ابنة أبي
كم يصعب عليَّ أن أمسك بقلمي لأكتب عن أغلى إنسان عندي في الدنيا بصيغة الماضي.. أبي كان هنا.. بيننا وحولنا يملأ حياتنا ببهجة وجوده وحضوره بكاريزما تجذبنا نحوه التفافًا واحتضانًا لا نمل ولا نشبع منه، كنت طفلته المقربة والمدللة، ابنة أبي، ورثت كثيرًا من صفاته وطبائعه، جيناته في دمي، لا أشعر بأي سعادة في حياتي إلا لو بارك خطواتي يشجعني ويدفعني إلى الأمام، كان صديقًا لي، لا أخفي عنه شيئًا، إلا فيما ندر، ولكنه بإحساس الأبوَّة الذي لايخطئ كان يسبر أغوار روحي؛ ليكتشف ما أحاول أن أبتعد به عما ـ قد ـ يعكِر جريان نهر مشاعره المتدفقة الفيَّاضة المرهفة؛ كفنان عاش حياته يسير بخطواتٍ مُتئدة محسوبة على طريق الفن والموسيقى؛ مثل لمسات "القوس" على "أوتار الكمان"!
ولعل الباحث عن تاريخ هذا الإنسان العبقري الذي تخرَّج على يديه المئات من التلاميذ الذين برعوا في حقل الموسيقى والفنون بصفةٍ عامة؛ يجد المفاجأة في كونه حاصلًا على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة؛ إلى جانب دراساته الموسيقية والأكاديمية، التي صقلت موهبته الفطرية في حب الموسيقى والألحان، ليترك خلفه ــ لنا وللأجيال ــ تراثَا رائعًا من الموسيقى التصويرية والألحان للعديد من المسلسلات التليفزيونية والإذاعية والصور الغنائية.
ينضاف إلى هذا التراث العظيم قيامه بتلحين وتوزيع موسيقى كثير من ألحان الأغنيات لكبار المطربين والمطربات في مصر والوطن العربي مثل سعاد مكاوي وفايدة كامل وشريفة فاضل ومحمد قنديل وكنعان وصفي ومحمد حمام وسوزان عطية وعمرو دياب وغيرهم، ولهذا أجدني كابنة تشرُف وتزهو بانتمائها إلى هذا الرائد في مجاله؛ أمنح: سيف الدولة حمدان ـ بكل حُب الابنة ـ لقب: "رب الحقوق والموسيقى" كما خلعت الدولة العباسية لقب "رب السيف والقلم" على "سيف الدولة الحمداني" في سالف العصر والزمان.
ويعتريني اعتقادٌ راسخٌ؛ بأنني لن أُتَّهَمْ من البعض بأن شهادتي ـ في يوم وداعه الحزين إلى العالم الآخرــ مجروحة، أو يشوبها الهوى والأنانية، فهذا الموسيقار الراحل العظيم ـ وإن كان أبي وأنا من صُلبه وجيناته في دمي ـ لم يكن ملكًا لي وحدي؛ حتى أخشى لومة اللائمين في المشاركة في رثائه بالدموع والدماء النازفة من شغاف القلب؛ أوبمحاولة استجماع كلمات الحُزن من كل قواميس اللغة؛ تلك اللغة التي لن تستطيع ـ مهما حاولت ــ أن تترجم مشاعر وأحاسيس وأوجاع الألم الذي يخدش بأظافره المعقوفة العجفاء القاسية في ثنايا القلب وحنايا الضلوع! بل كان نِعْمَ الأب والمعلم للجميع من التلاميذ والأصدقاء والأحباء؛ ولم يبخل عليهم بعلمٍ أو مشورة أو مساعدة؛ وبخاصة الموهوبين من جيل الشعراء الشباب الذين آمن بموهبتهم في أول طريقهم؛ ومَنَـحَ لكلماتهم أعذب الموسيقى والألحان؛ فمنحتهم الشهرة والتفرد بين أقرانهم.
