«صاحب الحمار».. قصة الرجل الذي تسبب في اعتقالي بسبب إعلان سينما
خرجنا لكى نصلى الفجر فرأينا "م. ح"، وكان شابًا فقيرًا يملك عربة كارو صغيرة يعمل عليها شيالًا.. نعرفه جيدًا، فقد جاء إلى المسجد فى يوم، وكان يبكى منهارًا فسألنا عن السبب فقالوا لنا:
"إن حماره غرق منه فى الترعة الإبراهيمية".
اشترت له الجماعة حمارًا، وكان ملتزمًا فى الحضور والقعود بالمسجد فيما بعد.
رأيناه مرة فقلنا له:
- «على فين؟».
- «فيه منكر راح أغيره».
- «يا عم صلاة الفجر كده هتضيع منك».
- «لا موش هتضيع».
تركناه لنصلى الفجر وعدنا لنراه بالقرب من سينما بالاس
- «إنت عملت إيه؟!».
- «قطعت إعلان السينما».
- «إنت صليت الفجر».
- «لأ».
- «طب الحق صلى الفجر بسرعة».
تركناه ومضينا ولا نعرف هل صلى الفجر أم لا، وقضينا النهار، وجاء الليل لتأت حملة أمنية ويقبض علىّ وأقدم للنيابة بتهمة محاولة حرق السينما، وأنا برىء تمامًا من هذه التهمة، لأننى لم أكن صاحب الحمار الذى قطع إعلان السينما.
قبضوا عليه أيضًا فيما بعد، ونقلونا لسجن استقبال طرة.
وفى يوم من أيام عام 87 فتحت الزنازين فى الصباح الباكر على غير العادة، ولأول مرة يداهمنا رئيس مصلحة السجون، حسبنا أن تفتيشًا سوف يجرى، لكننا أخطأنا فى تقديرنا، فحين أخرجونا من البوابة وجدنا أتوبيسات «سوبر جيت» معدة لحملنا مرة أخرى، لكننا هذه المرة مقتادون إلى مكان لا نعرفه.
هجس فى صدرى أنه لا داعى للهتافات اليوم من الشبابيك، وهذا ما حدث بالفعل، فلم يخطر على بال أحد أن يهتف أى هتاف وهو يجلس على كراسى الأتوبيس المريحة، ويصوب نظراته للناس والحياة والدنيا.
اتضح المكان من بعيد إنه "مبنى دار الإفتاء المصرية".. الآن عرفنا لماذا أتينا إلى هنا، لكن أمير الجماعة قال لنا:
«قولوا لهم لن نتحاور مع أحد، الحوار مع مشايخنا وليس معنا، قولوا لهم نحن لا نريد أن نخرج من السجن».
كان يرى أن الحوار إملاء بهذا الشكل، وليس لتصحيح المفاهيم، وإننا سنستشعر عدم مشروعية بعض أفعالنا ونحن نرى أنفسنا وراء القضبان، ونحن إذا فكرنا بهذه الطريقة سنفكر فى جانب واحد فقط، لكننى أؤكد أننا كنا لا نقبل فى هذه الفترة أى دعوة حوار، وتحديدًا من علماء الأزهر.
دخل فضيلة المفتى الشيخ محمد سيد طنطاوى، وفضيلة وزير الأوقاف محمد على محجوب، وجلسا على المنصة، وباقى المشايخ جلسوا فى الصف الأول، فأخذنا نهتف: «يا علماء اتقوا الله لا حوار مع الإكراه».
الهتافات ساخنة ملتهبة.. أشار لنا الأمير فأعطينا ظهورنا للمنصة فانفجر الشيخ طنطاوى، قائلًا: «دى قلة أدب».
قام ماشيًا وجميع المشايخ وراءه، فوقف أمامنا ضابط علمنا بعد ذلك أنه من مديرى مباحث أمن الدولة بالإدارة العامة، قائلًا لنا: «لا نافع معكم حوار ولا نافع معكم علماء، وموش عارفين نعمل معكم إيه، الله يخرب بيوتكم».
بعد أن كان من المقرر لنا أن يفرج عنا، أحضروا لنا عربات ترحيلات واقتادونا إلى سجن الاستقبال.. وطبعًا الفرق كان واضحًا بين عربات الترحيلات وأتوبيسات السوبر جيت، وكان واضحًا على وجوهنا، وعلى وجوه الذين أرادوا أن نستمع إلى المشايخ سواء اقتنعنا بما قالوه أو لم نقتنع.. المهم أن يفرج عنا.
توقعنا أن نعامل فى السجن معاملة سيئة، كأن يمنعوا عنا الفسح وخلافه، لكن ما جرى خالف كل التوقعات، حيث وجدنا فى استقبالنا ضباطًا آخرين من مصلحة السجون، استقبلونا بحفاوة بالغة، وكلما دخل واحد منا من البوابة الرئيسية أعطوه مصحفًا ومجموعة من كتب الأزهر، وعلبة حلويات من دمياط، وقالوا له هذه هدية من وزارة الأوقاف بمناسبة المولد النبوى.
وجاء الدكتور محمد على محجوب، وزير الأوقاف، ودار على الزنازين ليقنع الناس بالخروج حتى وصل إلى غرفتنا.. كنا قاعدين فى أماكننا، ولما رأيناه قمنا له فأشار لنا أمير الغرفة بأن نقعد مكاننا، وكان هذا الأمير الدكتور قاعد بطريقة هى أقرب للنوم، فكلم الوزير قائلًا له:
- «موش هنخرج».
قال له الوزير:
- «يا بنى اخرجوا علشان تروحوا».
- «موش عاوزين نروح».
- قال الوزير للضابط:
- «اقفل الباب يا حضرة الضابط».
غير أن صاحب الحمار صرخ وأخذ يستغيث: «أنا عاوز أروح الندوة».
فى الصباح خرج ثلاثون، كان أحدهم هو "م. ح" صاحب الحمار، الذى قطع إعلان السينما وتسبب فى اعتقالى فأفرج عنه، وبقيت أنا.