حتى لا يتحول الشاعر إلى قاتل
في طريق الشعر مر فتحي عبد السميع بمحطات ودروب متنوعة حتى أمسك خيطه وصنع نسيجه الخالص، وحاز بنصوصه منزلة خاصة يعرفه بها كل من يطالع قصيدته أو يقف على ديوان له، وهو بالشعر عرف نفسه؛ بعيدًا عن مركزية العاصمة وضجيجها، وحيث طابت طينته الشعرية باتت نصوصه روائح إنسانية تتجاوز فكرة الإقامة في شكل محكوم بصندوق النظريات والتنظيرات، حتى أنك عندما تطالع ما تيسر من مشواره في كتابه المنسوج في مدار السيَّر "الشاعر والطفل والحجر" تجد نفسك غارقا في عناية الشعر غير مشوش بسؤالات وألقاب شكلانية؛ فلا هو الشاعر المغوار أو المقدام أو شاعر الصعيد الجواني، وإن كان سابحًا في فضاءات الجنوب المعنى، فهو الإنسان القَلِق أو كما تسرّب خلال قصيدته "تمثال رملي"؛ الآنَ، وسريعُ الزوال، ولا يريد لأحد أن ينهار بسببه، وهو أيضًا الأوانُ الذي يفوت.. لكنه باق في مدونته الثرية وفي دأبه البحثي ونشاطه المجتمعي، وقد صدر له سبعة دواوين شعرية، أولها "الخيط في يدي" عام 1997، وأخرها "أحد عشر ظلا لحجر" عام 2016؛ وفي جميعها نلمس كيف يتماهى الشاعر في معاناة الناس ويتبصر دواخلهم..
يقول في ديوان "الموتى يقفزون من النافذة": "لا أكترثُ بأني أُخدع وبأن جداولي تصب في أحواض الآخرين/ أنظرُ بمودة لكل شيء حتى العتلة التي تجول داخلي/ رغم اصطكاك أسناني من صوت انخلاع المسامير/ أريد أن أحدث أصدقائي عن شيخوخة لا تصنعها السنوات".
ونصوص فتحي عبد السميع تحتاج إلى حديث طويل لكنني هنا بصدد مسئولية المبدع نحو المجتمع، فقد كان يمكن لفتحي ألا يكترث بهموم مجتمعه، ويعتمد فكر التملية والأنامالية، ويتفرغ مثل كثيرين لمعارك سطحية أو يتناول الصعيد كما يحدث إعلاميًّا بطريقة فولكلورية، لكنه يعي دوره كمبدع ومسئوليته كمثقف يمتلك طاقة بحثية كبيرة، ومن هذا المنطلق أقدم على دراسة ظاهرة "الثأر" التي تهدد أمن المجتمع المصري كله وليس أهل الصعيد وحسب، واقترح فيها مشروعًا بحثيًا مهمًّا أنجز فيه جزأين ويعمل على ثالث، ونشر منه كتابا بعنوان "القربان البديل: طقوس المصالحات الثأرية في جنوب مصر"، استحق عنه جائزة الدولة في العلوم الاجتماعية عام 2016، كما وصل آنذاك إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد.
ورغم إشادة كثير من المتخصصين بأهمية ما قدمه الباحث الشاعر، ما يدعو إلى ضرورة دعمه وكذا الاستفادة القصوى من دراساته، إلا أن المؤسسات المعنية "ودن من طين وودن من عجين"، بينما يكافح ويكابد بمفرده لمواصلة مشروعه مقتطعًا من وقته ووقت أسرته؛ يحاول بجهده الوفير وماله القليل بذل ما يُجدر أن تحشد له المؤسسة الجامعية خصوصًا "كليات وأقسام علم الاجتماع" و"المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية" وكذلك "وزارة الثقافة" فرقًا بحثية متكاملة، حتى لا تتفاقم الجرائم الثأرية ونجد أنفسنا في قلب كارثة مدمرة تصيب الجميع فنمسي مجتمعا للقتلة والمقتولين..
وعلينا مراجعة الحوادث الثأرية التي وقعت مؤخرًا، وأحدثها ما تناوله فتحي عبد السميع في مقالة بعنوان "صدمة مذبحة أبي حزام بنجع حمادي"؛ المذبحة المتهم بالتورط فيها شخص يُعرف نفسه بأنه شاعر؛ وهو أمر غريب وغير متوقع، وربما لم يرد في ذهن فتحي عبد السميع الذي- ويا للمفارقة- كتب منذ خمس سنوات قصيدة حملت عنوان "قاطع الطريق الذي صار شاعرًا"؛ يقول فيها:
"أنا الولد الذي فشل في قطع الطريق وصار نشالا/ أصابني مسٌ فصرتُ أمشي مُلثمًا بعتمة صغيرة/ يدي بريئةٌ من كل إكراه/ وروحي شغوفة بالسرقة/ نمت كثيرًا فوق ظلامٍ/ يشبه الظلام في قاعة السينما/ تهشَّم فجأة وأصابني مسٌّ/ يدٌ صفعتني وفكت عمامتي/ حرَّكتُ بندقيتي ولم أجد هدفًا/ رأيتُ نسمةً بيضاء تزْرُقُ في شجرة/ نسمة ويدها ثقيلة/ نسمةٌ وتُعلِّم في القفا/ تحرَّكَ غصنٌ وطارت النسمةُ فارتجفتُ/ وجدتُ هدفًا ولم أجد بندقيتي".
القصيدة لا تكشف عن حدث بل تُعري سياق التاريخ الاجتماعي للذات الشاعرة، وما يماثلها من ذوات؛ لإنسان المكان، ولتقابلاته وتقلباته بين الأصل والصورة. وفي تلك المدارات وفي نسج شعري مشدود وصافي، تسبح معظم نصوص فتحي عبد السميع، وبما يتجاوز فكرة النص المغلق؛ الذي يعتمد الجغرافيا والبيئة قوامًا له، إلى أفق شعري حضاري يأنسن عناصر العالم.. وربما لو قرأ أي "عنصر إجرامي" قصيدة مثل "قاطع الطريق" لتبدّل حاله وبات شاعرًا.
أما لو اهتمت المؤسسات الجامعية والثقافية والإعلامية بغرس الفنون في قلب المجتمع بشكل جاد وفعّال، وعملت كذلك على نشر وذيوع مثل هذا الشعر، لأسقطنا البالي من "عاداتنا وتقاليدنا"، ورقّت أرواحنا وارتقت حياتنا، وودعنا إلى الأبد الحديث المتجدد عن المذابح الثأرية التي يسعى الباحث الشاعر إلى دراستها ليجنبنا خطرها، لكن هيهات هيهات: فمن أنت أيها الشاعر حتى نجري خلف خيالاتك، بل ومن أنت أيها الشعر حتى نسعى إليك ونعمل على طموحاتك: "هتجيب كام يعني"؛ أنت بضاعة كاسدة لا تُباع ولا تُشترى. وكذلك الشاعر والباحث المتفرد فتحي عبد السميع؛ لا يُباع ولا يُشترى، لكن مجتمعاتنا تحتاج بشدة إلى أمثاله، وليس أقل من أن ندعو إلى دعم مشروعه البحثي في "ظاهرة الثأر".