الرسالة الازهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية (5/6)
بريق الصفيح
خطاب مختلط
تتناول الدراسة التي تعرضضها "أمان" خطاب جماعة الإخوان الإرهابية أقدم الجماعات الإسلامية المعاصرة بعد أنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية ، تلك الجماعة التي انشقّ عنها أكثر التيارات وأغلب الجماعات الإرهابية المعاصرة
واختارت الدراسة هذه الإشكالية في معالجتها لقضايا التطرف؛ لأن خطاب جماعة الإخوان المسلمين أحد أهم المؤثرات في الخطاب الإسلامي المعاصر، وأهم الروافد الخفية المغذية للتطرف في عالمنا؛ لذا يرصد الباحث عبد الباسط هيكل ، من خلال اتباع منهج تحليل خطاب المؤسس احسن البنا، وبعض كتابات منظري الجماعة، الجوانب المضمرة في هذا الخطاب، وفي الحلقة الخامسة ، يناقش الخطاب المختلط والذي اطلق عليه (بريق الصفيح)، الذى تختفي معه الحدود بين المطلق والنسبي، والثوري والإصلاحي، والدعوي والحزبي، والوعظي والجهادي؛ وإلي التفاصيل :
تزين جماعة الإخوان المسلمين خطابها بكلمات رنانة وشعارات برّاقة فإن بحثت في جوهره وجدت خطابا مختلطا تختفي معه الحدود بين المطلق والنسبي، والثوري والإصلاحي، والدعوي والحزبي، والوعظي والجهادي، يظهر الخلط والتخبط في تداول خطابهم لكلمات مثل الخلافة، الدعوة، الشورى، الأمة..فتختزل الجماعات أزمة المسلمين في غياب السلطة الدينية المركزية ممثلة في الخلافة، فمن دوافع تأسيس البنا لجماعته، ومن أهدافها الخلافة الإسلامية التي سقطت مع الدولة العثمانية، فخطاب الجماعة لا يخلو دوما من تباكي على فردوس الخلافة المفقود، متجاهلين واقع تلك الخلافة في عهودها المتعاقبة من انتقال للسلطة والحكم بالغلبة والشوكة وصولا للخلافة العثمانية، فالخلافة للأمثل قوة، وليس للأمثل خلقا، تغض الجماعة الطرف عن واقع الولايات تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، وما لحق بولاية مثل مصر من ضرر بالغ على شعبها ولغتها، حيث غُيب التعليم فكانت الخرافة، وضاع العدل والمساواة فكانت السخرة والجباية والتمايز العنصري للأتراك والجراكسة على حساب المصريين، تتحدث الجماعة عن شكلية إسلامية ماثلة في الخلافة، وتسكت عن جوهر الإسلام الغائب في ظلها عدلا وحرية ومساواة، يتجاهلون دوافع الهيمنة والسلطوية للدولة العثمانية في سعيها لتوسع إمبراطوري ينافس إمبراطوريات عصرها، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في موضعه.
وتخلط الجماعة بين شمولية الإسلام لمناحي الحياة، والتطبيق الشمولي للإسلام، فلا يميزون بين أن يتواجد الإسلام كمبادئ في الدولة، وزعم أن الإسلام ينبغي أن يكون حاضرا في كل تفاصيل الدولة، يختلط في خطابهم الإسلام في ثوابته وقداسته بالرؤى والآراء الحزبية المتغيرة الغير مقدسة، فيضفون على فكر قياداتهم سمة الإسلامية، فيتحول بذلك التنافس السياسي إلى معركة وجودية دينية انتصارهم يمثل انتصارا للإسلامية، وخسارتهم تمثل هزيمة للإسلام أمام خصومهم من أعداء الإسلامية، فدائما على الشعوب -من منظورهم- أن تختار بين الإسلام أو اللاإسلام.
