أحمد حميدة يكتب: رسالتان من مراجعاتنا
سجن أتباع الجماعة أنفسهم داخل قفص صنعه لهم غيرهم، يحجبهم هذا القفص ويفصلهم عن عالمهم الحقيقي، يمنعهم إسكات صوت عقولهم أن يعيدوا اكتشاف ما حولهم عبر عمليات تفكير حقيقية أداتها العقل وليس العاطفة، وتستخدم الجماعة استراتيجية التربية المنغلقة، وتحيط أفرادها بسياج من السرية والكتمان وبمنظومة أفكار عميقة ومعيقة عن السير للأمام!! فهم لا يمتلكون أدوات العيش فوق الأرض لكنهم يمتلكون أدوات العيش تحتها، لذلك لا يؤمنون بتعددية فكرية ولا ثقافية ولا سياسية، ولا ينصاعون لقانون الدولة، هم يحترمون فقط لائحتهم الداخلية، وهم يجيدون التفتيش والمحاسبة للمخالف ولا يملكون محاسبة قياداتهم، ويحسنون اتهام الناس جميعا بالخطأ ولا يتهمون أنفسهم!
ويتعايش الإخوان فى "أسر"يجمعهم عدد من اللقاءات الأسبوعية والشهرية، وينظم هذه العلاقة داخل الجماعة "نقيب" أو "مسئول" هو بمثابة "القائد والأستاذ والشيخ والأب" وله على هؤلاء الأفراد حق السمع والطاعة، ويتم التصعيد فى درجات السُّلم التنظيمي وفى المستويات التربوية محكوم بولائه للجماعة ولقياداتها والبراء ممن عداها، وتتحقق فيه التبعية الفكرية والوجدانية التامة لها، وذلك بناء على ما يبايع عليه من أركان"البيعة" ومنها ركن"التجرد" والذى ينص على "أن تتجرد لفكرتك مما عداها فإنها أسمى الفكر وأعلاها"، وعليه أن يعطى كامل ثقته فى قيادادته وقراراتها بناء على ما قرره البنا فى ركن "الثقة" فقال:
"وأن تحيط القيادة علما بكل ظروفك، وأن تكون دائم الإتصال الروحي والعملي بها، وأن تستأذن فى كل الخطوات المهمة" ثم يسأل البنا المقبلين على "البيعة" فيقول "هل هو مستعد لاعتبار الأوامر التى تصدر إليه من القيادة (فى غير معصية طبعا) قاطعة لا مجال فيها للجدل ولا للتردد ولا للإنتقاص ولا للتحوير؟ هل هو مستعد لأن يفرض فى نفسه الخطأ وفى القيادة الصواب إذا تعارض ما أُمر به مع ما تعلم فى المسائل الاجتماعية التى لم يرد فيها نص شرعي؟
هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة؟ وهل تملك القيادة فى نظره الحق فى الترجيح بين مصلحته ومصلحة الدعوة"..وداخل هذه "الأسر"وغيرها من المحاضن بشكل عام يُكرس داخل الأفراد شعورا بعزلة نفسية عن المجتمع، وتصبح البيئة التى يحيا داخلها هى البيئة التى تمثل الإسلام النقي الصحيح الشامل المشبع داخلها بمشاعر الغيرة على الدين فى مواجهة عوالم أخري من ناقصى الإسلام والمنافقين وغير المسلمين من أعداء هذه الأمة، فيعيشون فى عزلة وهم بين الناس، وتتشكل ثقافتهم من مصادر المعرفة المعتمدة عند جماعتهم، فتركز الجماعة على رسائل البنا وتفسير الظلال، وبعض كتابات أبناء الصحوة الإسلامية مما راجعته الجماعة، ليجتمع أبنائها على معين واحد وصافي،وإطار فكري واحد لم يتلوث بأفكار دخيلة عليه قد تساعده على التفكير والتساؤل!!
وفى هذا يشترط البنا على الإخواني أن"يكثر المطالعة فى رسائل الإخوان وجرائدهم ومجلاتهم...أن يتخلى عن صلته بأية هيئة أو جماعة لا يكون الإتصال بها فى مصلحة الدعوة وخاصة إذا أُمرت بذلك، "...أن تقاطع كل محكمة غير إسلامية فلا تذهب إليها إلا مضطرا، وأن تقاطع الأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التى تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة....أن تحافظ على الأوراد الإخوانية وألا تقصر فى أدائها إلا لضرورة قاهرة"..".
فتوحيد مصادر التغذية الفكرية يُفرز بالطبع اتجاها واحدا وصوتا واحدا ورأيا واحدا، ويتولد الشعور بأن ما هم عليه هو "الدين"الصحيح وأن هذا "الفهم"هو ما كان عليه النبي وأصحابه، فيعتقدون أنهم العقلاء فى عالم الجنون والأصحاء فى دنيا المرض، ويعتبرون الموت دون أفكارهم وأسرار الجماعة موت فى سبيل الله، واعتناق فكر قياداتهم واجتهادهم محض إسلام يضحون من أجله، لذلك يغيب أي حديث عن إخفاق أو أخطاء وقعت من القيادة "الربانية"..
