الطرق الصوفية التركية في مصر.. «البكتاشية» أوراق منسية في قصور الحكم (1)
تمتد جذور الكثير من الطرق الصوفية الشهيرة في مصر، إلى أصول تركية، نتيجة تبني العديد من الخلفاء العثمانيين المنهج الصوفي، إضافة إلى نشأة عدد كبير من هذه الطرق في منطقة الأناضول وامتدادها في بلاد خراسان، التي تأثرت بالحضارة الفارسية وحضارات أواسط آسيا، التي وصلت لمصر مع الدولة العثمانية، ومن أبرز هذه الطرق المولوية، والبكتاشية، وكذلك النورسية ذات الطبيعة الخاصة، وقد ارتبطت هذه الطرق ارتباطا وثيقا بالسياسة المصرية والحكام المصريين في عهود طويلة خاصة أسرة محمد علي ذات الارتباط الوثيق بالطريقة البكتاشية، وحول وجود امتداد لهذه الطرق في مصر تدور السطور التالية...
البكتاشية
الكثير من المصريين لا يعرفون شيئا عن الطريقة البكتاشية، رغم حضورها البارز في السياسة المصرية طيلة عهد أسرة محمد علي منذ عام 1805 إلى آخر ملوك الأسرة قبل ثورة 1952، ووضع ملوك الأسرة العلوية الطريقة البكتاشية في مكانة عالية حتى أنه تم دفن أحد أبرز أمرائها في التكية البكتاشية بجبل المقطم.
تعود جذور هذه الطريقة إلى أصل تركي فقد أسسها "حاجي بكتاش ولي" في القرن السابع الهجري وانتشرت تعاليمها في الأناضول ثم ألبانيا، وتستمد أفكارها من الطريقة القلندرية والحيدرية، ويذكر الباحثون أن حاجي بكتاش مؤسس الطريقة كان يمثل أحد أجنحة طائفة القلندرية وهي طائفة بابية باطنية كانوا يطلقون على أنفسهم خواص الناس ولهم طقوس خاصة بهم وقد أنشأها محمد البلخي في القرن السادس الهجري، ودخلت هذه طائفة القلندرية مصر على يد الشيخ حسن الإيراني عام 622 هـ.
حاز جناح "حاجي بكتاش" لقب "أبدال موسى" التي لعبت دورا مهما في تأسيس الدولة العثمانية، وقد ورثت الطريقة الكثير من المعتقدات عن "البابية" وأطلق عليهم الدراويش المحاربون" مما جعل الأمراء العثمانيين ينظرون إليهم نظرة اعتبار وسمحوا لهم بإقامة إمارات خاصة بهم، وظلت الطريقة البكتاشية تحت حماية الدولة العثمانية، وانتقلت إلى مصر، وشهدت أوج ازدهارها في ظل حكم الأسرة العلوية.
أفكار ومعتقدات
تتأثر البكتاشية بأفكار جلال الدين الرومي وابن عربي، وتنقسم الطريقة بحسب الدراسات إلى شقين، أحدهما محافظ على وضعه كطريقة صوفية تنتمي للسنة، إلا أن هناك فريقا آخر منهم قد تماهي مع "العلوية الأناضولية" وهو ما ذكر وسام سعادة في كتابه "البكتاشية" بقوله:
"قد ضعف فيها الرابط الطرقي التقليدي، ولم يعد "الدده" هو المرجعية الفعلية لها، بقدر ما انتقلت المرجعية للقيادات السياسية ورؤساء الجمعيات المطالبة بـ"حقوق العلويين" الدينية والثقافية والسياسية، كمثل تشريع دور عبادة خاصة بهم.... والمطالبة بحق أبنائهم في تعليم ديني مختلف في المدرسة العمومية، عن التعليم الديني السني الحنفي الذي تقدّمه المدرسة العلمانية في تركيا اليوم.
