الإنسانية تواجه الخنازير
بين التصريح الذى يثير الهلع ويبعث على الذعر، وبين التكتم الذى يؤدى إلى الريبة ويدفع إلى الاتهام بالتعتيم على خطر مُحدق، وقعت وزير الصحة ضحية لموجة جديدة من انفلونزا الخنازير، حصدت، حتى كتابة هذا المقال، أرواح 24 مريضاً، هاجمهم المرض الذى أصبح موسمياً.. ولم تجد الوزيرة، د. مها الرباط، مفراً أمام الهجمة الإعلامية الكبيرة، خلال اليومين الماضيين، على وزارة الصحة، وما أدت إليه الأخبار المنشورة والمذاعة عن هذه الإنفلونزا من هلع بين المواطنين، إلا الخروج فى مؤتمر صحفى، اعترفت فيه بهذا العدد من الوفيات، مع إصابة 195 حالة بالفيروس.. لكنها أكدت أن وفيات الأطباء الأربعة، حدثت لأسباب متنوعة، ليس بينها انفلونزا الخنازير.
لكن، مع هذا، لم تتخذ وزارة الصحة الإجراءات الاحترازية اللازمة، حتى لا يتحول هذا الفيروس إلى حالة وبائية يصعب السيطرة عليها، كما تجاهلت الوزارة تحذيرات نقابة الأطباء بوجود هذا الفيروس القاتل، بصورة لم تشهدها البلاد من قبل، وأنه قد يؤدى إلى الوفاة، بعد ثلاثة أيام فقط من الإصابة به!.. ومع هذا، مازال التعتيم والضبايبة هما سيدا الموقف مع هذا الوباء، وإن كان د. عمرو قنديل، رئيس قطاع الطب الوبائى، قد أكد أن تحليل العينات أثبت أن فيروس الإنفلونزا لم يتمحور هذا العام أو يشتمل على طفرات جديدة، وقد أثبتت نتائج العينات استجابة الفيروس لمصل التاميفلو، المتوفرة بكميات آمنة للموجة، وأن نسب الإصابة والوفيات تظل، حتى الآن، عند معدلاتها الطبيعية، ولا تمثل خطورة.
أتمنى من الله ألا تكون هناك خطورة حقيقية، ولا تكون مثل هذه المؤتمرات والتصريحات، من قبيل طمأنة القلوب والبعد بها عن الهلع الذى أصاب المواطنين، لعدم توفر المعلومات الشفافة والكافية للوقوف على حقيقة ما هو حادث على أرض المحروسة، وهل تحول الفيروس فعلاً إلى ظاهرة وبائية أم لا؟.. مع عدم وجود توعية صحية، عبر وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرى المباشر، وبيان الإجراءات السلوكية الكفيلة بتجنب الإصابة بالمرض، وما هى الخطوات الواجب اتباعها بسرعة، إذا ما أُصيب مواطن بفيروس، صار مجرد ذكر اسمه، مبعثاً على الموت النفسى لدى كثير من الناس.. وهذا يعنى أننا مازلنا بعيدين عن منهج العمل المؤسسى، وأبعد ما نكون عن التخلى عن أسلوب الجزر المنعزلة، تلك التى يعمل فيها كل فرد وأى جهة بعيدة عن أختها، وكأننا طرشان لا يسمع بعضنا بعضاً أو خرس لا يعرف أحدنا كيف يوصل ما لديه إلى الآخر، حتى نخلق جواً من التعاون كفيل بتجاوز كل العقبات التى يمكن أن تعترض مجتمعنا وتهدد سلامة أفراده.. ولن أكون متجنياً على أحد إذ قلت إننا مازلنا نفتقد مفاهيم وآليات إدارة الأزمات، بما يضمن تلافيها أو العبور منها بسلامة، من أجل الوصول بالبلاد إلى بر الأمان.
تلك يا سادة جزء أصيل من ثقافة السلوك الاجتماعى فى مصر، مازالت تنغص علينا حياتنا، وتؤدى بنا إلى النكبات، لأنه لا يوجد الفريق الواعى بمجابهة أى أزمة ووضع الحلول المناسبة لها، واستخراج الدروس المستفادة، بعد تجاوزها، لتكون أساساً لترتيبات المرحلة القادمة، تكفل عدم تكرار الأزمة، أو على الأقل مواجهتها بسهولة، لأنه أصبح لدينا خبرة سابقة.
ولأن فكر الجزر المنعزلة هو المسيطر على ثقافتنا، فإن نقابة الأطباء لم تفزع جراء انفلونزا الخنازير، ولم تنتفض لإنهاء قرار جمعيتها العمومية بالإضراب الجزئى عن العمل فى المستشفيات، والذى يطالب بتطبيق كادر الأطباء، ولم ينحز أحد، إلا قليلاً، لإنسانية مهمة الطبيب، التى يتوقف عليها أحياناً، حياة مريض من موته، بعد قدر الله.. وربما كان العذر أقبح من الذنب، عندما يُقال إن الإضراب اقتصر على العيادات الخارجية دون الأقسام المتخصصة، لأن فى حالة فيروس كهذا، فإن أول ما يلجأ إليه المريض هو تلك العيادات الخارجية، التى تُشخص حالة المريض وتوجهه إلى الأقسام. ندرك أن هناك بواعث إنسانية أخرى وراء الإضراب، غير المنفعة المباشرة للأطباء بتطبيق الكادر، وهى رفع ميزانية العلاج بالمستشفيات، حتى لا يضطر المريض إلى شراء لوازم علاجه على نفقته، وكثير من الناس غير قادر على ذلك، وحرى بمسئولى الوزارة الإصغاء لهذه المطالب والعمل على تحقيقها.. لكن إلى حين تنفيذ ذلك، لابد أن ينتصر الأطباء إلى إنسانيتهم، ليواجهوا مرضاً لعيناً، يكاد يفتك بمرضاهم.