ومن مظاهر التخبط في خطابهم أن يجعلوا طاعة قياداتهم واجبة شرعية فهي طاعة لله؛ لأن فيها التزام بنتائج الشورى، فقرارات قياداتهم هي نتاج عملية الشورى المباركة داخل الجماعة، متجاهلين أن مبدأ إلزام الشورى قبل أن يكون إلزاما للقواعد التنظيمية برؤية قيادة الجماعة، هو إلزام للقيادة برأي القواعد الذى يقدمه ممثلون لهم تم انتخابهم داخليا بشكل معلن يقوم على شفافية وتنافسية وحرية، وهذا أبعد ما يكون عن واقع اختيار القيادات داخل الجماعات، فمثلا جماعة الإخوان المسلمين تختار قيادتها وفق لائحة غير معلنة بعد تفتيش في نفوس أعضائها عن التبعية والانقياد المطلق للتنظيم، فلا يرقى إلى مصاف الإخوة العاملين الذين تُختار منهم القيادة إلا من استجمع أركان البيعة العشرة بداية من الفهم لفكر الجماعة والذى يُطلق عليه في لغة الجماعة الفهم الصحيح للإسلام والإخلاص، والعمل الحركي داخل الصف، والأخوة وصولا إلى الجندية بالطاعة والثقة والتضحية والجهاد والثبات والتجرد تلك الصفات وغيرها يُفتش عنها في باطن الأخ وظاهره قبل أن يُمنح لقب (أخ عامل) - كشرط تنظيمي فيمن يُسند إليه مهام إدارية عليا في التنظيم - فلا مجال لإفراز حرّ شفاف من القواعد بل بتزكية فوقية من نقيبه ونقيب نقيبه متى اطمأنت نفوسهم إلى استكمال الأخ أركان البيعة، وتمّ اختباره بسلسلة من التكليفات التي تكشف عمق ثقته، وعظيم تضحيته وطاعته، ثم يأتي بعد ذلك شرط الأقدمية التنظيمية للأخ العامل التي تصل إلى خمس عشرة سنة كشرط لترشحه لمجلس شورى الجماعة الذى يُختار منه مكتب إرشاد الجماعة ذروة الهرم التنظيمي، وتلك الإجراءات ليست لضمان وصول الأقدر فكريا وإداريا بل لوصول الأكثر نمطية، فهو الأنسب ليقوم بدور الحلقة في سلسلة التنظيم استلاما وتوصيلا للتكليفات من الأعلى إلى الأدنى، والأقرب لصورة الترس في ماكينة التنظيم بما يحفظ بقاءه، ويضمن عدم إحداث انشقاقات كبيرة داخله، فالغاية ليست التطور بل البقاء.
فاختيار جماعة الإخوان المسلمين لمثل هذا الشكل من الشورى عن قصد؛ ليتفق مع غايتهم في حفظ التنظيم متماسكا، وإن ظلّ جامدا لا يتطور ولا يتغير، فالشورى بهذه الطريقة إنما هي تعبير عن مراد القادة، وليس مراد الله كما تظن القواعد.
وبغياب النقاش والمساءلة والتنافسية يُسطَّح الحوار، ويركن الأخ في تنظيم الإخوان المسلمين إلى التواكل والتسليم بعقل الجماعة، وتكون السلبية، فتضيع ثقة الإنسان في نفسه وقدرته لصالح ثقته في الجماعة وقاداتها، وهنا يأتي التناقض بين ما يصلح لجماعة دينية، وما يصلح لمؤسسة حزبية، فالحزبية السياسية تتطلب ممارسات تنافسية داخلية قبل أن تشارك في منافسات خارج الحزب، كل يقدم نفسه من خلال أفكاره، ورؤياه للمستقبل، واقتراحاته لتحقيق تلك الأفكار بعيدا عن ترديد شعارات انفعالية حالمة تغيب معها الإجراءات، وطرق التنفيذ العقلي الواقعي، فغاية الشورى استجلاء الأمر ومنافسة العقول بعضها لبعض منافسة معلنة حول كيفية الإدارة المثلى لهذا الأمر أو ذاك، فمرددوشعار (الإسلام هو الحل) لا يختلفون عن مرددي شعار (إن الحكم إلا لله) في سطحية التناول والتعاطي مع مبادئ الإسلام .
