«سيرة أخرى».. يكشف أسرارًا جديدة فى معارك إحسان عبدالقدوس
«بين أدراج مكتبى درج أعتبره درج الأسرار، ولكنه فى الواقع درج المهملات التى تضيع مع النسيان»؛ هكذا تحدث إحسان عبدالقدوس عن أشياء إن طارت من ذاكرته سكنت فى درج غير بعيد يعود إليه فينسحب النسيان، وفى كتابه «إحسان عبدالقدوس.. سيرة أخرى» يفتش الكاتب الصحفى والباحث الأدبى إبراهيم عبدالعزيز فى تلك الأدراج، ليقترب من «الساقط واللاقط» فى مسيرة صاحبها؛ ساعيًا إلى تقديم إجابة عن أسئلة ساكنة تتحرك رغم مرور اثنين وثلاثين عامًا على رحيل صاحبها، منها ما لم يحظ بإجابات قطعية رغم تداولها فى حياته، ومنها ما هو غامض أو مجهول أو مشوش، بسبب تضارب ما قيل فيه، وتظل شخصية إحسان عبدالقدوس ثرية ومثيرة للجدل، وأينما نظرنا فى سيرته نكتشف ما هو جدير بالكتابة عنه أو التأكيد عليه؛ فهو الصحفى الذى فجَّر صفقة الأسلحة الفاسدة فى وجه النظام الملكى، وهو الأديب صاحب القصص المثيرة والمختلفة والجريئة على مستوى المضامين والتناول، وهو السياسى الذى لا ينتمى لحزب بعينه، وهو الوطنى فى مجمل مسيرته التى ينظمها خط ليبرالى مستقل.
ليبرالى وطنى تعرض للسجن وطالته تهمة العمالة لصالح الإنجليز
إحسان عبدالقدوس «١ يناير ١٩١٩- ١٢ يناير ١٩٩٠» عاصر عهدين، «الملكية» و«الجمهورية»، ولم يرتمِ فى حضن سلطة ما، هو بتعبيره «لا وفدى ولا حزبى»، بل إنه تعرض للسجن أكثر من مرة فى العهد الملكى وبعده، ولأسباب تتعلق كلها بمواقفه الوطنية، فقد اعتُقل عندما هاجم اللورد كيلرن فى ١٩٤٥، وسُجن عندما فضح أحد وزراء حكومة النحاس باشا؛ وكان الوزير قد سرب أخبار مجلس الوزراء للسفير الأمريكى، كما استقال من جريدة «الزمان» فى أكتوبر ١٩٤٩ احتجاجًا على عدم نشرها مقالًا له ضد الاحتلال البريطانى، كما تعرض فى مسيرته لعدة محاولات اغتيال.
وقد ساند «إحسان» ثورة يوليو، رغم ذلك لم يتوان لحظة فى انتقاد سياسة قادتها؛ حيث هاجم الازدواجية فى أسلوب الحكم وراح يوضح أخطارها، وفى أزمة مارس ١٩٥٤ كانت مجلة «روزاليوسف» منبرًا ضخمًا للدفاع عن حقوق المصريين فى الحياة والديمقراطية، وقد تعرض للحبس الانفرادى مدة ٤٥ يومًا حينما كتب عن «الجمعية السرية التى تحكم مصر».
لكن المثير حقًا أن مفجر قضية صفقة الأسلحة الفاسدة فى وجه النظام الملكى وصاحب التاريخ الوطنى المضىء يتعرض لما يضعه فى موقف «متهم بالعمالة لصالح الإنجليز»، وهى المسألة التى أفرد لها إبراهيم عبدالعزيز جانبًا من كتابه، إذ يتناول قصة تلك الوثيقة التى نشرتها جريدة «القبس» الكويتية فى الأول من سبتمبر ١٩٨٤؛ بمانشيت تصدر صفحتها الأولى بعنوان: «وثيقة بريطانية تكشف: إحسان عبدالقدوس سرَّب أسرار ثورة يوليو للسفارة البريطانية»، وفى مضمون التقرير الذى كتبه صالح الخريبى؛ موفد الصحيفة من لندن، أن المعلومات التى سربها «إحسان» جاءت فى لقاء تم بينه وبين الملحق الصحفى فى السفارة البريطانية «جيمس مورى» يوم ١١ أغسطس ١٩٥٢؛ أى بعد ١٩ يومًا من قيام الثورة، وبعد ١٥ يومًا من تنازل فاروق عن العرش لابنه أحمد فؤاد وخروجه من مصر.
أوراق «الوثيقة» صادرة عن «الدائرة الإعلامية فى السفارة البريطانية»، وقد ضمها «عبدالعزيز» لكتابه، ورغم أنها تحمل اصطلاح «سرى» فإنها تبدو لقارئها الآن تقارير دورية عادية، ومن خلال تتبعه وتحليله لها يجزم «عبدالعزيز» بأن إحسان أبلغ عبدالناصر بالزيارة المشار إليها، بل إنه قام بها بإيعاز من عبدالناصر نفسه، وعلى أساسها كانت الثورة تتحرك باطمئنان من جانب الإنجليز، فى تلك الأيام الفارقة فى عمر الثورة.
