صبري غياتي يكتب: قراءة في مناسك الحج التلبية والوجود الجديد
الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا، وجعل القلوب تهفو لرؤيته، وتستروح الأرواح عبقه مهما تباعدت الأماكن ونأت البلاد بالعباد، فهو أمان القلوب ومستقر رحمة الرب الودود.
وأصلي وأسلم على صاحب الروضة الشريفة التي يفوح المسك منها فينتشر على الوجود كله ريحان روحه العطرة المباركة.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأوليائه وأزواجه وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
فإن هذه الأيام المباركة هي أيام الحج ومناسكه وشعائره من طواف وسعي وتلبية إلى غير ذلك من أعمال الحج، والحق أن أفعال الحج ومناسكه ليست مقصورة على أعمال الجوارح أو على تلك الأفعال الشكلية التي يقوم بها الحاج.
ففي التلبية مثلا معاني عميقة يدركها الحاج ويعيشها بكل ذرة في كيانه فالحاج حين يلبي ويرفع صوته بالتلبية لله في صورة تؤكد أنها نوع من المظاهرة الدينية أو هي ثورة على النفس البشرية، تلك التي جرفتها الحياة فتاهت في أوديتها ودروبها، فهي في ساعة الإحرام والتلبية ترى أنها وجدت نفسها مرة أخرى، فهي تصرخ نشوة أو فرحة بهذا الوجود الذي ظلت تبحث عنه طيلة حياتها وأضناها البحث حتى ظنت أنها لن تجد تلك النفس الطاهرة النقية بداخلها، وأنها تحولت إلى نفس نهمة لا تعرف إلا معاني المادة ولا تدرك للروح معنى.
هنا وفي ساحة التلبية، يكتشف الإنسان نفسه ويجد أنه قد عثر على ضالته التي ظل ينشدها طيلة حياته، وأن أودية التيه تلك التي ضل في سبلها قد تركها خلف ظهره، وهنا تكتشف النفس البشرية أنها عثرت على نقائها وطهرها الذي ظلت تبحث عنه طيلة حياتها فوجدته في أثناء تلبيتها لله (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
فهي تلح في تكرار هذه التلبية كأنها تعيش حالة من هذه الثورة على كل ماضيها.
هنا في ساحة التلبية ووسط تلك الجموع الهاربة إلى الله تستشعر النفس عظمة هذا الوجود الجديد فيرتفع صوتها (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، هنا تعرف أن الذي وهبها هذا الوجود هو الله، فهو وحده المستحق للحمد.
وهنا تستشعر أن الحياة كلها بملكها وملكوتها لله وحدة، وأنه بنعمته هو الذي نقلها من عالم الملك إلى عالم الملكوت الذي يعج بالأسرار والأنوار، هنا تستشعر النفس أنها تستقبل حياة جديدة ملؤها الطهر والنقاء (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) حياة مليئة بالأسرار والأنوار تلك هي الحياة الجديدة التي يعيشها الحاج مع أولى مناسك الحج.
- عضو المكتب الفني لوزير الأوقاف