ويغلب على الجماعة في علاقتها بفكرة الأحزاب أن تنحاز إلى المنطقة الرمادية التي لا نعرف فيها ما إذا كانت جماعة وعظية دعوية أم حزب سياسي، فنراها تتعالى بنفسها عن الحزبية، وإن كانت تشارك في المنافسة على السلطة منافسة حزبية سياسية، تدعي الدعوية لخطابها فتعيش شعورا عاما بالأفضلية والشمولية وامتلاك الحق بما يتنافى مع الحزبية بتنافسيتها وبشريتها التي تحتاج دوما إلى مراجعة وتغيير وتقييم وتطوير مستمر لتقديم حلول وطروحات علمية لتغيير الواقع، ولننظر إلى جذور تلك الازدواجية وذاك التناقض في خطاب مؤسس الجماعة برفضه الحزبية مستدلا بقوله تعالى: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" متصورا أن الأحزاب السياسية هي من قبيل التفرق والتحزب الديني المذموم في الآية، قائلا: "الإسلام لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه."، "أيها الإخوان لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر، وأن يستبدل به نظام تجتمع به الكلمة، وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامي صالح تتوافر على وضعه وإنفاذه القوى والجهود." وحين يُعرّف بالجماعة قائلا: "الإخوان المسلمون ليسوا حزبا من الأحزاب يؤيد أو يعارض تبعًا لمصلحة حزبية أو جريًا وراء منفعة شخصية، ولكن الإخوان المسلمين دعوة إسلامية محمدية اتخذت من الله غايتها، ومن الرسول -صلوات الله عليه وسلامه- قدوتها، ومن القرآن دستورها، ولها برنامج واضح الحدود، ظاهر المعالم، يرمي إلى تجديد الإسلامفي القرن الرابع عشر، وصبغ الحياة المصرية بالصبغة الإسلامية، وهيمنة تعاليم القرآن على جميع مظاهر الحياة: من تشريع واجتماع وسياسة واقتصاد، كما يرمى إلى تحرير كل شبر في الأرض فيه نفس يردد: لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخيرًا نشر الإسلام ورفع راية القرآن."
فالبنا يقدم الجماعة ليس بوصفها حزبا، فالحزب -من منظوره- تعبير عن مصلحة شخصية محدودة، فالإخوان أكبر من أن تكون حزبا فهي الدعوة الإسلامية في القرن العشرين، بما تُقدمه من فهم صحيح للإسلام.. ثم يعود لتبنى أفكار العمل الحزبي دون حزبية، ويطرح خطاب انفعالي يثير المشاعر ويحرك العواطف بما فيه من نبرة خطابية إنشائية، يغيب عنها الطرح العلمي الإجرائي، من جانب آخر يتناقض حين يقدم الجماعة بوصفها صاحبة برنامج فكري تجديدي وعمل دعوي وعظي لتغيير المجتمع وفي الوقت نفسه صاحبة مشروع جهادي يهدف إلى تحرير كل مسلم، بل تسعى إلى توسع جهادي إسلامي.
فكلام البنا يحمل تناقضات فكرية بين خطاب إصلاحي وخطاب جهادي، خطاب وعظي وآخر حزبي، بما يوضح أن إشكالية خطاب الجماعة وُجدت منذ التأسيس الأول للجماعة، ويظل هذا التناقض كامنا حتى إذا ما اصطدمت الجماعة بنظام حاكم حدثت حالة من الانشطار نتيجة تلك التناقضات الكامنة في تكوين الجماعة، فنرى جماعات منشقة تتبنى الجهاد خيارا، وترى أن المعركة هي معركة التحرير، وأن الجماعة هي جهادية في فكرتها، وثانية تتحدث عن ضرورة التزام المسار السياسي وترى نفسها حزبا تحت التأسيس، وثالثة تتبنى خطابا وعظيًا يدعو إلى تغيير المجتمع بعيدا عن الحزبية والجهادية، وترى نفسها جمعية أو مؤسسة أهلية، ويظل التكتل الأكبر متمسكا بمجموع تلك الخطابات متمثلا في الجماعة الأم (الإخوان المسلمين).
فتكمن مشكلة جماعة الإخوان في تناقضها، فهي تريد أن تنافس على الحكم منطلقة من كونها جماعة دينية، وليست مؤسسة حزبية، فالأحزاب من منظور البنا "أشكال تقليدية أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها."
وحين تجبر الجماعة على تأسيس حزب - تمشيا مع الأعراف السياسية للدول الحديثة في التنافس الحزبي- يقدمه المرشد بوصفه طفلا لم يبلغ الفطام يحتاج إلى رعاية الأم (الجماعة)، فتصنع بذلك واقعا سياسيا غريبا تتنافس فيه الجماعة خلف ستار حزبية لا تؤمن بها بل تراها قواعد لعبة اضطرت إليها، وبدلا من أن تبني وعيا فكريا تعدديا وقناعات شعبية ببرامجها الإصلاحية، تُروج لحزبها بممارسات الجماعة الخيرية والوعظية.
ويظهر الخلط في خطاب الجماعات الإسلامية في طريقة توظيف اللغة وكلماتها التراثية الأثيرة إلى النفس، فتكتسب بعض مفردات اللغة دلالة جديدة في استعمال الجماعات، لا صلة له بدلالته الأولى فالدعوة الإسلامية في لغة الإخوان يراد بها تارة حقيقة اللفظ قرآنا وسنة، وتارة يراد بها دلالة جديدة هي تنظيم الإخوان المسلمين فمتى تحدثت عن الدعوة الإسلامية فأنت تتحدث عن الإخوان، ومتى تحدثت عن الإخوان فالمراد الدعوة الإسلامية.