وما يهمنا الآن هو البكتاشية وعلاقتها بمصر
(انظر: البكتاشية، وسام سعادة، ص18)
تدخل البكتاشية في حكم مصر
برز دور البكتاشية في عهد أسرة محمد علي الذي كان تربطه بهم علاقة خاصة تسمح لهم بالتدخل في أمور الحكم، وقد ذكر الجبرتي في تاريخه شيئا من ذلك فقال إن مِن بكتاشية محمد علي باشا الْمُقربين عبد الله بكتاش الترجمان، وأضاف:
“أخذ الباشا (محمد علي) يدبِّر في تفريق جمعهم- أي القوى الوطنية-، وخذلان السيد (عمر مكرم) لما في نفسه من عدم إنفاذ أغراضه، ومعارضته له في غالب الأمور .. ثم في ليلتها حضر ديوان أفندي، وعبد الله بكتاش الترجمان، وحضر المهدي، والدواخلي، الجميع عند السيد عمر، وطال بينهم الكلام والمعالجة في طلوعهم ومقابلتهم الباشا .. فاعتذر الشيخ الأمير بأنه متوعِّك، ثم قام المهدي والدواخلي وخرجا صُحبة ديوان أفندي، و(عبد الله بكتاش الترجمان)، وطلعوا إلى القلعة وتقابلوا مع الباشا ودار بينهم كلام .. ثم أخذ يلوم على السيد عمر في تخلفه وتعنُّته، ويثني على البواقي … فعند ذلك تبين قصْدُ الباشا لهم، ووافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر.
واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الجمعة سنة 1224هـ فيه حضر ديوان أفندي، وعبد الله بكتاش الترجمان، واجتمع المشايخ ببيت السيد عمر، وتكلموا في شأن الطلوع إلى الباشا ومقابلته، فحلف السيد عمر أنه لا يطلع إليه، ولا يجتمع به ولا يرى له وجهاً إلا إذا أبطل هذه الأحدوثات .. ثم اتفقوا على طلوع الشيخ عبد الله الشرقاوي والمهدي والدواخلي والفيومي، وذلك على خلاف غرض السيد عمر، وقد ظنَّ أنهم يمتنعون لامتناعه للعهد السابق والأيمان، فلما طلعوا إلى الباشا وتكلمُّوا معه وقد فهِمَ كلٌّ منهم لُغَةَ الآخر الباطنية “.
(انظر: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، عبد الرحمن الجبرتي، دار الجيل بيروت، بدون تاريخ، المجلد الثالث، ص : 266 – )268.
تكايا البكتاشية
وللبكتاشية 4 تكايا في مصر إضافة إلى تكية المغاوري هي:
1- تكية عبدالله الأنصاري: وكانت داخل قصر "المقابلجي" في القلعة الداخلية العليا، والمقيمين على خدمتها بعض الدراويش المنتسبين للبكتاشية.
2- تكية حسن بابا: وكان يعيش فيها أربعون درويشا.
3- تكية قايغوسز بابا: كان يعيش فيها عشرون درويشا، وتعيش علي الصدقات وكان بها مكان واسع لحلقات الذكر، وكان أهلها يقيوم الطعان بعد صلاة كل جمعة للضيوف.
4- تكية قصر العيني: وهي أهم تكية بكتاشية في مصر، وكانت كبيرة وميدانها للذكر واسع يتسع لألف رجل، وذكرت الروايات أن السلطان سليم الأول جاء إلى مصر ونزل ضيفا في هذه التكية. وقيل أن هذه التكية كانت تخص الشيخ العيني شارح كتاب البخاري".
(انظر: التكايا والزوايا في تركيا، محمد حمدان، ص 59)
تكية المغاوري
اتخذت الطريقة عدة مقرات لها في القاهرة على فترات متباينة، أبرزها تكية المغاوري بسفح جبل المقطم، ويصف أحمد سري بابا، أحد شيوخ الطريقة في مصر، تكية السلطان المغاوري قائلا:
"التكية العلية البكتاشية واقعة في مصر المحروسة في سفح جبل المقطم وراء قلعة صلاح الدين، وهي عبارة عن مجموعة من حدائق غناء وعدة مغارات يصعد إليها راغب الزيارة نحو ثلاثين درجة، فيجد الباب العمومي وعليه حجرة بديعة تطل على أطلال القاهرة والقلعة وقبور الخلفاء والنيل وأهرامات الجيزة وسقارة... وثبت وراء الباب العام من الداخل لوحة من الرخام تحتوي بيتين من الشعر بالتزكية ترجمتها:
يفتح هذا الباب العظيم مواجها للعرش الأعلى، حيث تفتح في وجه المؤمنين جنان النعيم، كلما يفتح هذا الباب يفتح باب السماء، ويقرأ الملائكة بسم الله الرحمن الرحيم"
(انظر: الرسالة الأحمدية في تاريخ الطريقة العلية البكتاشية بمصر المحروسة، أحمد سري بابا، ص 37- 38)
وتقع التكية داخل كهف السودان بسفح جبل المقطم في القاهرة. وقد عرف
كهف السودان بعدة أسماء أيضا مثل ضريح عبد الله المغاوري وزاوية المغاوري وخانقاه
وتكية المغاوري.