يقول الباحث عبد الباسط سلامة عند حديثه عن هذه الإخفاقات من القيادة:"ويغيب أي حديث عن بشرية قيادة الجماعة، وما يكتنف أداءها من قصور يحتاج إلى تقييم ومراجعة، فهى القيادة التى ضحت على طريق الدعوة، ومُحِّصت لتنال تلك المكانة الروحية فى قلوب أبناء الجماعة، ويحل محل الخطاب النقدى التقييمي خطاب استسلامي للنتائج تُروج فيه عبارات التسليم بأقدار الله واختياره، وضرورة ابتلاء الصف المسلم، ليتبين الصالح من الطالح ويردد الفكر التلقيني للجماعة عبارات من أمثال (الابتلاء سنة أصحاب الدعوات) فتستسلم القواعد التنظيمية لنتائج لم يتدخلوا في صناعة قراراتها، ولا يملكون محاسبة صانعيها.. تلك السطحية والعجز عن التقييم والمراجعة أنتجت حالة من التبرير المستمر المزيِّف للأسباب الحقيقية،فإذا كان الكذب هو إخفاء الحقيقة عن الناس، فإن التبرير هو إخفاء الحقيقة عن الصف الإخواني، فهناك دائما المبرر الأمني ومبرر التربص والمؤامرة، ومبرر الألام والابتلاءات، ومبرر الفهم القاصر للإسلام الذى يفسر نبذ هذا أو تكفير ذاك فى صمت" هذا التبرير الذى ورط الجماعة فى مزيد من الأخطاء وكان وما يزال عائقا أمام أي تقييم أو مراجعة، فماذا يُنتظر من جماعة عاشت التبرير عقودا من الزمن!
لذلك وجبت منا أن نقوم بالمراجعة لمثل هذه الأفكار، ومن خلال هذه المراجعات نبعث برسالتين مهمتين، هما:
الرسالة الأولي:
لمن هم خارج الصف من مفكرين وسياسيين وأدباء ومثقفين ولرجال الأزهر والأوقاف ومؤسسات الدولة المعنية، أن يحتضنوا ويتبنوا هذه الأفكار ويشتبكوا معها ويساهموا فى تنميتها والعمل على أن يسود الفكر الإسلامي المعتدل والوسطي داخل المجتمع، ولابد وأن يعلوا صوت هذه الأفكار التجديدية والوسطية فوق أي صوت ويُفسح لها المجال داخل الساحة الفكرية والثقافية، لتحارب بها الأفكار المتطرفة والمتشددة والتى تدعو التى التكفير والقتل، لنُظهر للعالم أجمع للمسلمين وغير المسلمين أنه ليس فى ديننا نصوص تجنح إلي التطرف والتشدد والقتل لمجرد الإختلاف سواء فى العقيدة أو الرأي، بل ديننا يدعو إلى دولة مدنية يُحترم فيها الرأي الأخر وقبوله والاعتراف بوجوده واحترام الإنسان أي إنسان بصرف النظر عن جنسه أو لونه أو عرقه أو دينه أو لغته،فمثل هذه الأفكار التى تدعوا إلي القتل على الهوية أو مجرد الاختلاف فى الرأي وعدم قبول الآخر دخيلة على الفكر الإسلامي المعتدل، ولابد من توجيه النظر إلي أن هناك داخل هذه التنظيمات عقول تبحث وتفكر ومن الواجب مد اليد إليها وإنقاذها من براثن هذا النوع من التنظيمات ولابد أيضا من تفعيل الية المواجهة الفكرية معها وخاصة من هم داخل "السجون".
الرسالة الثانية:
لمن هم داخل التنظيم وخاصة الشباب منهم، أقول لهم لقد ألقينا بمراجعاتنا حجرا في الماء الراكد، لعلنا نكون سببا في تحرير العقول وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، فابنوا عليها، فأنتم أيها الشباب عقل هذا الوطن وروحه الدافقة وقلبه النابض، وأنتم الأقدر على التفكير السليم من غيركم، فأعملوا عقولكم وابحثوا، وناقشوا ولا تخجلوا من طرح الأسئلة الكبرى، ولا يقفنّ مقولات مثل "الثقة فى القيادة"حائلا بينكم وبين أن تقوموا بدوركم فى تصحيح المسار، وأن تبدوا آراءكم بقوة وجرأة، انتقدوا وقيّموا وقوموا الأفكار، ولا تجعلوا مصادر التغذية الفكرية مصدرا واحدا، بل انفتحوا على كل الثقافات والأفكار التجديدية الأخرى، واعلموا أن وجوه الحق كثيرة ومتعددة، والصواب متعدد الطرق أيضا، أدعوكم جميعا أن تتجردوا للحق، وتبحثوا عنه، وأن تردوا الباطل على لسان أي أحد، أدعوكم إلى القراءة الناقدة لأفكار المؤسس وعدم التهيب من نقدها والبحث عن أوجه القصور فيها، بل ونقضها إذا لزم الأمر، وأدعوكم أيضا أن تنفتحوا على مجتمعكم الكبير والحقيقي ولا تنغلقوا على أنفسكم، واقرأوا تاريخكم بعين الناقد البصير، وخذوا العبرة والدرس، ولا تأخدوا بقراءة واحدة لأن القراءات للتاريخ متعددة، لا تهربوا من عقولكم، ولا تكونوا تابعين لأفكار غيركم مهما كانت براقة، وأعيدوا اكتشاف هذه الأفكار من جديد، ثم بعد ذلك خذوا قراركم في أي اتجاه تشاءون.