تعيد إحياء الجسور الإنسانية بين مصر وأوروبا.. رواية «بالحبر الأزرق» دراما الحب والصراعات
ما أن يفرغ قارئ رواية “بالحبر الأزرق” للكاتب الروائي هشام الخشن، والصادرة مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية للنشر، حتى يجد نفسه أسير حيرة لا متناهية، حيال بطلة الرواية “ليديا ستون”، ويطارده السؤال طويلا وربما لن يصل إلي جواب شافِ حول طبيعة هذه الشخصية المتخيلة، وإن كان لها العديد من الأصداء الواقعية، سواء في التاريخ الماضي أم في أيامنا الحاضرة، وربما مستقبلا أيضا.
شخصية “ليديا ستون” شخصية خلافية، لا يمكنك أن تكرهها كونها ملمح من ملامح الاحتلال الإنجليزي لمصر، ورغم أنها كانت مجرد مربية لا أكثر ولا أقل للأميرة نازلي فاضل، إلا أننا نلحظ وبقوة استعلاء الرجل الأبيض الغربي، جليا واضحا على “ستون”.
بطريقة أو بأخرى أيضا من الناحية الإنسانية تتعاطف مع “ليديا” الفتاة رقيقة الحال، التي فرت من بريطانيا العظمي إلى مصر عبر تركيا بعدما غرر بها الشخص الوحيد الذي تفتح له قلبها ومنحته كل شيء، فما كان منه إلا أن لفظها وطردتها عائلته الأرستقراطية، على طريقة أفلام الأبيض والأسود المصرية، فكيف لابن الذوات أن يتزوج خادمته حتى ولو ترك في أحشائها طفلا ينتمي إليه باللحم والدم.
ما أن نلبث أن نتعاطف مع “ليديا” وتأخذنا الشفقة عليها، حتى نكرهها كما كرهنا بني جنسها الذي أذاق سكان نصف الكرة الأرضية الويلات، سواء باستعمار أراضي هذه الشعوب، ومقابلة مقاومتهم بالقوة المسلحة الغاشمة وسقوط الملايين عبر التاريخ، أو نهب ثروات هذه البلاد ومقدراتها.
علي سبيل المثال لا الحصر وبطريقة ناعمة مقتضبة يشير الراوي إلى الدور الذي لعبته شركة الهند الشرقية في نهب شعوب العالم التي احتلتها بريطانيا، حتى أن نفوذ هذه الشركة وصل لأنها كانت تحتل مناطق بأسرها باسم التاج البريطاني ورعايته، ولما لا والشركة كانت تدفع ضرائب للتاج البريطاني تقدر بــ 10% من إجمالي الدخل العام الإنجليزي للدولة.
ربما نكبر في ليديا ستون اختيارها الأخير في العودة إلي مصر مرة أخرى نهائية، واختيارها لمصر وطنا بديلا عن وطنها الأم الذي لفظها، لتدفن في بلد غريب عنها لا يضم عظام ولا رفات أيا من أحبابها أو أهلها.
يبقى السؤال: هل لو كان ابنها الذي تخلت عنه كرها قد عرف طريقها، واعترف بها واختار حبيبها الأول والد هذا الطفل أن يعترف بها زوجة له وأب شرعي لابنهما سويا، ويصحح الخطيئة الكبرى التي ارتكبها في حقها ودمر حياتها. تري هل كان قرار “ستون” أن تعود لمصر ثانية؟ وهل كانت ستتخلى عن ابنها “رزق” الذي أنجبته من “بشير”؟ وهل كانت ستضطر إلى الاختيار بين ولديها.
هل كانت تعيش مع أحدهما وتتخلي عن الآخر هاربة إلى بلدها موطنها الأصلي إنجلترا؟، ألم تتماهي ليديا مع جلادها الذي تخلى عنها وأرغمها على التخلي عن ابنها، فكررت هي نفس الفعل عندما أخفت أمر بنوتها لولدها من بشير “رزق” وأخفته عن العالم كله ولم تعترف به إلا بعد موتها من خلال خطاب تركته إليه وأرسلته مع غريب.
وهل لو أتيح لــ”ليديا ستون” أن تحيا حياة طبيعية من جديد بعد عذابات الماضي هل كانت تختار البقاء في مصر بالفعل؟ وهي نفسها التي أبدت فرحها وفخرها حين دحر الإنجليز أحمد عرابي وقضوا على ثورته؟.
تقول ليديا ستون بمنطق الرجل الأبيض الإستعماري والذي ظهر وعلت نبرته منذ حركة الكشوف الجغرافية واكتشاف الآلة البخارية: “لكني في النهاية لما أمعنت التفكر في الأمر، أيقنت أننا، أعني بريطانيا، نفعل ما فيه الأفضل والأجدى لمصر وأهلها. لم تكن بهذا البلد الجميل ولا أهله جاهزية لأن يتولوا زمام أمورهم، سذاجة وطفولية زعمائهم ووقوعهم المرة تلو الأخري في شراك خصومهم أثبتت رجاحة تفكيري، وأن ما أفعله وفعلته بريطانيا في النهاية في مصلحة مصر والمصريين”.
بدأت “ليديا ستون” بدأت رحلتها إلى مصر كمربية للأميرة نازلي فاضل، من خلال إعلان عن الوظيفة كانت قد نشره “مكتب الخدمة السرية”، والذي سيتغير لاحقا اسمه إلي “الشئون الخارجية”، حتى يصل للمسمى الحالي الــ MI6 الاختصار لمسمى جهاز المخابرات الإنجليزية. فما الذي يربط جهاز مخابراتي بإعلانات الوظائف سوى استخدامهن في أعمال التجسس ومراقبة الدول المقرر احتلالها، وهو ما حدث لاحقا مع ليديا التي واظبت على إرسال التقارير الأسبوعية إلى مكتب الخدمة السرية حتى تقاعدها. والأمر ليس فقط خيال روائي ففي التاريخ وقائع حقيقية “لورانس العرب” نموذجا.
“بالحبر الأزرق” عمل روائي أثبت مؤلفه هشام الخشن أن الإبداع الحقيقي يبقى صامدا أمام الزمن، بما نسجه وصاغه في سرد محكم بلغة شديدة التركيز بلا كلمة واحدة زائدة، بـ مشهدية عالية تنقلك إلى الأماكن التي دارت فيها مما يرشح العمل بقوة لأن يكون عمل درامي سينمائي.
كما أن الحبكة المحكمة رغم التنقل ما بين أزمنة السرد، وأماكنه وشخوصه تجعل متلقي “بالحبر الأزرق” منتبه الذهن متيقظ، محبوس الأنفاس وراء مصائر الشخصيات والإنفعال بها والتفاعل معها حتى ليظن القارئ أن شخوص الرواية بجواره يتحدث معهم، فيحذر “نازل فاضل” من الزواج من رجل يكبرها بأكثر من عقد زمني، فتتحاشى المصير الذي وصلت إليه، ويبكي معها حينما تفقد طفلتها الأولي “حواء”.
“بالحبر الأزرق” جدارية روائية يؤكد مؤلفها هشام الخشن تطوره السردي، من رواية إلى أخرى يتفوق فيها علي نفسه، من خلال أدق التفاصيل التي يبثها في الحكي الروائي دون مباشرة أو صوت عال.