وذكر
المؤرخ المقريزي أن الذي أنشأ هذا الكهف جماعة من السودان قاموا بحفر ونحت كهف في جبل
المقطم ونسب هذا الكهف إليهم وعرف باسمهم في عهد الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز
دين الله.
- اتخذت طائفة المولوية أو الجلاليون نسبة إلى جلال الدين الرومي هذا
الكهف زاوية لهم فترة من الزمن في القرن الخامس عشر الميلادي. ولقد كان من شيوخ
هذه التكية الشريف "نعمة الله الحسيني" شيخ زاوية كرمان الجلالية الذي
قدم إلى مصر سنة 820هـ ولما مات الشيخ الحسيني قام بتجديد كهف السودان أو التكية
الشريف نور الدين أحمد الأيجي الذي قام بوضع لوحة من الحجر تحتوي على النص
التأسيسي فوق مدخل المغارة الأصلي للكهف والموجودة إلى الآن باسم شيخه الشريف
الحسيني ويرجع تاريخ هذه اللوحة إلى سنة 905 هـ.
ثم آلت التكية أو كهف السودان بعد ذلك إلى طائفة أو دراويش البكتاشية
وهي طريقة أناضولية دراويشها من الأتراك ، عملت الدولة العثمانية منذ قيامها على
حمايتها، وكان دراويش البكتاشية يسكنون أول الأمر في تكية قصر العيني التي أنشأها
سنة 806هـ الناصر فرج بن برقوق ثم سكن بها الشيخ عبد الله المغاوري بدراويشه بعد
ذلك وظلوا بها إلي أن انتقلوا إلى كهف السودان بدلا من المولوية في عهد الخديوي
إسماعيل باشا، وطرد البكتاشية البدو من التكية ونظفوها وأعادوا لضريح المغاوري
رونقه وفرشوه بالطنافس وعلقوا الثريات. وخلال الفترة من عام 1321 إلى عام
1345هـ
قام كلا من الأمير كمال الدين حسين نجل السلطان حسين والأمير لطفي –
أحد شيوخ التكية – بتجديد ضريح المغاوري كما يتضح من النص التأسيسي بضريح عبد الله
المغاوري ..
ويذكر محمد السيد الدغيم في كتابه "البكتاشية.. تاريخها في تركيا ومصر" أن تاريخ إنشاء كهف السودان يعود إلى عهد الحاكم العبيدي الباطني الظاهر لإعزاز دين الله 411 – 427هـ – 1021- 1036م8، وكان آخر مَن أقام بهذا الكهف قديماً (عبد الله بن الحسن بن قرقوب) سنة 428هـ – 1056م في عهد المستنصر بالله العبيدي الباطني.
وممن أقام بهذا الكهف البابا (قابغوسز) الأرناؤوطي المشهور باسم (عبد الله المغاوري) الذي حضر إلى مصر سنة 761هـ – 1359م، وأقام بالقاهرة، ثم سافر إلى الحجاز 776هـ – 1374م، ثم سافر إلى العراق وزار النجف وكربلاء، ثم عاد إلى مصر مرة أخرى سنة 799هـ – 1396م، ومات فيها سنة 818هـ – 1415م، ودفن في القبر المعروف باسمه في كهف السودان، وتتابع دفن باباوات البكتاشية في كهف السودان، وحمل الرقم السادس والثلاثين (محمد لطفي بابا) الأرناؤوطي الذي قصد إسطنبول سنة 1300هـ – 1882م، ثم زار كربلاء، وعاد إلى تكية مؤسس البكتاشية، في تركيا، ثم عُيِّن بابا للبكتاشية في مصر سنة 1319هـ – 1901م، ثم تنازل عن البابوية سنة 1354هـ – 1936م لأحمد سري بابا الألباني.
