«الدستور» تنشر مقطع من رواية «فى ليلة مظلمة تركت منزلى الصامت» لـ بيتر هاندكه
أطلقت دار العربي للنشر بالقاهرة روايتها الثالثة لأديب نوبل النمساوي بيتر هاندكه في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2021، بعنوان "في ليلة مظلمة تركتُ منزلي الصامت"، والتي ترجمها إلى العربية الدكتور معتز المغاوري.
وصدرت لبيتر هاندكة ترجمتين عربيتين أخريين عن العربي هما "حزن غير محتمل"، و"ثقل العالم"، وترجمتهما هبة شريف، ومن المقرر أن تصدر له قريبًا الترجمة العربية "عودة مطولة إلى الوطن" ويترجمها أيضًا د.معتز المغاوري.
تحكي هذه الرواية عن قصة حب ومغامرة مختلفة. بطل الرواية صيدلي عجوز يعيش في مدينة "تاكسهام" النائية الواقعة على أطراف مدينة "سالزبورج". كانت حياة الصيدلي مع زوجته رتيبة يسودها الملل، حتى التقى شاعرًا مشهورًا، وبطلًا رياضيًا معروفًا في مطعم تحت الأرض، لينطلق معهما في رحلة عبر أوروبا. يمرون من خلال رحلتهم بمغامرات عديدة نتعرف من خلالها على كل شخصية منهم عن قرب. هل تساهم هذه الرحلة في تغيير حياة صيدلي "تاكسهام"؟ هل يقابل حبًا جديدًا؟ هذا ما ستكشف عنه الرواية.
إن هذه الرواية هي استكشاف لشاعرية اللغة، ولرغبة الفرد الدفينة للانتماء لشيء ما، وهي أيضًا استكشاف لتشرد الفرد في الحياة.
وبيتر هاندكه الأديب النمساوي الحائز على جائزة نوبل 2019 يتميز في أعماله الأدبية بلغة قوية، مبتكرة، معقدة، دقيقة، مليئة بالاستعارات والتشبيهات غير التقليدية. وصفه للأحداث والأماكن ممتع وسينمائي ينقل للقارئ المشهد بدقة فائقة ليشعر أنه مشارك في الأحداث.
"الدستور" تنفرد بنشر مقطع من رواية "في ليلة مظلمة تركت منزلي الصامت" للمتوج بنوبل "بيتر هاندكه"
في الوقت الذي وقعت فيه أحداث هذه القصة كادت منطقة "تاكسهام" أن تكون منسية، حتى أنَّ أغلب سكان مدينة "سالزبورج" القريبة لم يكن باستطاعتهم أن يقولوا أين تقع هذه المنطقة، بل إن الاسم كان يبدو غريبًا لكثير من الناس. "تاكسهام"؟ "برمنجهام"؟ "نوتنجهام"؟ في الواقع كان أول فريق كرة قدم بعد الحرب يدعى "تاكسهام فورست" حتى تغيَّر اسمه بعد صعوده من الدرجة الأدنى، وبعد صعوده المتتالي بمرور الأعوام إلى "فريق سالزبورج" (في تلك الأثناء ربما أُعيدت تسميته بالاسم القديم).
في الحقيقة، كان من المألوف أن يرى الناس في وسط المدينة حافلات تحمل لافتة "تاكسهام" تمر بهم. لم تكن الحافلات ممتلئة أو خالية أكثر من غيرها، لكن لم يستقل أحد من سكان المدينة ذات مرة إحدى تلك الحافلات.
وعلى عكس القرى القديمة في محيط مدينة "سالزبورج"، لم تكن "تاكسهام" - التي تأسست حديثًا في فترة ما بعد الحرب - مقصدًا للزوار في أي وقت. فلا يوجد فندق يجذب الزوار، ولا معالم سياحية، وكذلك لا شيء ينفرهم منها. على الرغم من وجود قصر "كليسهايم" وكازينو القمار ومبنى الاستقبال الحكومي الواقع مباشرة خلف الحقول، لم تكن "تاكسهام" حيًّا أو ضاحية أو منطقة زراعية، وعلى العكس من المناطق الأخرى بالناحية، كان الزوار يتجاهلونها سواء من قريب أو بعيد. لا أحد يأتي زيارة إلا ويبقى فترة قصيرة لا تزيد عن ليلة، لأنه لا يوجد في "تاكسهام" أبدًا فندق - مما يمثِّل ميزة لمدينة "سالزبورج" - والأماكن المخصصة لإقامة الزوار، والأماكن البديلة تكون مشغولة. حتى اسم "تاكسهام" الذي يضيء واجهات الحافلات، التي تجوب المركز المظلم الهادئ ذهابًا وإيابًا حتى ساعة متأخرة من الليل- يبدو أنه لم يجذب أحدًا بمرور السنين إلى المكان. والشخص المنفتح على العالم يقول حين يسأل عن "تاكسهام": "لا أعرفها"، أو يكتفي بهز كتفيه.