فالانخراط في الجماعة يُسمى الانخراط في الدعوة، والخضوع لتنظيمها بلائحته هو خضوع للدعوة، وحين يكون الحديث عن مصلحة الجماعة والتنظيم يقولون: "مصلحة الدعوة"، ومن ذلك حديث البنا عن الأخ المستكمل لأركان البيعة بقوله: "هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرُّف الدعوة؟ وهل تملك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة العامة؟"
ويتغيّر معنى الجمود ويصبح مرادفا للتماسك في لغة الجماعة رغم تباين معناهما، فالتنظيم يظل متماسكا ما دام متجمدا من منظور قيادات الجماعة، وتتحول البيعة في فكر الإخوان من دلالتها الصوفية حين بايع البنا شيخ الطريقة الحصافية السيد عبدالوهاب؛ لينتقل ببيعته له من المحبين إلى التابعين؛ لتكتسب دلالة جهادية جديدة في معجم الجماعة اللغوي يعبر عنه نص قسم البيعة: "أبَايِعُكَ بِعَهْدِ اللهِ ومِيثَاقِهِ عَلَىْ أَنْ أَكُونَ جُنديًا مُخلِصًا عَامِلًا في جَماعَةِ الإخوانِ المُسْلِمِينَ، وعَلَىْ أَنْ أَسْمَعَ وأُطِيعَ في العُسْرِ واليُسرِ والَمنْشَطِ والمَكْرَهِ إلاَّ في مَعْصِيةِ اللهِ، وعَلَى ألاَّ أُنَازِعَ الأمر أهله وعَلَى أنْ أَبْذُلَ جُهْدِى وَمَالى ودَمِى فى سَبيلِ اللهِ ما استطعتُ إِلى ذَلِكَ سَبِيلًا، واللهُ عَلَىْ مَا أَقُولُ وَكِيلٌ."
فينتقل الأخ بهذه البيعة داخل الجماعة من طور إلى طور، فهي باب لا يدخله إلا من استجمع صفات وحقق شروطا عبر سلم تنظيمي طويل من محب، ثم مؤيد، ثم منتسب، ثم منتظم؛ لينتقل ببيعته للمرشد إلى مصاف الإخوة العاملين المؤهلين لجهاد التمكين، ولا تختلف البيعة بهذا المضمون عند جماعة الإخوان عن بيعة الجماعات الجهادية ذات التسليح المعلن منذ "جماعة التكفير والهجرة" أو "جماعة المسلمين" أول جماعة خرجت من رحم الإخوان جماعة شكرى مصطفى الذي يرى البعض أنها كانت امتدادا غير منفصل عن جماعة الإخوان المسلمين. ووصولا إلى تنظيمات داعش وأنصار بيت المقدس وغيرها من الجماعات.
من ناحية أخرى تُقدم الجماعة نفسها أحيانا بوصفها جمعية خيرية ومؤسسة إصلاحية وهذا غير دقيق فالجماعات ليست مؤسسات أو جمعيات ذات طابع عام، يمكن لأى شخص في المجتمع أن يشارك فيه، ويتمتع بممارسة العمل من خلالها، فالانضمام إليها لا يتم من خلال اجتماع مجلس إدارة والتصعيد بداخلها لا يأتي عبر انتخابات جمعية عمومية، ولائحتها الإدارية والمالية لا تخضع لقانون، بل هيكلها التنظيمي لها طابع التنظيمات العميقة في الحيطة والحذر والسرية لأقصى درجات التكتم والتخفي، فيُنشأ الأخ على سماع عبارة: "علانية الدعوة وسرية التنظيم" الذي يأخذ شكل دوائر متصاعدة تتماس من خلال عدد محدد من الأفراد يمثلون وحدة إدارية تنظيمية، وكلما ازداد التصاعد التنظيمي ضاقت الدوائر وانحصرت نقطة التماس في عدد قليل من الأفراد حفاظا على أسرار التنظيم في ذروة هرمه الإداري..
