«أبناء حفصة».. تجسيد روائي للتشدد في جماعة الإخوان
ماذا تفعل امرأة وقع قدرها في زوج متشدد، يحرق كتبها الجامعية ويأسرها بالمنزل، وينشئ أطفالها على فهم خاص للتراث الإسلامي، يحمل فهمًا ضيقًا متشددًا لروح الدين الواسعة؟ ماذا تفعل وهي بغربة إحدى دول النفط، وقد اضطرت إليها تماما كما أُجبرت على الزواج من غير حبيبها بأمر الجد الإخواني المتزمت؟ وهل بعد العمر الطويل الذي أنهته بهروب مفاجئ أن تعثر على بضعة أيام تعود فيها لروحها التي تم استلابها؟
"كان التكفير هو الكلمة المكررة في أفواههم.. كل من يخالفهم في الرأي فهو كافر.. مرتد عن الإسلام.. كان هذا ماتراه أم حفصة وأن الكتابة شغلهم الشاغل ينقلون أفكارهم على ورق صحيفتهم المشهورة، خالد رمزي وسيف رمزي والابن الأصغر آمن رمزي ثلاثة من أساطين الفكر المتخلف مع أبيهم الشيخ رمزي.. يردون بكل وقاحة على أصحاب الفكر المعتدل".
بهذا عبرت عن حالها حفصة بطلة الرواية العاشرة للأديب المصري الكبير أحمد ماضي، والتي أسماها "أبناء حفصة" وصدرت مؤخرًا عن "عالم الكتب"، وقال بعض النقاد، إنها تشبه إلى حد كبير مصر، التي حاول المتشددون اختطاف روحها منذ ستينيات القرن الماضي.
بدأ "ماضي " الرواية بعرض بطلها الرئيسي "محمد عبد الستار" رجل في أواخر العمر، متزوج للمرة الثالثة من محاسن التي تحبه كثيرا ولكنها تفتقده في حياتها، فهو شارد الذهن باستمرار، وفجأة يختفي، ويحول حياة الجميع لكابوس، يبحث عنه أولاده فلا يجدون له أثرا، حتى يروي لهم أخوه وعمه "عبدالكريم" ما كان من حبه الأول لـ"حفصة" ابنة المعاون الزراعي بالبلدة، والتي حرم الزواج منها بقرار متشدد من الجد المنتمي للإخوان، والذي فضل عليه "الشيخ رمزي" رغم كراهيتها له، وأجبرت على السفر معه للكويت، ورأت الأموال التي تأتيه لجمعيات شرعية بأسماء شتى، وحالة العزلة الشديدة التي اضطرت إليها حتى بوجود أولادها الذين نشأوا على التزمت، ومن ثم طلاقها بنهاية المطاف من الأب بعد العودة لمصر إبان ضرب العراق للكويت وما تلاها من صراع بين الإسلاميين حولها، وحلمها بالعودة لحياتها الماضية، ولكنه حلم لم يتحقق فعليا لأن السرطان داهمها، والمشهد المأساوي لرجل قرر أن يعيش إلى جوار قبرها راضيا!
هذا السيناريو الكابوسي أدخلنا فيه ماضي بينما هو يشرح بقلمه نماذج متعددة للنفس البشرية، مخترقا أزمنة عدة، ومتنقلا بين الضمائر، ولنجد أنفسنا بين عالمين مختلفين؛ يتلاقيان في رحلة البحث عن الأب والأم الهاربين، أسرة "عبدالستار" والتي تمثل الثقافة السمحة، وأسرة "رمزي" والتي تمثل العنف بكل صوره، حتى أنهم بحثوا عن أمهم لقتلها لأنها طلقت من أبيهم، ونسوا أن ذلك بعيد عن الدين الذي تمسكوا منه فقط بالجلباب القصير واللحية!
وقد بدأ النصف الأول من الرواية يميل للطابع البوليسي، فالرجل قد ترك سيارته مفتوحة ونزع شريحة هاتفه وغاب، وبتتبع الرسائل المشتركة بينه وبين حفصة وقصاصات الصحف القديمة، يتوصل الأبناء لمكان اختطاف زوجة أبيهم ومن ثم تتكشف كل الحقائق، ولكن الرواية تطرح تساؤلات مهمة بواقعنا: كيف نفهم النص الديني، وكيف تبرر التنظيمات العنيفة لنفسها استباحة الدماء والعنف في مقابل مواءماتها مع العدو الإسرائيلي!، وهل يستطيع العالم العربي أن يعود لروحه التي فقدها على يد هؤلاء من ابناء التيارات الإسلامية الجانحة ؟ ومن بيده سلطة تحويل الدين لسيناريو كابوسي لا يتحدث إلا عن عذاب القبر والنار ؟ ولهذا نجد البطلة تتحدث عن المبدعين الذين يحدثونك عن الجانب الإنساني ويرغبونك ولا ينفرونك من الدين.
الرواية وضعت اللائمة على تيارات الإسلام السياسي، ولم تتناول بزوايا النور جوانب أخرى مسئولة عن أزمتنا العربية، وازمة التطرف والإرهاب الذي يشترك فيه الفساد والسطحية وشيوع الخطاب الديني الأحادي، وهي ظواهر عبرت عنها روايات عالمية كـ"خريف البطريرك"، وأشار إلى أن التيار الإسلامي كانت به نماذج ساهمت بحمل مشاعل النهضة ببلداننا كالشيخ محمد عبده في بدايات القرن العشرين، ورأينا رموزا للاستنارة بين الدعاة من أمثال الشيخ أبوزهرة،ولو مال بنا مؤلف الرواية وجعل أن أحدا من "أبناء حفصة" مال للاعتدال فلا نضع ابناء حفصة كلهم في بوتقة واحدة، وعبر بوابة هؤلاء المعتدلين يمكن أن نجد مساحة حقيقية للنقاش الجاد في مستقبل أبناء هذا الوطن، بعيدا عن شبح التطرف والإهاب.
الرواية أيضا تضع فرصة للتأثير على المنغلقين عبر نافذة الحوار، كما فعلت محاسن بحديثها مع زينب، بالبيت الذي احتجزت فيه، وتؤكد أنه من الأفضل حمل المصباح على أن نلعن الظلام، وأن نبحث كتيار وطني يشمل الجميع عن العدالة والحريات، ومواجهة مؤامرات تفتيت العالم العربي عبر سايكس بيكو جديدة برعاية المارينز وحلفائهم، وأن تعود لمصر ريادتها وتعود لها ثقافة التسامح، وأن يعود المعتدلون بقلوبهم لقيم الثقافة المصرية ويعشقون كما أمهم "حفصة" الموسيقى والفن، ولا يزدرون الإبداع.