ولقد كان من شيوخ تكية كهف السودان في المقطم (نعمة الله الحسيني) شيخ زاوية (كرمان الجلالية) الذي قدم إلى مصر سنة 820هـ – 1417م ولما مات الحسيني، قام بتجديد كهف السودان، أو التكية مريده نور الدين أحمد الإيجي سنة 905هـ – 1499م، ثم آلت التكية رسميا إلى طائفة البكتاشية التي تُنسب إلى الباطني (حاجي بكتاش النيسابوري).
تم تسجيل قبة المغاوري أو كهف السودان في وزارة الآثار برقم 567، وقد وصفها الفنان التشكيلى عصمت داوستاشى فى كتاب سيرته الذاتية فقال: كانت زيارتي للمغارة بطرقها الملتوية والسجاد الإيراني الذي يغطى أرضياتها والغزال الهائم فى حديقته أشبه برحلة إلى عالم ألف ليلة وليلة وكنت دائما أشعر بهيبة أحمد سري بابا دادا شيخ الطريقة الذي كان يريدنى أن أنضم درويشا للتكية إلا أننى لم أفعل وكنت أقضي كل عام عدة أيام إبان احتفالات عاشوراء حيث تذبح الذبائح وتصنع البليلة بالقرفة وظلت التكية عالم له أثر فى نفسي رغم أنها انتهت تماما بعد وفاة البابا ورحيل آخر دراويش التكية".
ومازالت قبة ضريح المغاورى بالتكية تحمل لوحتين من الرخام كتب عليهما بالفارسية، على إحداهما تقرأالنص التأسيس لتجديد الضريح على يد الأمير كمال الدين نجل السلطان حسين كمال . وعلى اللوحة الثانية « إن السلطان المغاورى المدفون فى هذا الكهف وهذا القبرالطاهر يعد مركزا للأرواح الطاهرة ..جدد عمرانه الحاج محمد لطفى بابا عندما كان شيخا لهذه التكية فأصبح مطافا للزائرين فزره بقلب مخلص وتزود بالفيض فهو المكان الذي يتجلى فيه أخيار الدراويش إن غار أهل الله هذا مأوى لأهل الطريقة فادخله بشوق واحترام لأنه مكان السالكين «. ويوجد بالتكية فيه ضريحية بها تابوتين للأميرتين روحية ونافية ابنتا أحمد زوغو ملك ألبانيا سابقا حيث طلبت كلا الأميرتين أن يدفنا بمصر وكان يوجد أيضا بالتكية ضريح الأمير كمال الدين حسين وعائلته إلا أنه نقل إلى مقابر العائلة العلوية بالبساتين .
فرض أرباب الطريقة على المريد أن يغتسل قبل زيارة التكية وأن يأخذ معه هدية فإذا وصل الباب سمى ولا يجوز له أن يطأ العتبة برجله لأنها مقدسة ثم يلتحق بالخدمة التى تطلب منه . وللطريقة البكتاشية قانونها الخاص كما وضعه أحمد سري دده بابا ومنها عدم اشتغال دراويش الطريقة بالسياسة وعدم التعصب الدينى.
ولما جاءت ثورة 1952م تم إغلاق التكية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
الفنانة شادية والبكتاشية
واعترف أيضا الفنان عصمت داوستاشي، بأن الفنانة الراحلة شادية كانت من مريدي الطريقة البكتاشية، وقال في حوار لصحيفة "الأهرام":
"لقد كنت أتردد مع جدتي ووالدي علي تكية الطريقة البكتاشية وهي طريقة صوفية شيعية اثني عشرية وقد كانت الفنانة شادية من مريديها. كانت مغارة الطريقة في قلب جبل المقطم ثم انتقلت بعد الثورة إلي المعادي حيث تحول المقطم إلي ثكنة عسكرية. كانت زيارتي للمغارة بطرقها الملتوية والسجاد الإيراني الذي يغطي أرضياتها والغزال الهائم في حديقته أشبه برحلة إلي عالم ألف ليلة وليلة وكنت دائما أشعر بهيبة أحمد سري بابا دادا شيخ الطريقة الذي كان يريدني أن أنضم درويشا للتكية إلا أنني لم أفعل وكنت أقضي كل عام عدة أيام إبان احتفالات عاشوراء حيث تذبح الذبائح وتصنع البليلة بالقرفة وظلت التكية عالم, له أثر في نفسي برغم أنها انتهت تماما بعد وفاة البابا ورحيل آخر دراويش التكية الشيخ رجب إلي أمريكا وافتتاحه تكية هناك.