مهلة عباس!
في الكلمات البروتوكولية الدورية التي يلقيها زعماء وقادة العالم، من على منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، هناك الكثير من المواقف والحالات والمفارقات، عدا عن "الصوت العالي" وأحيانا التهديد والوعيد.
رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عباس، قال كلمته عن فلسطين، كل فلسطين، في الدورة السادسة والسبعين للهيئة الأممية الأساس في العالم.
الرئيس عباس هدد، وأعطى مهلة حرّكت الساكن من الأمم المتحدة التي وضعت الكمامة، لأن شبح تفشي فيروس كورونا «كوفيد- 19» يطل من تداعيات الوباء التي تعيد موجاتها القاتلة وتخيف هيئة الأمم ومنظماته ومجلس أمنها أيضا.
.. ماذا في تهديدات محمود عباس الأممية؟.
في النص الحرفي، قال محمود عباس: "إنَّ أمامَ سلطاتِ الاحتلالِ الإسرائيليِ عاما واحدا لتنسحبَ من الأراضيِ الفلسطينيةِ المحتلةِ منذُ العام 1967، بما فيها القدسُ الشرقية، ونحنُ على استعدادٍ للعملِ خلالَ هذا العامِ على ترسيمِ الحدودِ وإنهاءِ جميعِ قضايا الوضعِ النهائيِ تحتَ رعايةِ اللجنةِ الرباعيةِ الدولية، وفقَ قراراتِ الشرعية الدولية.. وفي حالِ عدمِ تحقيق ذلِك، فلماذا يبقى الاعترافُ بإسرائيل قائماً على أساسِ حدودِ العامِ 1967؟ لماذا يبقى هذا الاعتراف؟".
.. الأمر الذي جعل مندوب دولة الاحتلال، إسرائيل، في الأمم المتحدة يرصد ببيان أشار فيه إلى: «إن الذين يدعمون السلام والمفاوضات لا يطلقون إنذارات وهمية من على منصة الأمم المتحدة كما فعل في خطابه»، يقصد الرئيس الفلسطيني.
.. سياسيا، تنحاز كلمة عباس إلى تراث من الكلمات التي أتاحها منبر الأمم المتحدة للقيادات الفلسطينية، ومنهم الرئيس عباس، الذي يكرر منذ سنوات نفس فقرات الكلمة، ليضعنا أمام ما يمكن الإشارة إليه: "بفشل سياسات المجتمع الدوليِ وهيئات الأمم المتحدة تجاه حل القضية الفلسطينية، لأنها لم تتمكن من محاسبة إسرائيل ومساءلتها وفرض عقوبات عليها بسبب انتهاكاتها للقانون الدولي".
"مهلة عباس".. أقل ما يقال عنها إنها جاءت "رمزية جدا"، فلا يمكن أن نعلم، ونعي، حقيقة مهمة، إذ يصادف مرور 73 عاما على النكبة الفلسطينية، وتشريد ونكبة الشعب الفلسطيني واقتلاعه من التراب الفلسطيني إلى شتات وهجرة ولجوء.
ومن الطبيعي أن يتهم الرئيس الفلسطيني، سلطة الاحتلال الإسرائيلي بسن القوانين وعقد المحاكمات لطرد الفلسطينيين من حيِ الشيخِ جراح وسلوان في القدس، "دون وجه حق، وهو ما يصفه القانون الدولي بالتطهير العرقي، الأمر الذي نرفضه ويرفضه المجتمع الدولي باعتباره جريمة وفق القانون الدولي".
عباس يدور في الذاكرة المؤلمة ليقول إن عامنا هذا يصادف مرور 54 عاما على الاحتلال العسكري الإسرائيلي لباقي الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة في العام 1967.
بين نكبة ونكسة، ضاعت فلسطين المحتلة، وسبب ذلك- حسب عباس- تدمير فرص الحل السياسي على أساس حل الدولتين، وأن هذا الدمار سببه سلطة الاحتلال الصهيوني، ويبدو أن مهلة عباس رد على هذا الدمار.. ويا لهذا الرد المزلزل!.
يرتبط هذا النزاع بشكل جذري بنشوء الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين، والاستيطان فيها، ودور الدول العظمى في أحداث المنطقة.. كما تتمحور القضية الفلسطينية حول قضية اللاجئين الفلسطينيين وشرعية دولة إسرائيل واحتلالها الأراضي الفلسطينية بعدة مراحل، وما نتج عن ذلك من ارتكابها المجازر بحق الفلسطينيين وعمليات المقاومة ضد الدولة العبرية، وصدور قرارات كثيرة للأمم المتحدة، كان بعضها تاريخيا؛ كالقرار رقم 194 والقرار رقم 242.
.. جيواستراتيجيًا، القضية الفلسطينية، قضية أولى، "المركزية" إجماعا، عربيا إسلاميا، تأزمت مع التدخل الأمريكي البريطاني منذ نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، الصراع العربي الإسرائيلي أوجد أزمة اجتماعية وسياسية وأمنية ضمن منطقة جغرافية صغيرة نسبياً داخل فلسطين، امتدت للعديد من الأطراف والأخلاق الدولية والدول العظمى في العالم.
فلسطين تقع في منطقة حساسة من العالم، الاحتلال الصهيوني كان واعيا لأزمات الصراع بين الشرق والغرب، علاقة الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام فيما بينها، علاقات العرب مع الغرب، وأهمية النفط العربي للدول الغربية، أهمية وحساسية القضية اليهودية في الحضارة الغربية خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوست اليهودي وقضايا معاداة السامية وقوى ضغط اللوبيات اليهودية في العالم، خصوصا الايباك الأمريكي.