لكن صاحب كتاب «سيرة أخرى» لم يورد أى ردود تفند مزاعم «القبس»؛ حتى من إحسان نفسه، رغم أن موضوع الوثيقة أُثير فى حياته، ولذلك سألته: لماذا لم يرد إحسان آنذاك؟، وهل لم تجد فى الأرشيفات الصحفية ما ينفى أو يؤكد ذلك؟، فقال: بحثت ولم أجد؛ فربما أراد إحسان قتل تلك المزاعم بالتجاهل التام؛ حتى إن الصحف لم تعلق آنذاك على ما نشرته جريدة «القبس»؛ وكأن أمر تجاهله كان بالتفاهم الضمنى، وبدا الأمر كأنه أداة تشويه لم تحقق الغرض منها.
وصف الإخوان بالمجموعة الدموية التى أرادت تضليل الشعب
كانت لدى إحسان عبدالقدوس الشجاعة والجرأة فى العهد الملكى، وما بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، وكان أول صحفى يجرى حوارًا مع حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، للتعرف على فكره؛ وفى ذلك قال إحسان: «كنت أريد خطوطًا واضحة مفصلة، ولم أجد لديهم سوى وجهة نظر عريضة وغائمة فى كثير من نواحيها»، وقد حاول «البنا» أن يقنعه بالانضمام إلى الجماعة كعضو منظم لكنه رفض بشدة، وعندما نشر الحوار بمجلة «روزاليوسف» فى سبتمبر ١٩٤٥م، أشاعوا أن إحسان إخوانى، ولكى ينفى ذلك نشر بيان الحزب الشيوعى على صفحاتها. لكن التحويم حول «إخوانية إحسان» لم ينقض، وحينما انعقدت محكمة الثورة «التى كانت تحاكم الإخوان بعد حادث المنشية فى ١٩٥٤» أرسل ممدوح سالم، رئيس محكمة الشعب، فى سؤال إحسان حول «رأيه فى حريات كان الإخوان يطالبون بها ويرفعون شعاراتها فى ذلك التوقيت»، فأرسل إحسان خطابًا يقول فيه: «علمت بعد انصرافى من قاعة المحكمة؛ حيث شهدت الجزء الأول من جلسة الصباح أن سيادتكم أردتم أن تعرفوا رأيى فى الحريات التى يطالب بها الإخوان المسلمون، وحتى ينطبق النظام الذى يطالبون به على ما أدعو إليه من قواعد الحرية. وأحب أن أوضح أن الحرية التى أؤمن بها وأدعو إليها هى- كما سبق أن كتبت ونشرت- مجموعة من الواجبات يطالب بها المجتمع كل فرد، قبل أن تكون مجموعة من الحقوق يطالب بها الفرد لنفسه؛ والمجتمع يمثل دائمًا فى القانون، وفى الدولة، وهو ممثل اليوم فى الثورة، فإذا أخل فرد أو مجموعة من الأفراد بواجبهم الذى يحتمه عليهم المجتمع، فقد أصبح من حق المجتمع توقيع عقابه عليهم حماية للآخرين.
ولم تكن الحرية أبدًا هى حرية القتل، وحرية الإرهاب، وحرية الإفساد.. بل إن الثورة لم تقم إلا لأن الحرية التى كانت سائدة فى العهد الماضى- إذا صح أن نسميها حرية- لم تكن إلا حرية الإفساد وحرية الاعتداء على حريات الآخرين.
وأرجو أن أكون بهذا الخطاب قد أديت بعض واجبى نحو محاكمة المعتدين على حريات الشعب، وأن أكون بذلك قد ساهمت ولو مساهمة طفيفة فى المجهود العنيف الذى تبذلونه لإطلاع الشعب على حقيقة من أرادوا تضليله».
ورغم هذا الرأى القاطع استمرت الجماعة الإرهابية بعد وفاة إحسان تروج لميله لها، وتشكك فيما كُتب حوله، ولما لم يكف بعضهم عن استغلال وتوظيف ذلك، قطعت نرمين القوسينى، مديرة مكتب إحسان، حديث كل «متأخون»؛ إذ أهدت لمجلة «المصور» فى أبريل ٢٠٠٩ الوثيقة بخط يد إحسان، ويقول إبراهيم عبدالعزيز- قياسًا على واقع ما حدث ويحدث من جماعة الإخوان الدموية-: إن ما حذر منه إحسان فى تلك الوثيقة النادرة لا يزال رابضًا مستقرًا فى قلب الجماعة، ويُخشى منه على الحريات المدنية حتى ساعته وتاريخه.
الحكيم امتدح قصته ورفض دعمه انتظارًا للأوامر
ما أصاب إحسان فى ساحة السياسة لا يقل فداحة عما أصابه من أذى على الساحة الأدبية، إذ أطلقوا على قصصه «أدب الفراش»، وأثاروا كثيرًا من الضجيج حين كتب «لا أنام» و«البنات والصيف»، ووصل الأمر إلى نيابة الآداب، لولا تدخل عبدالناصر بنفسه، حتى كانت أزمته الكبرى بسبب قصة «أنف وثلاث عيون» التى طالب أحد نواب مجلس الأمة بمنع صاحبها من الكتابة، ومنع قصصه من الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما.
