المواطنة والانتماء.. قواعد إسلامية في مواجهة الكراهية
دفع الغلو في مفهوم "الولاء والبراء" الكثير من الجماعات المتطرفة إلى التهاون في المحافظة على الأوطان، والدفاع عنها والاعتزاز بالانتماء لها، باعتبار أن الأصل في البلاد الإسلامية أن تكون تحت خليفة واحد، ولا يكون الولاء لأرض الدولة إلا إذا كانت تحت هذه الخلافة، رغم مخالفة ذلك للأدلة الشرعية، واتفاق جميع النصوص على أن حب الوطن أمر غريزي في كل البشر، إلا أن الغلو والتأويل الفاسد لنصوص الشرع، أديا معا إلى اعوجاج الفطرة الإنسانية لدى أتباع هذه الجماعات، الذين تبنوا خطاب الكراهية، ليس للمختلفين معهم في الدين من غير المسلمين فقط، وإنما أيضا لمن يخالفهم في أفكارهم من المسلمين، فوالوا من وافقهم وتبرأوا ممن عارضهم حتى وإن كان مسلما.
وقد ربطت الجماعات المتطرفة، الوطن بإقامة الخلافة، فلا وطن محترم لديهم؛ إلا إذا كان تحت ظلال الخلافة؛ مهما كان التزام أهل هذا الوطن بالإسلام وشريعته، ولذلك تختفي لديهم أي مظاهر لمحبة الأوطان، مادامت بعيدة عن الخلافة، وبالتالي فقد اسقطوا كل حقوق للوطن على هذه القاعدة التي لا ترى إسلاما لأرض لا تحكمها الخلافة، وبالتالي، فكل الأوطان خارج هذه الدائرة مجرد مجتمعات جاهلية، وقد وصف سيد قطب الوطن في مقدمة كتاب "الظلال" بأنه مجرد "قطعة من طين يجتمع عليها البشر كما يجتمع "البهائم" لما فيها من "كلأ ومرعى وقطيع وسياج".
وترى الجماعات المتطرفة كفر الدول الإسلامية باعتبار أنها تتحاكم إلى الطاغوت، وبالتالي فإن الانتماء إليها وإعلان المودة لأهلها يعتبر نوعا من الموالاة للكافرين، الذي يتناقض من وجهة نظرهم مع الإسلام، وبالتالي فإن الانضمام لجيوشها والزود عن أرضها من المسائل التي يرفضونها بشكل قطعي، فأي حب وأي انتماء لدولة كافرة لديهم؟
قواعد شرعية
اتفقت جميع الشرائع السماوية على أن حب الوطن من الفطرة الإنسانية السوية، وقد أخبر الله تعالى أن دائرة الوطن تبدا من المحيط الضيق للإنسان في الأسرة والعائلة وتتسع لتشمل الجيران والبلدة إلى أن تضم كل بلاد المسلمين مهما اختلفت المسميات وتباعدت الحدود.
وقد أخبر الله تعالى أن أشد ما يكون على البشر بعد فراق الروح أو الموت، هو مفارقة الأوطان، وذكر ذلك حكاية عن الأمم السابقة فقال تعالى عن اليهود: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ} (النساء:66) فقد ساوى القرآن بين قتل النفس، والطرد من الوطن، لما في ذلك من تعلق كبير بأرض الوطن.
وحكى سبحانه وتعالى عن نبيِّه إبراهيمَ عليه السلام أنه دعا لمكة المكرمة بهذا الدعاء، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].
وبين النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف عديدة، مكانة الوطن والأرض التي يعيش الإنسان عليها، ومنها ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية: (باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا بإذن ربنا)؛ رواه البخاري ومسلم.
وشدد النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، على احترام الجار، واعتبار احترامه شعبة من شعب الإيمان؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ).
وتتَّسع الدائرة لتشمل الإحسان إلى كل مسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّه لنفسه).
ثم يشمل احترام الوطن أيضا الإحسان إلى غير المسلمين المقيمين على الأرض الإسلامية من أهل الأديان الأخرى، قال صلى الله عليه وسلم: " ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ".
وفي مسلم: (اللهم باركْ لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعِنا، وبارك لنا في مُدِّنا، اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلُك ونبيُّك، وإني عبدُك ونبيُّك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة، ومثله معه)، والأدلة الشرعية على ذلك في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى.
عقوبات مغلظة للفساد في الأرض
وقد وضع الإسلام عقوبات مشددة على من يسيء للوطن، وكل من يسعى فسادا في الأوطان، وجعلها من الحدود الشرعية المغلظة التي لا مثيل لها بين الحدود، لما في ذلك من مخالفة عظيمة، واعجواج عن الفطرة الإنسانية السوية، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33].
وأعد الله تعالى الفساد في الأرض والاعتداء على الأوطان من أكبر الكبائر، التي توجب لصاحبها اللعن والطرد من رحمة الله والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 22 - 24].
حب الوطن.. فطرة إنسانية
إنها الأرض التي ولد الإنسان فيها وعلى خيراتها التي قدر الله له فيها قوته، وكانت له فيها الصحبة والأحباب ولذلك فإن إبداء غير ذلك فيه مخالفة صريحة لفطرة الله التي فطر عليها عباده، وهي غريزة متأصلة في البشر جميعا.
ذكر الجاحظ في كتابه رسالة الحنين (ص:8): "لقد قالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة، وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك؛ لأن غذاءك منهما وأنت جنين وغذاءهما منه".
وقال أيضا في الكتاب نفسه: " إذا غزَتْ، أو سافرتْ، حملتْ معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه".
كما نقل ابن حمدون، عدة روايات عن السلف في حب الأوطان فقال:
" قال ابن عباس رضي الله عنه: لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم لما اشتكى عبد الرزق.
وقال عمر رضي الله عنه: عمر الله البلدان بحب الأوطان.
والعرب تقول: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك.
وقال ابن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم.
قيل لأعرابي: أتشتاق إلى وطنك؟ فقال: كيف لا أشتاق إلى رملة كنت جنين ركامها ورضيع غمامها.
وقال بعض العرب:
ألا ليت شعري هل تخلّف ناقتي ... بصحراء من نجران ذات ثرى جعد
وهل تنفضنّ الريح أفنان لمّتي ... على لاحق الأطلين مضطمر ورد
وهل أردنّ الدهر حسي مزاحم ... وقد ضربته نفحة من صبا نجد"
(انظر: التذكرة الحمدونية، الجزء الثامن، صفحة:142)
وقال الإمام أبو حامد الغزالي:
"والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص".