«ملك الغناء فى الإسكندرية».. حكايات الروائى الكبير مصطفى نصر
في كتابه الصادر حديثًا عن دار الفكر العربي تحت عنوان "حكايات مصطفى نصر"، يسرد الكاتب الكبير مصطفى نصر العديد من الحكايات ومنها حكاية ملك الغناء في الإسكندرية، يقول: "فرح مرسي الحسيني كثيرًا لإقامة إذاعة في الإسكندرية، فقد ظل هو وأصدقاؤه الموسيقيون ومؤلفو الأغاني يحلمون بأن تكون لهم إذاعة قريبة منهم، تذيع أعمالهم وتُغنيهم عن السفر إلى القاهرة لتقديم أعمالهم هناك؛ لهذا دعا مرسي أصدقاءه هؤلاء في بيته للاحتفال بهذا الحدث المهم. ودعا أيضًا أحد العاملين في الإذاعة وهو مذيع كبير كان يعمل في إذاعة القاهرة".
وأشاد مرسي بفناني الإسكندرية من ملحنين ومغنين ومؤلفي أغانٍ، وقال:
إنهم لا يقلون مقدرة عن فناني القاهرة، بل هم أفضل منهم بكثير.
ثم أمسك عوده وعزف عليه وغنى أغنية "عش الهوي المهجور" لأحمد صدقي، كان عزفه سيئًا وصوته لا تطيق سماعه، وكان يقطع العزف والغناء ليتحدث عن الأغنية، وكيف أوحت المطربة نجاة علي لمؤلفها إمام الصفطاوي بكلماتها من خلال ما كانت تمر به من مشكلات مع زوجها.
ويضيف: "ود الحاضرون لو ظل يحكي طوال الوقت ولا يعود لعزفه وغنائه. لكنه أصر على أن يأتي على آخر الأغنية؛ مما جعلهم يتثاءبون ويتمنون أن يمر الوقت سريعًا".
ثم عزف سعيد الطويل لحنًا من ألحانه، وغنى بصوته الجميل، فصفق الحاضرون طويلًا. لم يرتح مرسى لعزف الطويل وغنائه، ولو أتاحوا الفرصة له؛ لبين لهم عيوب اللحن ونقاط ضعفه، وردد لنفسه: "عادة فنانو الإسكندرية السيئة، لا يعترفون بفنان منهم، إلا إذا جاءت شهادته من القاهرة".
وسعيد الطويل هذا، عاش في القاهرة سنوات كثيرة، غنى في إذاعتها ومثل ثلاثة أفلام مع ممثلين وممثلات كبار، أحدهم كان من إنتاج الموسيقار محمد عبدالوهاب الذي كان معجبًا به، فلحن له بعض أغنياته.
ثم قدم مرسي في الجلسة- مفاجآته التي ستهد الإسكندرية على من فيها، مغنيًا شابًا اسمه صبحي شعبان، غنى أغنية من تلحينه، ومرسي بجواره يومئ برأسه منتشيًا ومستحسنًا عزفه وغناءه وتلحينه، بعد كل مقطع يقفز عاليًا من شدة التأثر. قال مؤلف أغانٍ مسن له باع طويل في هذا المجال:
صوته حسن، لكنه في حاجة إلى صقل طويل.
فضرب مرسي على صدره في عنف قائلًا:
- هذه مسئوليتي، سأتولى تدريبه ورعايته وصقله.
ولأن الوقت كان متأخرًا ولا يسمح للمعارضة والمناقشة، فلم يطيلوا في الاعتراض على قوله؛ خاصة أنهم في بيته.
قبل أن تنتهي الجلسة عرض مسئول الإذاعة على سعيد الطويل، أن يشرف على نادٍ تابع للإذاعة، تقدم فيه ندوات عن الموسيقى والغناء.
لكن الرجل اعتذر لمشاغله، وكذلك اعتذر آخرون، لكن مرسي صاح لمسئول الإذاعة:
اطمئن، سأشرف على النادي وسأعطيه خبرتي وعلمي.
لم يكن الرجل مرتاحًا لمرسي، فهو يعرف قدراته المحدودة، لكنه اضطر للإذعان عندما لم يجد أحدًا ممن كان يريدهم قد تحمس لذلك.
عندما خرجوا تهامسوا، قال أحدهم معلقًا على تحمس مرسي لصبحي شعبان:
-الولد خامة طيبة، لكن حماس مرسي له، سيفسده.
وقال آخر
-كيف يعلمه العزف على العود وهو لا يجيده؟!
ويواصل: "أصدقاء مرسي الذين عاشروه طويلًا، يعرفونه تمام المعرفة، فقد اتصل في أول حياته ببعض فرق العوالم في الإسكندرية، لكن صوته الأجش حال بينه وبين أن يكون مطربًا، كما أنه لم يستطع إجادة العزف على أية آلة موسيقية ليعمل في فرقة من الفرق. فلم ييأس واشترى بعض المجلات التي تهتم بالموسيقى والغناء، قرأ فيها عن حياة الموسيقيين العالميين والعرب، وكان مغرمًا بتحديد نوع المقام الموسيقي الذي اعتمد عليه الملحن في تلحين أغنيته، ورغم أنه يخطئ كثيرًا في تحديده؛ إلا أنه لم يمتنع عن ذلك".
ولا ينكر أحد عليه حماسه الشديد لملحني ومغني الإسكندرية، وإنه ينفق– أحيانًا– كل ما يملك على شراء الأسطوانات الموسيقية والكتب والآلات.
أعلن مرسي الحسيني في النادي التابع للإذاعة، أن صبحي شعبان هو أفضل ملحن في الإسكندرية وأنه– رغم صغر سنه– فاق كل من سبقه من ملحنين خاصة سعيد الطويل، وأن على رواد النادي الصغار أن يتعلموا من عبقريته وموهبته.
تعامل معظم رواد النادي الشبان مع صبحي شعبان على هذا الأساس الذي وضعه مرسي الحسيني، فقلده البعض متمنين أن يصبحوا مثله. ورددوا– حتى في غياب مرسي الحسيني: إن صبحي هو أمل الغناء في الإسكندرية. بل في مصر كلها. ولو كان يعيش في القاهرة لتفوق على عبدالحليم حافظ وربما على عبدالوهاب في التلحين.
لكن بعض رواد النادي كانوا يتجاسرون وينتقدون ما يقدمه صبحي، وكان مرسي يثور عليهم ويتهمهم بالجهل، وينتهي الأمر بأن يبتعدوا عن النادي.
ويستطرد "أما الملحنون الكبار فقد اعتبروا نشاط النادي أقل من قدراتهم وإمكانياتهم، فهم لا يأتون إليه إلا في الحالات النادرة مثل استضافة ملحن كبير من القاهرة أو إقامة حفل كبير تحت رعاية الإذاعة. وإذا سمعوا مدح مرسي لصبحي يمطون شفاههم دون اعتراض. فبعضهم لا يريد أن يفسد العلاقة بينه وبين مرسي أو صبحي. وآخرون اعتبروا أن الحديث في موضوع مثل هذا أقل من مستواهم ولا يجب الخوض فيه".
شاعت في الوسط الفني أقاويل تحاول تفسير العلاقة المريبة بين مرسي وصبحي فيقول البعض إن صبحي سيتزوج أخت مرسي، فلم يكن لمرسي- في ذلك الوقت -بنات في سن الزواج. ويردد آخرون إن صبحي غني، وينفق على مرسي - ذي المرتب الضئيل والأسرة كبيرة العدد- بسخاء.
لكن بعض الخبثاء ادعوا أن العلاقة بينهما، علاقة شاذة.
استطاع بعض رواد النادي الجدد أن يحققوا نجاحًا ملحوظًا في القاهرة، فاعتمدتهم الإذاعة مغنين، أو ملحنين أو عازفين فيها، واستضافوا بعضهم في برامج الإذاعة والتليفزيون، ونشرت الصحف صورهم وأحاديثهم فانصب حديث النادي على هؤلاء، وأعلن مرسي أن صبحي أكثر موهبة ومقدرة منهم جميعًا، لكنهم استطاعوا الوصول لما وصلوا إليه بطرق غير مشروعة وغير شريفة. فهم ينفقون على ملحني القاهرة الكبار، ويدعونهم إلى الإسكندرية ليقدموا إليهم الجمبري والكابوريا والإستاكوزا، بل وصل بهم الأمر لأن يفتحوا لهم الشقق ويقدموا إليهم الخمر والنساء.
ويصدق بعض الرواد الصغار هذا، فيرددونه لغيرهم ويقسمون إن صبحي شعبان هذا فنان كبير لولا......