لكن ذلك لم يؤثر فى إحسان قدر ما آلمه موقف توفيق الحكيم؛ يقول إحسان: «حين قُدم السؤال إلى مجلس الأمة طلبتُ عقد لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وكان من أعضائها توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومعظم كبار الأدباء، وقد أحضرت لهم القصة وقلت لهم: أريد رأيكم، سواء بالموافقة أو بالرفض. وقال لى توفيق الحكيم: إننى قرأت القصة وليس فيها شىء يمس أو يخدش الحياء، بل هى قمة من قمم الإبداع الأدبى. وامتدح القصة مدحًا غير طبيعى؛ فقلت له: تسمح تعطينى ورقة بهذا المعنى. فقال: لا.. لا أستطيع فعل ذلك؛ إحنا ليست لدينا أوامر. قلت له: أوامر إيه؟ هذه آراء شخصية. فقال: لا نستطيع أن نعطى لك هذه الورقة لأننى لا أعرف رأيهم إيه».
تفاصيل أزمة «أنف وثلاث عيون» أكثر إثارة من الرواية ذاتها، ويتناولها إبراهيم عبدالعزيز، عبر تحليله خطابين موجهين من إحسان؛ الأول أرسله للحكيم فى يونيو ١٩٦٤، أى بعد الواقعة مباشرة، يبدأ بصيغة اعتذار، والثانى لطه حسين فى مارس ١٩٦٦، يشكو له مما فعله الحكيم به، ويتساءل «عبدالعزيز»: مَنْ نصدق؛ إحسان الذى اتهم الحكيم بعد وفاته بخمسة أشهر بأنه تخلى عنه يوم أن قامت القيامة ضده فى مجلس الأمة، أم رسالته التى كتبها بخطه وأرسلها بإرادته إلى الحكيم فى حياته؟!؛ ثم يعرض الرسالتين ليؤكد أن لإحسان رأيين مختلفين؛ ففى رسالة يتهم الحكيم وفى الأخرى يبرئه!!. لكن بالنظر إلى سياق رسالة إحسان للحكيم نجد أن الأول شعر بصدمة عظيمة بسبب خذلان الثانى له، حتى إنه استهل الخطاب بجملة «أكتب إليك لأعتذر، ولو أنى لا أدرى ما أعتذر عنه»؛ ما يشير إلى أنه أراد إيصال «رسالة لوم وعتاب» وليس «رسالة اعتذار»، وهو ما تكشفه رسالة إحسان إلى طه حسين؛ إذ يستهلها قائلًا: «تحية حب واقتناع بك». وصولًا إلى لب القضية: «تراجع الأستاذ توفيق الحكيم، وفهمت منه أنه لا يستطيع أن يسجل هذا الرأى الأدبى المحض إلا بعد استشارة الأستاذ يوسف السباعى، وخرجت من اجتماع اللجنة لست غاضبًا ولكن يائسًا، وأرسلت خطابًا إلى الحكيم أعتذر له عن التجائى للجنة». ورغم ذلك ذهب إبراهيم عبدالعزيز إلى إدانة إحسان لتبرير موقف الحكيم الذى يميل إليه؛ «بسبب حبه وتقديره الشخصى له»، بل استخدم ما قاله إحسان فى وصف نفسه فى غير موضعه؛ فقد قال إحسان: «كل فرد مجموعة متناقضات.. وكذلك أنا»، بينما يصفه «عبدالعزيز» حرفيًا بـ«رجل المتناقضات»؛ وشتان ما بين المعنيين.
القدرى الجريح: كل هؤلاء الأفراد هم أنا
حسنًا فعل إبراهيم عبدالعزيز بنشر مقالة قصيرة كتبها إحسان بعنوان «أنا»؛ وهذا جوهر نصها: «أنا لست فردًا.. أنا مجتمع.. عشرات من الناس يعيشون داخل صدرى، وكل واحد له شخصيته المستقلة، وحريته الكاملة فى إبداء رأيه وفى محاولة فرض سيطرته بالطريق القانونى، وفى كل مناسبة- وأحيانًا بلا مناسبة- تثور فى صدرى مناقشة حادة بين كل هؤلاء الأفراد؛ وتنتهى إلى انتصار واحد منهم، هو الذى يملى تصرفه ويحدد الطريق؛ هذا الواحد هو إرادتى».
ويقول إحسان: «إن إرادتى ليست عنصرًا قائمًا بذاته.. ولذلك أقول عن نفسى إننى قدرى؛ بمعنى أننى أعيش مستسلمًا للقدر الذى تفرضه علىّ إرادة واحد من هؤلاء الناس الذين يعيشون فى صدرى، وكل هؤلاء الأفراد هم أنا».
إلى أن يقول: «ليس هناك فرد أسطورى.. كل فرد مجموعة متناقضات.. وكذلك أنا».