إن عزائي والراحة والسلوان لقلبي؛ ولقلب كل محبيه وعارفي فضله؛ أنه قام بأداء رسالته في الحياة على الوجه الأكمل؛ يستوي في هذا رسالته تجاه عائلته الصغيرة ـ البيت والأم والأبناء ـ أوعائلته الكبيرة المتمثلة في الأصدقاء والأحباء والتلاميذ الذين استقلوا ـ معه وبجانبه ــ قطار الحياة لمواصلة مشوار العمر الذي انصرم في ذات صباح من أيام الله المباركة العزيزة على القلوب والأرواح الإثنين ١٢ يوليو ٢٠٢١م الموافق الثاني من ذي الحجة ١٤٤٢ هجرية؛ وأن ذلك الفضل الذي صنعه بكل الحب ينداح على جميع تلاميذه وطلاَّبه في مقاعد العلم والدراسة داخل أعلى وأرقى قلاع الفن في مصرنا المحروسة؛ وعزائي الخاص يكمُن في إيماني الذي لايتزعزع بتصاريف القدر الذي لا نملك إلا الخضوع لمشيئته وأحكامه؛ والإيمان الدائم بأنه كما قال الشاعر/شوقي:
فاطمٌ .. من يولد يمُت ** المَهْـدُ .. جسر المقبرة!
وشهادتي لله وللتاريخ .. أن هذا الرجل الذي آثر أن يرحل عن دنيانا في تلك الأيام المباركة؛ لم ينحنِ أبداً أمام الرغبة الشخصية في السعي إلى نيل الجوائز المادية والعينية؛ التي حظي بها من هم أقل إنتاجًا وشأنًا في مجاله؛ ولم يقف على أبواب أصحاب المَنْح والمَنْع؛ انتظارًا لتقدير فنه الذي نذر حياته من أجل إعلاء شأنه في مجالات الحياة كافة، وكم نادى بعض المتخصصين في مجال الموسيقى والغناء بالالتفات إلى الإبداعات المتفردة لهذا الراحل القدير في عالم الموسيقى والألحان؛ بجانب جهده الأكاديمي البارز في تخصص نادر برع فيه لقيامه بعمل صياغة للأعمال التراثية الخالدة لكبار الملحنين مثل الشيخ سيد درويش وكامل الخلعي وداوود حسني وزكريا أحمد وغيرهم في الغناء المسرحي العربي على آلة البيانو وصاحب خبير التراث الراحل إبراهيم رمزي وشاركه المحافظة على التراث بتدريسه وتلقينه لأجيال من طلبة المعهد العالي للموسيقى العربية بأكاديمية الفنون، ولكنه رحل عن دنيانا دون أن ينال هذا التكريم المستحق.
واليوم أطالب ــ كواحدة من محبيه وعارفي فضله .. لا بصفتي ابنته ــ أن يتم وضع اسمه الكبير على رأس قائمة المكرمين بجوائز الدولة التقديرية، على أن يتم ذلك في أقرب مناسبة قومية أو فنية؛ أو على أقل تقدير أن يتم إطلاق اسمه على قاعة من قاعات المعهد العالي للموسيقى بأكاديمية الفنون؛ تخليدًا لذكراه وتقديرًا لمسيرته الفنية والعلمية؛ وحافزًا للأجيال الحالية والمستقبلية على مواصلة الإبداع الصادق الذي لا يُنسى على مر الزمن! إنه "الموسيقار العملاق: سيف الدولة حمدان "ياسادة" .. فهل أنتم فاعلون؟!!
دموعنا لم ولن تجف حزنًا وألمًا على فراقك يا أبي، كنت أبًا عظيمًا ومثاليًا وخير قدوة لي ولأخي ونعم الزوج الحنون المعطاء لأمي حفظها الله.. فنان قدير حفيد مفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ عبدالرحمن قراعة، ملأ الأجواء بمؤلفات رائعة وحصاد موسيقي مائز يحمل بصمة وجدانه البهي رهافة وإحساسًا، وأستاذ أكاديمي ملهم لكل من تتلمذ على يديه كأستاذ للبيانو والغناء المسرحي بالمعهد العالي للموسيقى العربية بأكاديمية الفنون التي أحببتها منذ صغري امتدادًا لمشوار عطائه بها ولها.. اللهم لا اعتراض ولا راد لقضائك يا الله استرددت وديعتك.. ابنة أبي أنا.. اعيش وأفتخر بأب عظيم!
أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون