهل الفقه والحديث، والماتريديّة في خطّ بين المعتزلة والأشاعرة، فإذا كان الميدان الّذي تسير فيه هذه الفرق الإسلاميّة الأربع، والّتي لا خلاف بين المسلمين في أنّها جميعاً من أهل الإيمان، ذا أقسام أربعة، فعلى طرف منه المعتزلة، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث، وفي الربع الّذي يلي المعتزلة، الماتريديّة، وفي الربع الّذي يلي المحدّثين، الأشاعرة"(6).
سر انتشار مذهب الماتريدي
لعل التوسط بين الفرق الإسلامية في مسائل الغيب والإيمان، هو السر الأبرز في انتشار مذهب أبي منصور الماتريدي في العالم الإسلامي، والعناية به وتبنيه في أعرق المؤسسات الإسلامية في العالم، الأزهر الشريف، كما ينتشر منهج الماتريدي في البلاد التي تتبنى المذهب الحنفي في الفقه، ولذلك فقد انشرت بصورة واسعة في البلاد الإسلامية خلال الحكم العثماني؛ نظرا لتبني الخلافة العثمانية المذهب الحنفي، وامتدت الماتريدية أيضا إلى شرق آسيا وبلاد الهند، ويمكن أن ترى تأثيرها كبيرا في البلاد التي حكمها السامنيون منها أفغانستان وباكستان حيث تنتشر فرقة الديبوندية حنفية المذهب، كما يتبنى الأزهر الشريف الماتريدية بشكل واسع مما كان له الأثر الأبرز في نشر الماتريدية في العديد من دول العالم الإسلامي عن طريق الطلاب الوافدين للدراسة في الأزهر، خاصة أنهم يدرسون مؤلفات أعلام الماتريدية ومنها كتاب "شرح العقائد النسفية" للتفتازاني وكذلك كتاب "العقائد النسفية" لنجم الدين النسفي.
_______________
هوامش ومراجع
(1) إيضاح الدليل في كشف حجج أهل التعطيل، بدر الدين بن جماعة.
* يقول اللقاني في جوهرة التوحيد: (وكل نص أوهم التشبيه... فأوله أو فوض ورم تنزيها) بمعنى أن كل نص شرعي في الكتاب والسنة توهم قارئه أن فيه تشبيها لله تعالى بمخلوقاته، يتم تأويله أو تفويض علمه لله تعالى تنزيها له.
(2) خلاصة علم الكلام، عبدالهادي الفضلي، ص21.
(3) انظر: إمام أهل السنة، للدكتور علي المغربي، ص 14. والماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات لشمس الدين الأفغاني، الجزء الأول، ص 210.
(4) مفتاح السعادة ومصباح السيادة، لطاش كبرى زاده، الجزء الثاني، ص 151.
(5) الماتريدية، دراسة وتقويما، أحمد اللهيبي، ص141- 142.
(6) تاريخ المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة، الجزء الأول، ص 199.