«متفيسون» وناشرون ولا عزاء للإبداع والمبدعين
يقولون «الكتابة نكش والإبداع نقش»، و«ليس كلُّ الجمال فنًا، لكنَّ كلَّ فن جميل»، وكلنا يصادف كتابات متناثرة وغزيرة جدًا على مواقع التواصل الاجتماعى؛ خصوصًا على فيسبوك، يبدو منها ما هو شخبطة على جدران؛ بلا خط أو لون أو عنوان، أو لخبطة ملغزة لا نفهم منها شيئًا، وأخرى تضوى قليلًا ثم تذهب ولا تعود، وثالثة حانية أو مستعطفة وربما قاسية وسوداوية فى معظم الأوقات.
وتبدو الكتابة راحة واستراحة، ومقبولة من أصحابها حتى لو نشروها وكأنها «درة التاج»، أو «بعضٌ مما عندكم»، أو «مش مهم»؛ فأصحابها أنواع، منهم من لا يعنى شيئًا بما كتب، ومنهم من لا ينتظر شيئًا مما كتب، وأكثرهم بؤسًا من يفاخر بما كتب، فضلًا عن نوع فريد يكتب كمن يستحى من الكتابة رغم جمال ما تخط يداه، لكنهم جميعًا يتقاسمون شاشة عرض واحدة، ويمكن لنا أن ننظر إلى كثير مما يكتبون فى إطار «الفضفضة»، إلا أن معظمهم لا يقنعون بذلك؛ فمع كل هذا الكم الرهيب من اللايكات والكلمات ولافتات الإعجاب المسلحة بالصور، يظنون خواطرهم هى «الشعر والقصة والروايات»، بينما لا يميز أكثرهم بين النكش والنقش، ولا يجدون فى الوقت نفسه من يدلهم على الصواب.
على نفس الشاشة يوجد آخرون متمرسون تمر تلك الكتابات أمام عيونهم فلا يهتمون؛ أحيانًا نلمس امتعاض بعضهم، أو نرى بينهم من يسفه تلك الفضفضة دون أن يكلف نفسه عناء التوقف أمامها، ومنهم من يستعلون وينالون من أصحابها بطريقة جافة لا تقدم ما يفيد فى توصيف أو تفنيد الحال، وبما يدفع فئة ثالثة رحيمة إلى ردة فعل، مفادها: «دعوهم يكتبوا ويعتقدوا أنهم مبدعون؛ فهذا خير من أن ينبذوا الكتابة، أو يستبدلوها بفعل لا نستطيع مواجهته»، وتلك نظرة منطقية فى جانب منها، لكنها تسهم بشكل أو بآخر فى خلق حالة إبداع مزعوم؛ مشمولة بتضخم ذوات «المتفيسون من كُتاب الفضفضة»؛ حيث يلتبس الأمر عليهم ويشتد اعتقادهم فى أن ما يكتبونه هو «إبداع ما بعده إبداع»؛ ثم يحملونه إلى حيث المطابع.
وقد شُغلت مثل كثيرين بتلك المسألة بعد أن سادت فى الساحة الأدبية بما يشكل إزاحة للإبداع والمبدعين الحقيقيين، ويعمل على «تأسيس حالة زائفة»، وكنت أتساءل: كيف لا يتعرض لها الباحثون والنقاد؛ وهم يرونها تهيمن على الواقع الافتراضى، وتتحول إلى «كرة ثلج»؛ هبطت سريعًا إلى الواقع الفعلى فى شكل كتب شعرية وروايات تحتلُّ واجهات المعارض؟، وبما يعنى أن الغث يأكل مساحة السمين؟
وبينما أبحث فى ذلك وجدت ضالتى عند المفكر السيد إمام، حيث أفرد لتلك المسالة أكثر من «بوست» على صفحته الشخصية؛ وقف عليها بصدق وتناولها فى يسر وتبسيط نستخلص منه أنها باتت «ظاهرة» تنال من الفن؛ فقد ابتذلت الشعر وجعلته مستباحًا، وكأنه لا فرق بينه وبين الخواطر، كما شجعت «كل من هب ودب» على الزعم بأن ما يكتبه قصة أو رواية. يتساءل السيد إمام: «ما الذى يدفع الكل لكتابة رواية، وما هو العائد الذى سوف يعود عليهم من القيام بهذا الدور؟».. ويجيب ساخرًا: «ربما الرغبة فى الوجاهة الاجتماعية أو نيل شرف الانضمام لنقابة المستكتبين».
إلا أنه يرمى إلى أبعد من ذلك، إذ يتطرق لعناصر متعددة تسهم بشكل أو بآخر فى تدشين حالة إبداعية زائفة، منها «تساهل دور النشر، وغياب المعايير؛ فكله مباح ومتاح لتشجيع هؤلاء للكتابة»؛ يقول: «المهم الفلوس؛ الفلوس التى سوف يدفعها الكاتب للناشر لإصدار الكتاب، والفلوس التى يمكن أن يدفعها المقتدرون رشوة لأحد نقاد التيك أواى لكى يجعل من الفسيخ شربات، أو للجنة تحكيم إحدى الجوائز للفوز بجائزة تسلط عليه الأضواء، وما دام الربح هو المعيار، فلا عزاء للكتاب الحقيقيين الذين يمثلون إضافة لهذا الجنس الرفيع وسط هذه الفوضى العارمة وهذا الهراء المستطير».
وقد أوجز السيد إمام أبرز العناصر التى تصنع بدورها مشهدًا أدبيًا بائسًا؛ حيث تمسى الإبداعات الحقيقية غاطسة ومطمورة فى ظل الزبد الذى يطفو على السطح، مدعومًا بسطوة المال والسوشيال ميديا.