مصر النموذج.. تحتفل
تحتفل مصر هذه الأيام بميلاد السيد المسيح، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ومصر في هذا لا تسن سُنة جديدة على طباعها ولا تمارس طقسًا يتنافى مع عاداتها، مصر النموذج تحتفل بعيد يخص أحد عنصريها، وقد جرت عادة المصريين على أن نتقاسم الأفراح في الأعياد بالضبط كما نتشارك في الأتراح إن ألّم بالوطن ما يهمه، كما نرى ما يراه المفكر المصري الكبير د. سمير مرقص من أن "أقباط مصر ليسوا أقلية وافدة، وليسوا جماعة مغلقة وليس لهم مشروع سياسي مستقل ومن ثَم فهم مواطنون".
وهذا هو المعنى الذي نصت عليه الدساتير المصرية واحترمه المصريون في تعاملاتهم قبل تشريعاتهم، وليس هذا الأمر مِنةً ولا تفضلاً، لكنه حق أصيل حصل عليه عموم المصريين بحكم قرون طويلة من الكفاح الوطني المشترك لصد المعتدين والحفاظ على هُوية مجتمعنا بنسيج مشترك يلخصه مصطلح "الوحدة الوطنية" الذي لا يمكن أن تراه متحققًا لفظًا ومعنى ومعاملات إلا هنا على أرض مصر.
ونحن في إطار فرحة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد لا يفوتنا أن نُذكّر ببعض الرموز الوطنية والفكرية والعلمية من الإخوة المسيحيين، فليس لنا أن ننسى كشأن كل مصري ذكرياتنا في المدرسة، خاصة في المرحلة الابتدائية، والتي كانت تضم في هيئة تدريسها أُما- ولا أقول مُدرسة- مسيحية شكّلت شخصياتنا ووجهت بحنان بالغ فكرنا وهي في هذا شريكة مع غيرها من زملاء وزميلات مهنتها في صناعة الوعي مبكرًا لا تمييز بين كونها مسيحية أو مسلمة أو إن كانت بغطاء رأس أو سافرة الوجه ولم يكن يعنينا إن كان اسمها وداد أو اعتماد.
وهكذا جُبلنا نحن- المصريين- إذ لا يميز المصري في تعاملاته اليومية بين د. مجدي يعقوب، عبقري الطب، الذي عاد إلى مصر بعد عقود من الغربة، فشيّد أكبر صرح طبي مصري حديث، وبين الراحل العظيم د. إبراهيم بدران الذي فتح قلبه ثم مستشفاه بجنيهات قليلة لاستقبال الفقراء ومداواتهم دون أن ينظرا في خانة ديانة المريض الذي قصدهما بحثًا عن العلاج، كما لا يفرق المصريون عند سرد أبطال وصناع نصر أكتوبر العظيم بين البطل باقي زكي يوسف الذي فكّر في كيفية تدمير خط بارليف باستخدام مضخات المياه وبين الصول أحمد إدريس الذي فكر في جعل شفرة التواصل خلال حرب أكتوبر هي اللغة النوبية.
وحين يدخل المشاهد المصري إلى دار عرض لا يبحث في بطاقة هُوية هاني رمزي ومحمد هنيدي ليفتش عن خانة ديانة أيهما، لكن ما يعنيه هو أن يجد الابتسامة التي يبحث عنها وسط منغصات الحياة وهو ذاته المبدأ الذي تلقينا به- فيما مضى- أفلام جورج سيدهم وشريكيه سمير غانم والضيف أحمد، وكذلك مسرحيات سناء جميل وسميحة أيوب، وهو ما نفعله حين نسمع أغنية "بلاد طيبة" بصوت أنوشكا ويشاركها في شدوها للوطن الكينج محمد منير، وحين تشاهد مسلسلا تليفزيونيًا جيدًا لا يعنيك إن كانت مؤلفته لميس جابر أو كان بقلم عبدالرحيم كمال.
وحين كنا نشجع بحماس كعشاق لكرة القدم في تسعينيات القرن الماضي المحترف المصري هاني رمزي، كنا نفعل ذلك بذات المحبة التي ندعم بها اليوم ابننا مو صلاح وعلى المستوى الفكري فإننا نبحث في المكتبة عن كتاب "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" للمفكر ميلاد حنا، بنفس درجة الرغبة في مطالعة كتاب العبقري جمال حمدان "شخصية مصر" وفي الصحافة ظلت كتابات موسى صبري ولويس جريس مدرسة نحرص على متابعتها بنفس قدر حرصنا على متابعة مقالات محسن محمد وأحمد بهجت، وحين كنا نشاهد التليفزيون لنتعلم فن الحوار من المحاور مفيد فوزي فإننا كنا نتابعه بنفس الشغف الذي يغمرنا لمتابعة برامج المنوعات للنجم سمير صبري ونحن نتحسس طريقنا في ساحة الإعلام.
وحين نتابع سيرة عالم الجيولوجيا المصري الدكتور رشدي سعيد، صاحب فكرة تحويل وادي النيل لا بد لنا أن نذكر الجيولوجي المصري المهاجر دكتور فاروق الباز، صاحب مقترح ممر التنمية والتعمير، أما صناع السياسة ورجالها فلا يمكن لمنصف منهم أن ينسى شعار ثورة 1919 "عاش الهلال مع الصليب" وليس لنا أن نتجاهل الخطيب المفوه مكرم باشا عبيد الذي رافق الزعيم سعد زغلول وزملاءه في رحلة البحث عن التحرر الوطني، وهو القائل: "إنني كما أقرأ الإنجيل أقرأ القرآن وأستشهد بآياته، بل وأتعظ بعظاته؛ لأنني أؤمن بالواحد الديان سبحانه في كمال علمه وصفاته".
وهكذا تبقى مصر شعبًا واحدًا يعبد الإله الواحد ويُخلص لتراب وطنه، وتبقى الكلمة الخالدة التي أطلقها البابا شنودة: "مصرُ ليست وطنًا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا" نبراسًا ينير طريق المصريين ليرد عليه الشيخ الشعراوي بقوله: "مصر الكنانة، مصرالتي قال عنها رسول الله أهلها في رباط إلى يوم القيامة إنها مصر وستظل مصر برغم أنف كل حاقدٍ أو حاسدٍ أو مستغِلٍ أو مستغَلٍ أو مدفوعٍ هنا أو في الخارج".