«بوست» رياضي مفخخ
100 قتيل ومئات المصابين هي الحصيلة الأوليّة للأحداث الدامية، التي وقعت أمس بين جماهير قطبي الرياضة المصرية «الأهلي والزمالك»، بعد انتهاء المباراة وخروج المشجعين من بوابات ستاد القاهرة الدولي، وأفادت تقارير بأن غالبيّة الضحايا من المراهقين.
أقر بأن هذا السيناريو سوداوي لكنه في الوقت نفسه ليس درباً من خيال أو غير قابل للتحقق ولو بصورٍ مختلفة وأعدادٍ قد تقل أو تزيد، في ظل حالة من «الجنون» طالت أدمغة مَن يوصفون بـ«النخبة الرياضيّة» التي لم تعد «نخبة» بغير الاسم و«العلامة الزرقاء» على مواقع التواصل الاجتماعي.
على هذه المواقع بلغ التطرف في مناصرة الفرق الكروية مداه. من المفهوم أن تشتبك الجماهير وتسخر وتتنمر وحتى تسب وتلعن المنافسين وتدعو الله بأن تُقطَّع أوصال نجوم الخصم «إرباً إرباً»، لكن من المؤسف أن ترى قادة رأي من قدامى اللاعبين والإعلاميين وحتى الصفحات الرسميّة للأندية الكبرى يتنافسون على السباحة في الوحل.
«التطرف والهري واسترضاء نزعة الشر في نفوس الجماهير المتعصّبة» هي البضاعة الرائجة في هذه الأيام على حسابات المؤثّرين من الرياضيين، إذ تكفي دقائق معدودة لـ«بوست تلقيح» أو سخرية لحصد عشرات آلاف الـ«هاهاها» والإعجابات، المصحوبة بتعليقات فيها ما لذ وطاب من «قلة الأدب» للاعبين وسلسفيلهم.
الخطر كل الخطر أن انعكاس «المعارك الفيسبوكيّة» كارثيّ على أرض الواقع، إذ إن مشهد إلباس كلب قميصاً أبيض في مدينة الأقصر لإهانة نجم فريق نادي الزمالك شيكابالا ليس منّا ببعيد، في واقعة لم تُثر في نفوس أعضاء مجلس إدارة النادي الأهلي أي غضاضة، والصمت هنا هو موافقة ضمنيّة على ما حدث.
في المقابل وفي أوج الاحتفال ببطولة الدوري لم يفوّت اللاعب نفسه فرصة «رد القلم» فرقص على وقع «نشيد جماهيري» يتضمن سباباً لجماهير النادي الأهلي، ومن باب «المعاملة بالمثل» لم يتحرّك أيضاً مسؤولاً زملكاوياً لإدانة واقعة قائد الفريق.
من المفهوم مثلاً أن يسكب الإعلامي علاء صادق مزيداً من البنزين على النار المشتعلة في الأساس، وذلك لأن «عدّاد الدولارات» على قناته في «يوتيوب» يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمزيد من التطرف، هذا فضلاً عن الخندق السياسي الذي يقف فيه مع جماعة «الإخوان المسلمين»، التي تريدها «خراب في خراب»، لكن السياسة ليست مجال الحديث هنا.
لكن المحزن أن ترى لاعبين وإعلاميين مصريين «بدون وعي» يغذون حرباً «باردة حالياً» لا يُحمد عقباها مستقبلاً، فقبل أيام شهد محمود الخطيب، رئيس النادي الأهلي، والدكتور أشرف صبحي، وزير الرياضة، واللواء خالد عبدالعال، محافظ القاهرة، افتتاح جراج فرع جديد للقلعة الحمراء في مدينة نصر، فما كان من خالد الغندور، لاعب الزمالك السابق، ومقدّم البرامج على قناة نادي الزمالك، إلا إن سخر من الحدث فحصد 32 ألف تفاعل ونحو 5500 تعليق حتى كتابة هذه السطور.
لم يسترع انتباه «الغندور» أن يُظهِر الاحترام المطلوب إلى ثلاثة مسؤولين (وزير ومحافظ ورئيس نادٍ) شهدوا الافتتاح، ولم يمنح «دماغه» قليلاً من التدبّر للحديث بـ«منطق وعقلانية» عن مشروع يساهم في حل مشكلة الاختناق المروري على الأقل في محيط النادي باستيعاب المكان لنحو 1000 سيارة، هو فقط ابتغى السخرية من أجل السخرية فهي وحدها الكفيلة بمزيد من المتابعين المتطرفين.
ومن حسابات لاعبي الكرة والإعلاميين إلى الصفحات الرسميّة لفرق الكرة على منصات التواصل الاجتماعي «يا قلبي لا تحزن»، فلا تفوّت هي الأخرى فرصة إلا و«لقّحت» على المنافسين، لتهدر عاصفة التعليقات المسيئة والعنصرية والعنيفة دون وازع من خُلِق أو دين.
هذه مقدمة طويلة لما أخشاه في قادم الأيام، فمع انحسار فيروس كورونا تخرج بعض الأصوات المنادية بعودة الجماهير إلى المدرجات على غرار عدد من البلدان الأوروبية، وهو مطلب الملايين ممن يتوقون إلى تشجيع لاعبيهم من أرض الملعب، لكن هناك نقطة مهمة يجب إلقاء الضوء عليها.
المراهقون أو مَن يعرفون بـ«جيل زي»، الذين ولِدوا وفي أيديهم هواتف محمولة وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم السواد الأعظم من المتابعين على الصفحات الرياضيّة، كثيرٌ منهم لم ير الملعب يوماً، لا يعرف أبجديات التشجيع، لا يأتمر لـ«كابو» مثلما هو الحال في روابط الأولتراس، ماذا لو حضر 50 ألفاً من هؤلاء المراهقين مباراة في الاستاد وفي «ذاكرتهم الفضائية» آلاف الصور والتعليقات والفيديوهات المليئة بالسب واللعن والتطرف والعنف؟ هل يضمن أحدٌ «خروج آمن» لهكذا مباراة؟.
الحل أيضاً غير مستعص، إذ يمكن للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام دراسة الموقف وتشكيل لجنة أو مجموعة عمل من إعلاميين «غير رياضيين»- حتى لا يطولهم سهم التحيّز- وأساتذة اجتماع لرصد وتحليل ما يُنشَر على الشبكات الاجتماعية واتخاذ ما يلزم تجاه مَن يجدون في «بوستاته» خطراً على المجتمع الرياضي.
يمكن أيضاً التعاون مع منصات مثل «فيسبوك» و«تويتر» ومدّها بقائمة من المفردات التي تحمل إهانة أو عنصرية أو تطرفاً يؤدي إلى مزيد من الشحن والضغينة بين الناس للتعامل معها وحظرها وحظر صاحبها.
أيها القائمون على القرار في هذا الوطن «بلغ السيل الزبى»، وهؤلاء المؤثّرين من قادة الرأي يقودون قطاراً بلا مكابح على حافة جبل ولا يمتلكون «رخصة قيادة»، لو كانوا وحدهم ما نطقنا، لكن القطار يقلّ مئات الآلاف إن لم يكن الملايين من شبابنا، فألجموهم.