بالنتيجة، لن تتأثر السياسة الدولية والأمنية والأممية، بما في تهديدات عباس، من جدل مرتهن بمهلة مستحيلة نظريا وعمليا، وهي مهلة تدل على واقع وحال القيادات الفلسطينية التي تعيش "دبلوماسية الترف الثوري"، تتجمل أمام العالم، لتقول إنها تحمل السلاح بيد، وكمامة السلام باليد الأخرى.. وغالبا هذا الأمر ممكن، لكن..، ليس في هذا الوقت من وقائع العالم وأزماته.
مهلة عباس تمنح العدو الصهيوني قوة المناورة للهروب من أي حلول للقضية، بما في ذلك الحل السياسي الدائم، الذي ينهي الاحتلال الإسرائيلي، بما ورد في دعوة الرئيس عباس، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لتشكيل آلية دولية لتوفير الحماية على حدود الأرضِ الفلسطينية المحتلة في العام 1967، بما فيها القدس، عملا "بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بالحماية، وآخرها القرار الصادر عن الجمعية العامة، في جلستها الاستثنائية الطارئة، في يونيو 2021، بما يوفر الظروف للدعوة لمؤتمر دولي للسلام، وفق المرجعيات الدولية المعتمدة، وقرارات الأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية، وتحت رعاية الرباعية الدولية، ويرى الزعيم الفلسطيني أن هذا يمكن في عالم يعيش خلافات وأزمات ونزاعات، أكبر من دلالاتها السياسية، فالإدارة الأمريكية لا ولم تتعهد بدعوة، أو الضغط على سلطات الاحتلال الإسرائيلي للانسحاب من الأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، بما فيها القدس الشرقية، في غضون عام واحد، خوفا من انتهاء المهلة أو الذهاب بالقضية إلى محكمة العدل الدولية، "باعتبارها الهيئة الأعلى في القضاء الدولي، لاتخاذ قرار حول شرعية وجود الاحتلال على أرض دولة فلسطين، والمسئوليات المترتبة على الأمم المتحدة ودول العالم إزاء ذلك، وكأن محمود عباس يبحث عن حكاية مختلفة للسردية الفلسطينية، أمام سرديات إسرائيل والصهيونية العالمية، والمجموعة الأوروبية والولايات المتحدة.
وأضاف: «يطالبونا بتوضيح مناهجنا التعليمية ولا يطالبون إسرائيل بذلك، وتمنى على هؤلاء أن يراجعوا كمية التحريض ضد الفلسطينيين في المناهج الإسرائيلية، معلنا رفض المعايير المزدوجة.
لعل إشارات عباس بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وأنهم سيذهبون لانتخابات عامة بمجرد ضمان قيامها بالقدس، داعية للضغط على الاحتلال لضمان قيامها بالقدس، وقال: «إننا لم نلغ الانتخابات بل أجلناها»، ووعد بأنه بمجرد التوافق على إجراء الانتخابات في القدس سيتم تحديد مواعيد لانتخابات تشريعية ورئاسية بما في ذلك المجلس الوطني.
.. هنا تلميح من عباس لواقع ترهل وغياب السلطة الفلسطينية عن واقع وعذابات الداخل الفلسطيني، وهو يقف على تأكيدات لها وزنها العربي الإقليمي، ولهذا قال، أمام الهيئة العمومية للأمم المتحدة:
إن الفلسطينيين مستعدون للتفاوض على أساس المرجعيات القانونية والدولية، وضمن إطار زمني محدود لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، من خلال عقد مؤتمر دولي انطلاقا من عضوية اللجنة الرباعية التي تمثل فيها كل من روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بالإضافة إلى الولايات المتحدة، وقال إن البديل لعدم قيام الدولة المستقلة إما قرار التقسيم عام 1947 أو الدولة الواحدة التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون.
.. عمليا، لن يعيد عباس التلويح بالمهلة، ولن يجد من إسرائيل أو الحكومة التي يقودها نفتالي بينيت أي علامة من علامات الاهتمام، بقدر ما تشكل فلسطينيا وعربيا وإسلاميا، وعند مؤسسات وهيئات المجتمع المدني والقانوني، لن يجد أي مراجعة للواقع، بل أراها مهلة خبط عشواء، تزيد من ابتعادنا عن الحل الذي يشغل العالم، بينما تحرس دول العالم القوي والعظيم، بالاحترام إلى الإدارة الأميركية، التي تضع ملعقة السكر من اليد التي تمد السكرية الصهيونية، وتحرك بالطريقة الدموية التي تمارسها إسرائيل، التي جعلها العالم مخلب قط، يساند عشرات المخلب للتحكم في العالم.. وفي زمن مبهم متسابق نحو الدم، تعيش إسرائيل-وسط كل هذا المحيط الساخن- حالة صمم، فلا يؤثر عليها أي تهديد شكلي، أو فهم لمعنى مهلة الرئيس القصيرة.. وأي مهلة بهذا الشكل مصيرها الانهزام إلى الداخل، بينما دولة الاحتلال تخرج قوية، بالحوار والتباكي، أقنعت العالم بأنها دولة الديمقراطية الوحيدة في عالمنا.
مهلة عباس أضاعت منطق الحوار الفلسطيني العربي نحو الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وصولا إلى أي دول تؤيد الحق الفلسطيني.
ساعة عباس ومهلته أكلت أول يوم من عام المهلة.