يجلس صبحي شعبان في النادي كالملك، ينحني له الرواد الصغار يسألونه عن ألحانه العظيمة التي تذيعها إذاعة الإسكندرية، وعندما يغني بعضهم– في النادي– ينظرون إليه، منتظرين رأيه، لكن صبحي غير مؤمن بأي مغنٍ في الإسكندرية سواه. فكان يهاجم الأغاني بحماس شديد يماثل حماسه في الهجوم على رواد النادي الذين وصلوا إلى القاهرة ويغنون الآن في إذاعاتها الكثيرة. ويؤمن مرسي على قوله قائلًا:
-لا تنسوا أنه أفضل مغنٍ في مصر كلها.
واكتشف مرسي فجأة مغنيًا موهوبًا، يستطيع أن يخلف صبحي على عرش الغناء في الإسكندرية، لم يهتم صبحي وقابل الخبر– الذي أعلنه مرسي في ابتهاج شديد– قابله في برود وشك في أن يوجد من يخلفه.
وكان صبحي محقًا في رأيه هذا، فقد ذاب الشاب ولم يقدم أعمالًا تبهج مرسي بعد ذلك، بسبب تأثره بما يقدم في إذاعات القاهرة وتليفزيونها، ولأنه لم يعد يسير على طريقة صبحي شعبان وأعلن مرسي صراحة أنه كان مخدوعًا فيه.
وبعد وقت قصير آخر يكتشف خليفة آخر لصبحي ويذوب هؤلاء جميعًا ولا يحققون شيئًا، فكيف يصبح ولي العهد ملكًا والملك ما زال متربعًا على عرش الغناء في الإسكندرية؟.
شكا صبحي لمرسي كثرة الذين يتمردون على النادي ويهربون من صولة مرسي إلى القاهرة، فينتشرون ويحققون نجاحًا ملحوظًا، فتتحدث الصحف والمجلات عنهم كثيرًا.
طمأنه مرسي قائلًا:
-أنت أفضل منهم جميعًا وسوف تصير أكثر شهرة وتألقًا منهم في المستقبل.
لم يكتشف مرسي مرور الوقت، فقد تعدى صبحي الأربعين وهاجم الشيب شعره، وما زال ينتظر اليوم الذي يتربع فيه على عرش الغناء في مصر كلها- كما تنبأ له مرسي- لكن ذلك لم يحدث، لذا، قرر أن يسافر إلى القاهرة ليفاجئ المسئولين في الإذاعة بموهبته الجبارة.
دهش صبحي لما رآه، أولاد أتوا إلى نادي الإسكندرية- ولم يكن مرسي معجبًا بهم، وتنبأ لهم بمستقبل مظلم في الغناء والموسيقى- يجدهم صبحي أمامه وقد صاروا أكثر أهمية، لدرجة أن أحدهم أوصى مسئولي الإذاعة عليه، قال له:" اهتموا به، إنه صديق قديم"، لكن اللجنة لم توافق على اعتماده مغنيًا، لأن قدرات صوته ضعيفة، واللحن الذي قدمه سيئ. الغريب أن ما أخذوه عليه في اللحن والغناء، كان مرسي يشيد به ويعتبره أهم ما فيه.
بينما كان صبحي شعبان يجلس في قطار العودة إلى الإسكندرية؛ فكر في الفرق بين جلسات القاهرة وجلسات نادي الإسكندرية التابع للإذاعة، حيث لا يهتمون بأحد سواه.
في القاهرة لا يذكره أحد، عندما جلس في قهوة روادها المغنون والملحنون والعازفون؛ اكتشف أنه مجهول تمامًا، لم يعرفه سوى الذين كانوا روادًا لنادي الإسكندرية. وجدهم في القهوة يثنون على مغنين ما زالوا يعيشون في الإسكندرية ولم يذكره أحد بالخير.
في أول اجتماع للنادي، أعلن صبحي أن الشرفاء وأصحاب المواهب الحقيقية ليست لديهم إمكانيات الوصول لملحني القاهرة، فهم لا يهتمون إلا بالمواهب الضحلة، أو لمن يقدم إليهم كذا وكذا.
بحث صبحي بين الموجودين، لم يجد رفاق الماضي، كلهم انتقلوا إلى القاهرة يغنون أو يلحنون، وبعضهم اكتفى بدوره كعازف في فرق القاهرة الكثيرة، لم يتبق من شلة الماضي سوى مرسي الحسيني الذي ما زال يعلن أن صبحي شعبان هو ملك الغناء في مصر كلها ولكن!.