حسين حمودة يروى تفاصيل اللقاء الأخير مع الراحلة أمينة رشيد
رحلت مساء أمس الجمعة، الكاتبة والأكاديمية دكتور أمينة رشيد وهي أستاذة الأدب المقارن بجامعة القاهرة، عن عمر ناهز ٨٣ عامًا، حيث ولدت أمينة رشيد في القاهرة عام 1938، ونشأت في بيت يتحدّث الفرنسية.
وكتب الناقد والأكاديمي دكتور حسين حمودة عبر صفحة التواصل الاجتماعي “فيس بوك” تفاصيل اللقاء الأخير الذي جمعة بدكتور أمينة رشيد، قائلا: “المرة الأخيرة التي التقيتها كانت في دار الضيافة بجامعة القاهرة.. كانت جالسة بسلام تنظر وتتأمل في أفق بعيد.. قلت لنفسي بعد أن سلّمت عليها واستوعبت نظرتها: يجب أن تدرّب نفسك تدريبا قاسيا على حزن ليس بعيدا جدا.. قبل هذه المرة مضى زمن طويل جدا، منذ اللقاءات الأولى التي جمعتنا، في تلك اللقاءات البعيدة نبّهتني مرة، وعاتبتني مرات، عندما كنت أخاطبها: (يا دكتورة أمينة)، قالت لي، بتنويعات لطيفة مهذبة: (أنا أمينة.. ليه التكليف؟)”.
وتابع حمودة: “خلال الزمن الطويل، لعقود، التقينا في جلسات طويلة وقصيرة، وفي أماكن عديدة جدا، وزارتني مرة مع زوجها الدكتور سيد البحراوي الذي جمعتني به مسيرة أطول، وزرتهما مرات ومرات.. تحاورنا وتناقشنا كثيرا جدا، اتفقنا واختلفنا واتفقنا واختلفنا كثيرا جدا. .لكن في عمق الحوارات والنقاشات ظلت المودة متصلة. من أوضح ما اتفقنا حوله تقدير عمل ميخائيل باختين، الناقد الروسي الذي انتبهت هي، وانتبهت أنا، إلى عمق تصوراته، وهالها وهالني ما تعرض له من تجاهل في سياق محموم، وممارسات تجاوزت التجاهل”.
وأضاف: “أكثر من مرة، في لقاءاتنا، كان صوتها ينمّ عن محبة وافتقاد عندما كانت تتحدث عن ابنها البعيد.. وأكثر من مرة، في مكالماتنا، كانت تقول لي إنها مع سيد في البلد، (في قرية الدكتور سيد البحراوي بالمنوفية)، وصوتها في هذه المكالمات كان يأتيني محتشدا بنبرة سعادة، كأنها وجدت عالمها الحقيقي مع البسطاء هناك. عالمها الأول (وهي حفيدة إسماعيل صدقي باشا) كان يلوح نائيا وغائبا في مسيرة الزمن الذي قطعناه. مرة واحدة فقط كلمتني عن جدّها الذي لا تخلو صورته التاريخية من وقائع مقرونة بقبضة حديدية.. قالت لي إنها، رغم تلك الصورة، رأت فيه صورة أخرى لا تزال تذكرها، من معالمها أنه كان لطيفا مع أطفال العائلة، وأنه لبّى رغبتها واصطحبها مرة في نزهة بسيارة كي يفرّجها، على مهل، على شوارع القاهرة.. وتكمل معالم هذه الصورة المرات التي كانت تراه فيها جالسا بوداعة يصغي إلى الموسيقى الكلاسيك التي كان يحبها”.
وأكمل حمودة: “أتجنّب الفيس بوك منذ فترة، كي أتجنب الأخبار المحزنة الجديدة. لكن رحيلها، بالنسبة لي، ليس خبرا فحسب.. وليس من فيس بوك فحسب. في وجودها كنت أجد نفسي مغمورا بهدوء دافئ ومهذب وودود، وفي رحيلها (الذي لم ينجح التدريب السابق في التخفيف من وطأته) أجد نفسي ساهما، مطلّا على فراغ الفقدان الذي يتزايد في السنوات الأخيرة.. ولعلي سوف ألوذ بابتسامتها، وبما أذكره من حواراتنا، وبـ(العيش والملح) الذين جمعانا، وبنظرتها المضيئة، وبكتاباتها النزيهة الجادة، وبنبرة عتابها اللطيف في مرات لقاءاتنا الأولى عندما كانت تسمع كلمة (دكتورة).. ولعلي أستطيع بعد هذا أن أقول لها، محاولا أن أكون حيادي الصوت والملامح، بلا إفصاح عن الحزن الكبير: (أشوفك بخير يا أمينة)”.