«روح» كائن كونى على أرض «الوصل»
تشغلنا تساؤلاتنا عن الما بعد، نعرف أن ما بعد الحياة المنظورة موت؛ الموت هو آخر ما يشهده الإنسان كحقيقة مطلقة على الأرض لكن ماذا بعد الموت؟، ما الذى يحدث للإنسان فى رحلته من القبر إلى الأبدية؟
الأسئلة كثيرة، ربما تتعدد بعدد سكان الأرض، ورواية «روح» لا تنشغل فى باطنها بتلك الأسئلة، بما يدعونا للقول إنها لا تلعب على أسئلة جاهزة، حيث من الطبيعى أن يكون الإنسان قلقًا من المجهول والغامض، خائفًا وشغوفًا فى الوقت نفسه بمعرفة ما بعد حياتنا.. هى رواية تتقاطع مع الإجابات الجاهزة، وتطرح تساؤلاتها من واقع آخر؛ إذ اختار لها الروائى محمد على إبراهيم بطلًا رئيسيًا هو آخر الميتين، كما شكَّل عوالمها بما يتماس مع تصورات الشعبيين عن مسارات ما بعد الموت وصولًا للأبدية، حيث «أهل الجنة وأهل الجحيم والمنتظرون على الأعراف».
يوحى لنا فى تصديره للرواية أنه لن يتداخل مع الراوى، الذى هو آخر الميتين، يقول: «هناك فى اللا مكان، اللا وقت، يغفو العالم وتستيقظ الرواية، روح وحدها تقود الحكاية، والشيطان يترقب- بصبر واضطراب- لحظة سكون؛ لتنام الرواية ويستيقظ العالم مرة جديدة»، وبهذا التصدير يُجهز مسرح الرواية: «فى الموت لا ألقاب هنا، ولا مشاعر للضغينة.... فى القبر تنتهى أدوارنا فى الحياة، ونعود إنسانيين تمامًا، أتم الممثلون أدوارهم»، لكن «هناك أسئلة لم يصل لإجاباتها آخر الميتين على الأرض ولا مليارات الساكنين وردة الأبدية؛ كيف تذهب الأرواح، وكيف تدب فيها الحياة، أين يذهب الجلد المتساقط عن أهل الجحيم، وكيف يصعد جلد جديد، من كوَّن هذا التكوين؟».
وفى هذا السياق تتعدد المرويات الشعبية لتشكل لوحة ضخمة بحجم الكون، كل حسب معتقداته، كما أن لكل مروية نظام، من عناصر المكان والزمان، وكذلك الشكل الذى يؤطر عوالمه؛ العالم العلوى حيث الملائكة، والسفلى حيث الجن والشياطين، والمنظور الأرضى بظاهره وباطنه.
يمسك محمد على إبراهيم بروح تلك المرويات لا ليزيدها مروية، لكن ليعبث فيها، من خلال التماس مع عناصرها عبر صوت الراوى؛ مدرس الموسيقى الذى وجد كتابًا يحوى مئات الصفحات من جلود البشر، «كتاب من رأى لمن لن يُصدق» المنقوش بلغة مجهولة، ويعكف على ترجمته لينشره فى رواية تحت عنوان «روح»، تبدو فيها حياة مدرس الموسيقى كقصة إطارية لإنسان وجد الكتاب صدفة، وعاش حياة مشوبة بالصراع بين الخير والشر، لكنه تعامل بقناعات موسيقار يدرك أن الحياة تحتاج لنغمات متنوعة؛ ويحاول لها أن تكون متناغمة ومنسجمة بما لا يجعله يشعر، وهو الذى عاش نحو قرن، أنه عاش حياة فاسدة.
وعلى غرار رؤى الشعبيين فى تقسيم عوالمهم الميتافيزيقية يقسم محمد على إبراهيم عوالمه، لكن ليس بشكل رأسى، بل متوازيًا؛ بما يشير إلى أن كل الأحداث فى كل طبقة تتحقق فى اللحظة نفسها، فكل ما يحدث فى أرض الأبدية المرسومة على شكل وردة مميز بالوقت؛ «وقت القيامة، وقت الوردة، وقت التفاح»، وفى كل الطبقات توجد ثنائية الخير والشر، لكن ليس كما فى التصورات الواقعية التى تختزلها فى طرفين؛ وكأن الله فى صراع مع إبليس، لكن بمعنى أن تلك الثنائية أساسية لصيرورة الحياة.
تضج الرواية فى سعيها لتفكيك المرويات السائدة بمرويات تخييلة بها قدر غير يسير من التعقيد، لكنها مدعومة بروح عبثية، وبما يشى بأن جميع المرويات سواء الواقعية أو التخييلة افتراضية؛ اختلقها الراوى ليشكل من خلالها سردية تدعو للتأمل، يُسرب من خلالها رؤى وقوانين اهتمت بتفسير الظواهر الكونية، يستعين بآراء نيوتن وأينشتاين فيما يخص الزمن، ويتوقف طويلًا مع رؤية بول ديفيز، ثم يسخر من تلك التعقيدات قائلًا: «ربما كان التفسير التام للكون ليس مهمة العالم، وإنما مجرد وصفه»، ثم يتابع: «وحسب تعبير أحد أصدقائى: إذا كنت تريد أن تعرف ما هو الزمن، انظر إلى وجهى فقط».
يرمى الكاتب بذلك إلى أن كل ما يحدث فى العوالم المذكورة مدمج فى «اللحظة»، ويأمل أن يقدمها كصورة؛ الصورة مقبرة يتجمد فيها الزمن، وبما يحقق حالة خلود، ولتأكيد ذلك استعان بعدة رسوم توضيحية.
تستغرق الرواية فى مثل تلك التفريعات لكنها مهما ابتعدت تعود إلى نقطتها المركزية؛ حيث مدرس الموسيقى وقصته المشحونة بالمشاعر والأحداث، وشخصيته غير النمطية، بما فيها من شغف للمعرفة، وبما يشير إلى صيرورة الحياة؛ يقول محمد على إبراهيم أو مدرس الموسيقى أو آخر الميتين: «أرض بدأت تظهر عند نهايات ساق الوردة، بدت كبرتقالة تستعيد التئامها، ولم أعد قادرًا على استعادة الذكريات كإنسان وحيد ضخم تلامس قدماه الأرض، ورأسه يقترب من سماء أطلقت على لونها لفظ أزرق، إنسان وحيد ضخم يشعر بالجوع، فيقضم ثمرة أطلق عليها لفظ تفاحة»، و«أراد الإنسان أن يجرب فمه فعزف سيمفونية دخول الجنة»؛ وهكذا تدور الحياة.