علي الأصل دور .. حكاية "مقصوفة الرقبة" وعلاقة "زينب البكرية" بالحملة الفرنسية
تعد الأمثال الشعبية خلاصة تجربة وحكمة الشعوب، في مواقف حياتية مختلفة، والتي لانزال حتي اليوم نرددها ونستخدمها في حياتنا اليومية. وفي كتابه "أصل الحكاية"، والصادر حديثا عن دار غراب للنشر والتوزيع، يرصد ويوثق المؤرخ الباحث في التراث، خطاب معوض خطاب، لأصول بعد من الأمثال الشعبية.
فعلي سبيل المثال لا الحصر، المثل الشعبي "زي القرع يمد لبره"، وعنه يقول "معوض": المثل يقال في من يقدم المعونة والمعروف والإحسان لمن هم من غير أقاربه، وفي نفس الوقت يهمل أقاربه الذين ربما يكونون في أشد الحاجة لهذه المعونة.
وهذا المثل لا تنفرد به مصر وحدها، بل يتردد في العديد من البلاد العربية، فمثلا أهل الكويت يقولون: "الشجرة العوجة بطاطها في غير حوضها"، بمعنى أن الشجرة غير السوية يتساقط ثمارها خارج حوضها، وفي العراق يقولون: "تقوقي عندنا وتبيض عند الجيران"، والمعنى واضح وجلي، ويقال أيضا: "خيره لغيره" وخيرنا لغيرنا".
و"القرع" هو نبات يسمى أيضا بالدباء، وهو الكوسة أو الكوسا كبيرة الحجم، ويتميز بفروعه الكثيرة الزاحفة التي لا تقوى على حمل الثمار الكبيرة فيثمر خارج حوضه، مثله في ذلك مثل البطيخ والشمام والخيار والقرع العسلي، ولكن سبحان الله رغم أن جميع هذه الثمار متشابهة في نفس الفعل، إلا أن هذا المثل التصق بالقرع وحده دون غيره.
ــ من هي "زينب البكرية" بطلة مثل "مقصوفة الرقبة"
مقصوفة الرقبة تعد واحدة من الكلمات الدارجة المتداولة والمنتشرة على ألسنة الكثيرين، ولعل أكثر الذين يقولون هذه الكلمة لا يعرفون من هي أول فتاة أطلق عليها هذا اللقب، وهذه الكلمة أو اللقب يطلق على الفتاة التي لا تتصف بأخلاق حميدة المتمردة على الأصول والتقاليد والأعراف، وكلمة قصف الرقبة تعني قطع الرقبة.
ويوضح "معوض" أصل هذا المثل والمناسبة التي قيلت فيه: هذه الكلمة تعود إلى حادثة هزت مصر كلها منذ ما يقرب من 220 سنة، وهي حادثة إعدام أو قصف رقبة فتاة لم يتجاوز عمرها 16 سنة في ذلك الوقت، وهي زينب البكرية أو زينب بنت الشيخ خليل البكري شيخ السادة البكرية ونقيب الأشــراف، وقد تحدث عن زينب البكرية العديد من الكتاب والمــؤرخين المصرييــن والأجــانب، منهم الجبرتي في تاريخه وحمدي البطران في كتابه "مصر بين الرحالة والمؤرخين" و الأمريكي التشيكي الأصل ج كريستوفر هيرولد في كتابه "بونابرت في مصر"، كما كتب قصتها علي أحمد باكثير في مسرحية "مأساة زينب.".
وتبدأ حكاية "مقصوفة الرقبة" أو زينب البكرية بوصول الحملة الفرنسية إلى مصر واحتلالها، ثم توقيع إتفاق هدنة بين مشايخ الأزهر الشريف ونابليون بونابرت قبل اندلاع ثورة القاهرة الأولى في شهر أكتوبر سنة 1798، وكان الشيخ عمر مكرم معارضا لنابليون بونابرت وقائدا للحركة الشعبية لمقاومته وانتهى به الأمر لمغادرة مصر كلها والسفر إلى الشام، وساهم ذلك في طلب الشيخ خليل البكري من نابليون بونابرت أن يجعله نقيبا للأشراف بدلا من الشيخ عمر مكرم وهو ما حدث بالفعل، وكان ذلك سببا في أن الشيخ خليل البكري أكثر من مخالطة الفرنسيين والاندماج معهم ومسايرتهم في الشراب وغيره كما أثر عنه.
