حراك عنصرى فى بلاد حقوق الإنسان
«لقد كان فقد اللآلئ عقابًا لهؤلاء الذين حاولوا أن يتركوا موقعهم فى الحياة، لكن (كينو) فقد عالمه القديم بالفعل، ويجب أن يحاول إيجاد آخر جديد؛ من أجل أن يكون حلم مستقبله حقيقة، ولا يُدمر.. هو قالها: (سوف أذهب)، وهذا جعل الأشياء تبدو حقيقية أيضًا؛ أن تقرر الذهاب وتقول ذلك، كان هذا بمثابة قطع نصف المسافة؛ إنه اليوم الذى سوف تُنسب إليه بقية الأيام، وتأخذ ترتيبها بالنسبة له، وهكذا يمكن أن يقولوا فيما بعد: إن هذا الأمر كان قبل سنتين من بيع اللؤلؤة...».
تلك العبارات الموجزة التى اقتطعتها من سياق رواية للكاتب الأمريكى جون شتاينبك مر على كتابتها نحو ٧٥ عامًا، وربما تصلح الآن للتعبير عن حال كثيرين ممن شدوا الرحال إلى أوروبا وأمريكا وبريطانيا مفارقين بلادهم منذ سنين بعيدة، وليس عليهم عتب، فقد ذهبوا وكلهم أمل أن يجدوا فى تلك الدول حلمهم الذى يفتقدونه فى بلادهم، أو اللؤلؤ الذى يطمحون إليه فى بلاد الحرية والديمقراطية؛ دول الإتاحة وحقوق الإنسان، لكن يبدو أن معظمهم لم يجدوا ما طمحوا إليه، بسبب التمييز؛ فما حدث معهم يشبه بشكل أو بآخر ما حدث مع «كينو» بطل رواية «اللؤلؤة»؛ فكما رفض طبيب المدينة علاج «ابن كينو» على خلفية عنصرية، لا يزال بعض تلك الدول يتعامل بعنصرية وازدراء ضد كثير من المهاجرين إليها، بل ضد من أمسوا من مواطنيها، حيث تنظر لهم على اعتبار أنهم رعايا «مستعمراتها القديمة»؛ قادمين من أجل الحصول على اللؤلؤة.
المهاجرون أيضًا يستشعرون ذلك ويتأثرون منه، وكثير منهم ينجرفون نحو التصرف بمنطق «تخليص الحق المسلوب»، وتباعًا باتت العلاقة المتبادلة بين الجانبين محكومة بفلسفة التجار؛ «إن أسعد ما يمكن أن يحدث لتاجر اللؤلؤ هو أن يشترى ما يريد بأرخص ثمن ممكن»، أو نظرية الفهلوة «اللى تكسب بُه العب به»؛ أو منطق الساسة؛ «توظيف كل شىء من أجل الاحتفاظ باللؤلؤة».
كانت رواية جون شتاينبك تعالج مواضيع الجشع البشرى والمادية وتأثير ذلك فى القيم، وفيها يرفض طبيب المدينة- على خلفية عنصرية- مساعدة صياد فقير اسمه «كينو» فى علاج طفله الصغير من لدغة عقرب؛ ما يدفع الأب للبحث عن طريقه لإقناع الطبيب، فيجد لؤلؤة؛ يطلقون عليها «لؤلؤة العالم»، يحاول بيعها ليدفع للطبيب، لكن التجار الجشعين يتآمرون عليه كى يشتروها بثمن بخس، أو يفسدوا عليه بيعها؛ تلك اللؤلؤة جلبت الشر على «كينو» فبسبب «الجشع» تعرض لعدة محاولات قتل؛ نجا منها لكنه فقد طفله الصغير بعد أن سكنت إحدى الرصاصات رأسه، وعقب ذلك قرر «كينو» التخلص من اللؤلؤة بإلقائها فى مياه المحيط.
حدث ذلك فى منتصف القرن الماضى وفى جغرافيا قديمة، وكنا حسبنا أن العالم قد تجاوز الكثير من أدران الماضى فى ظل القرية الكونية الراهنة؛ لا ضير أن يحتفظ باللآلئ، لكن جدير به أن يتخلص من الجشع؛ ولن يتخلص منه طالما أن العنصرية تتخذ أشكالًا جديدة، تصبح بها العلاقة مع الآخر «بعافية حبتين» بل منعدمة تقريبًا؛ فالتفاعل والتعاون والاحترام كلها عناصر محكومة بنظرات ريبة واستعلاء وتمييز.
ورغم أن بعضًا من الدول الغربية، وفى القلب منها فرنسا «قلعة الحريات ومنصة حقوق الإنسان»، قطع شوطًا فى تلك المسألة؛ «سن قوانين، وإقرار برامج دمج، وعمليات تلاقح ثقافى، وغيرها»، بل اعتقد كثيرون أن القرن الجديد سيكون قرن تناغم الشعوب؛ يتقدم نحو الحداثة ويتخلص من رواسب الأسلاف، ويعمل فيه الجميع لتحقيق سعادة البشرية- إلا أن ما نشهده من حوادث ومواقف قائمة على خلفيات عنصرية يشير «بالبلدى كده» إلى أن «النظرة نعرة»؛ تضرب عقل العالم، وتهدد حاضره ومستقبله وتحيل كل ما فيه إلى جحيم؛ أو كما يقول المفكر الحضارى أمين معلوف؛ الساكن فرنسا: إن روح التمييز العنصرى كلية الحضور فى عالم اليوم، وآخذه فى الانتشار؛ عن سوء نية بعض الأحيان، ومع أفضل النيات أحيانا أخرى.