وإذا انتقلنا إلى دلالة كلمة أمة في معجم الجماعة الدينية فسنجده لا يتجاوز الدلالة الدينية، فمتى أطلقت كلمة الأمة انصرفت إلى الأمة الإسلامية، فالاتحاد والوحدة تقوم على رباط واحد هو العقيدة الإسلامية، ورفض أي تمايز قومي أو عرقي أو جغرافي، فيقول البنا: "لا نسلم بهذه الاتفاقيات الدولية التي تجعل من الوطن الإسلامي دويلات صغيرة ممزقة يسهل ابتلاعها على الغاصبين، ولا نسكت على هضم حرية هذه الشعوب واستبداد غيرها بها. فمصر وسورية والعراق والحجاز واليمن وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش وكل شبر في أرض فيه مسلم يقول: لا إله إلا الله، كل ذلك وطننا الكبير الذي نسعى لتحريره وإنقاذه وخلاصه وضم أجزائه بعضها إلى بعض."
"حدود الوطنية ليست بالأرض ولكن بالعقيدة، هم يعتبرونها تخوما أرضية وحدودا جغرافية، أما نحن فكل بقعة فيها مسلم هي وطن عندنا، ولكن دعاة الوطنية لا يعنيهم إلا تلك البقعة الضيقة من الأرض... فكان من ذلك أن اتسع أفق الوطن الإسلامي وسما عن حدود الوطنية الجغرافية والوطنية الدموية إلى وطنية المبادئ السامية والعقائد الخالصة الصحيحة."
وفي مؤتمر طلاب الإخوان الثاني يقول: "أنا أعلن أيها الإخوان من فوق هذا المنبر بكل صراحة ووضوح وقوة، أن الإسلام شيء غير هذا المعنى الذي أراد خصومه والأعداء من أبنائه أن يحصروه فيه ويقيدوه به، وأن الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية."
فالعالم الإسلامي عنده أمة واحدة رباطها الدين، وليس مجموعة أمم وقوميات تتحد في كيان العالم الإسلامي الواحد، كما عرّفها عبد الرحمن الكواكبي بأنها "اتحاد ما بين مجموعة أمم وقوميات، تقوم فيه كل أمة على أساس روابط جنس ولغة ووطن وحقوق مشتركة."
ولا يخفى ما يحمله مفهوم الكواكبي من اتساق مع الواقع وحفظا للمواطنة، وصيانة للتعدد العرقي والجغرافي داخل بنية العالم الإسلامي، فلا يصطدم مفهوم الأمة الإسلامية عنده مع مفهوم الأمة المصرية أو المغربية أو غيرها من مفاهيم الأمة القطرية؛ لأن مفهوم الكواكبي يحفظ لكل دولة كِيانها ولكل جنسية هويتها، فلا يُمس داخل بنية الأمة العام الانتماء الوطني، ولا يصطدم مفهوم الأمة عنده بمبدأ المواطنة حيث لا يُعرف الفرد بمهنته أو دينه أو إقليمه أو ماله أو سلطته، وإنما بوصفه مواطنا له حقوق وعليه واجبات يتساوى فيها مع الجميع، فالمواطنة مظلة اجتماعية وثقافية وقانونية جامعة لأبناء الوطن الواحد، لا تنظر إلى الدين ولا الاعتقاد.
بينما يصطدم مفهوم الأمة عند الجماعات الإسلامية بمبدأ المواطنة ويتحول به المسيحيون وغيرهم من المخالفين في العقيدة إلى أقليات غير مسلمة، تُوصف في خطاب مؤسس جماعة الإخوان المسلمين بأهل الذمة، والأقليات الدينية، وليسوا مواطنين كاملي الأهلية؛ لأنهم وفق مفهوم الجماعات ليسوا من نسيج الأمة التي تقوم على العقيدة المكون الأول والأخير، وهنا نجد تناقضا بين الخطاب السياسي المعلن بكلمات المواطنة، والخطاب التثقيفي لأبناء الجماعة الغير معلن إعلاميا بأن رباط بناء الأمة هو العقيدة وحدها.
فرؤية عبدالرحمن الكواكبي أكثر نضجًا ورحابة من خطاب الجماعات الإسلامية التالية له، والتي لم يستفد منه منظري فكر الجماعات، فينظر الكواكبي إلي المسيحيين على أنهم مواطنون متساوون مع المسلمين على أساس "الاتحاد الوطني" دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، فأمثاله من الإصلاحيين هم الأقرب إلى إنتاج الدولة المدنية في صورتها الحديثة، ففكر الكواكبي - كما يرى باروت - إرهاص مبكر بقابلية الإصلاحيين لاستيعاب علمانية الدولة، وأنها لا تتعارض مع الإسلام، فينقل عن الكواكبي قوله الصريح بفصل السلطة الدينية عن السياسية، "دعونا ندير حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط.".
«ست رسائل أزهرية» تفكك خطاب الجماعة الإرهابية
الرسالة الازهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية (1/6)
الرسالة الازهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية (2/6)
يتبع