ويضيف "معوض": كانت أفعال نقيب الأشراف السيد خليل للبكري مدعاة للأسف وإثارة لمشاعر الكثير من المصريين، الذين لم يرضوا عن أفعاله التي تخالف الأعراف والدين، بالإضافة إلى مخالطة المحتلين، وما أثار الناس أكثر وأكثر أن السيد خليل البكري كان يستضيف نابليون بونابرت في بيته وأصبح منزل السيد خليل البكرى هو المكان المفضل لسهرات نابليون، كما سمح السيد خليل لابنته زينب أن تخالط الفرنسيين وأن تتشبه بهم فخلعت الحجاب وأصبحت تخرج من بيتها وهي تكشف شعر رأسها، وأخذ الناس يلوكون في سيرتها، وأشيع أنها أصبحت رفيقة لنابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر.
وصفت زينب بأنها أجمل فتيات مصر وأنظفهن وأكثرهن اعتناء بأنوثتها، كما وصفت بأنها كانت صاحبة قوام ممشوق ولون يميل إلى السمرة، كما وصفت بأنها النسخة المصرية من جوزفين زوجة نابليون بونابرت، وكان يطلق عليها فتاة القائد المصرية، كما كانت تفتح لها معسكرات الجيش الفرنسي وكان يعزف لها السلام الوطني الفرنسي، ويقال بأن والدها كان على علم بمخالطتها للفرنسيين وغض الطرف عن أفعالها طمعا في مصاهرة قائد الحملة الفرنسية على مصر.
وفجأة يثور أهل القاهرة على الفرنسيين وعلى الشيخ البكري نفسه، حيث هاجمه أناس كثيرون وصفهم الجبرتي بـأنهم متهورين من العامة، فقاموا بنهب منزله وهتكوا حرمة منزله واعتدوا عليه وعلى أهل بيته، وبعد القضاء على ثورة أهل القاهرة أعاد الفرنسيون إلى الشيخ خليل البكري ما نهب منه وانتقموا من أهل القاهرة فزاد من تقربه للفرنسيين أكثر وأكثر.
ويلفت "معوض" إلي: وفي سنة 1801 خرجت الحملة الفرنسية من مصر نهائيا، وأصبحت الكلمة العليا لثوار القاهرة، فبدأوا في محاكمة كل من كان يتعامل مع الفرنسيين، وبالطبع كانت زينب البكرية في مقدمة صفوف من تم التحقيق معهم ومحاكمتهم. في الحقيقة أنهم وقتها لم يكن هناك وجود لأي شهود على ارتكاب زينب البكرية لأية جريمة تستوجب توقيع الحد عليها، فقط ما يقال ويشاع عنها كانت مجرد اتهامات مرسلة دون دليل قاطع، حيث أن ما ثبت عليها كان فقط أنها قد قامت بخلع الحجاب وتبرجت تقليدا لبنات الإفرنج.
والحقيقة أن زينب البكرية لم يثبت عليها أنها قد ارتكبت حدا من حدود الله، كما أنها إن كانت قد فعلت شيئا فقد فعلته بعلم بل وبرضا أبيها الذي كان يتمنى مصاهرة نابليون بونابرت، والمثير أن زينب البكرية أثناء المحاكمة قد قالت إنها قد تابت عما فعلت، أما والدها فقد قال أمام من يحاكمونها إنه قد تبرأ منها ومن أفعالها، فما كان من الذين يقومون بمحاكمتها إلا أن حكموا عليها بقصف الرقبة، وهكذا كانت زينب البكرية ضحية أبيها الذي أضاعها ولم يحاول أن يدافع عنها أمام الثوار الذين انتقموا منه في شخصها، بل افتدى بها نفسه وأسلمها إليهم كما أسلمها إلى الفرنسيين من قبل. كانت هذه هي حكاية مقصوفة الرقبة زينب البكرية الفتاة الصغيرة التي صارت مضرب الأمثال، بعدما قصفت رقبتها دون شهود على جريمة اقترفتها، ودون اعتراف على جرم ارتكبته، فقط كانت جريمتها أنها قلدت لباس بنات الإفرنج وخالطتهم، وأشيع عنها كلام وأفعال لم تثبت صحتها.