أنا وصديقي "أندرياس لوزر" مدرس اللغات القديمة ورجل الاقتصاد النَّاشئ - كما يطلق على نفسه - كنا الغريبين الوحيدين اللذين جاءا إلى "تاكسهام" أكثر من مرة. في زيارتي الأولى لـ"تاكسهام" نزلت في الشارع الرئيس وهو "كليسهايمر أليه" (لا أثر لقصر أو طريق ذي أشجار) في بار، حيث كرر رجل لساعة، كيف أنه ينوي أن يقتل شخصًا ما قائلًا: "ليس أمامي خيار آخر". كان "أندرياس لوزر" هو من همس في أذني في أمسية شتوية في مطعم "مطار سالزبورج" الذي كان خاليًا تقريبًا (في تلك الفترة كان أكبر من صالة الوصول) قائلًا: انظر، هناك في الجهة المقابلة يجلس صيدلي "تاكسهام".
في تلك الأثناء، غادر صديقي "لوزر" لا أعرف إلى أين. كنتُ بعيدًا عن "سالزبورج" لفترة طويلة للغاية. وصيدلي "تاكسهام" الذي التقينا به حينها مرات غير قليلة، اختفى في الفترة التي وقعت فيها أحداث هذه القصة، ولم نسمع عنه لفترة طويلة.
تبدو "تاكسهام" وكأنها من الصعب الوصول إليها، وهذا بسبب موقعها؛ يقع الذنب أيضًا على القرية نفسها.
إن ما تواجهه مثل تلك المناطق اليوم كان معروفًا منذ البداية؛ منعزلة أو على الأقل يمكن الوصول إليها بصعوبة من الأماكن المحيطة بها، ومن الأماكن المجاورة فقط عن طريق خطوط المواصلات المتاحة. بالنسبة للأماكن البعيدة، يصعب الوصول إليها سيرًا على الأقدام أو بالدراجة. وعلى العكس من القرى التي دُفعت مع مرور الوقت إلى عالم مثلث، فأصبحت منعزلة، وضُيق عليها الخناق من جميع المحاور المتزايدة، نشأت "تاكسهام" داخل تلك الحواجز. فعلى الرغم من أنها تقع في سهل نهر كبير وعلى أعتاب مدينة كبيرة، فإنها تشبه المخيمات والثكنات العسكرية. يوجد كذلك في المنطقة المحيطة بها مباشرة على مقربة من الحدود مع ألمانيا ثلاث ثكنات عسكرية، وواحدة منها تقع داخل حدود القرية، بالإضافة إلى خط قطار المسافات البعيدة اتجاه ميونخ كواحد من الحدود الواقعة قبل "تاكسهام". ويرجع تاريخه إلى ما قبل نشأة القرية بفترة طويلة، وكذلك الطريق السريع والذي أنشئ قبل الحرب العالمية الثانية في عهد الرايخ الثالث (والذي لا يزال بعد عشرات السنين يحمل نسر الرايخ، وفي مخالبه الصليب المعقوف. وتاريخ تأسيس الطريق محفور على جانب النفق الضيق) بالإضافة إلى المطار الذي أنشئ في أثناء الجمهورية النمساوية الأولى، ويجعل الوصول إلى القرية صعبًا من الأمام.
تقع مدينة "تاكسهام" في هذا المثلث بين خطوط النقل، ويمكن الوصول إليها فقط عبر طرق وعرة ومتعرجة للغاية وأنفاق، ولهذا لا تبدو "تاكسهام" من النظرة الأولى فقط كجيب داخلي. جيب داخلي لمن؟ وتتبع من؟ على الأرجح أنها تتبع مدينة "سالزبورج" أكثر من أي مكان آخر، وهي مستعمرة للاجئي الحرب والمشردين والمهاجرين. بالتأكيد، كان الصيدلي واحدًا من هؤلاء، فرد في أسرة كانت تدير مصنعًا للأدوية في الشرق في عصر إمبراطورية "هابسبورغ"، ثم في جمهورية تشيكوسلوفاكيا، ثم تحت الاحتلال الألماني. لم أرِد أن أعرف معلومات أكثر عنه من أجل قصته هنا، وجاء رد فعله "لنكتفي بهذا القدر، لنترك باقي المعلومات في طي النسيان".
هؤلاء الوافدون الجدد لم يقيموا فقط بعد الحرب في المثلث المتكون من أرصفة القطارات البعيدة والطريق السريع والمطار، في استراحة المقاطعة الزراعية هناك، والمزارع التي تحمل أسماء بيوت "تاكسهام"، بل إنهم تحصنوا واحتموا هناك.
بعد التغلب على عوائق الوصول الخارجية إلى "تاكسهام" يظهر شيء مثل حزام حاجز آخر، لم يضعه إنسان، بل هو من صنع الطبيعة. سواء خلف جسر السكة الحديد أو خلف سياج مدرج المطار؛ "تاكسهام" بأكملها تبدو بعده محاطة مرة ثانية في دائرتها الداخلية بالحواجز، ومحاطة بسور، لا يتكون من الأسلاك، بل من سياج من الخشب القوي المتشابك يصل ارتفاعه لارتفاع الأشجار، ولا يلوح في الأفق خلفه سوى برج لكنيسة كاثوليكية شُيدت بعد الحرب (أما برج الكنيسة البروتستانتية فلا يمكن رؤيته من مسافة).
والأرض الواقعة بين نظامي الحماية؛ الخارجي المفروض والداخلي ذاتي الصنع، تُستخدم كملعب كرة قدم، وطريق للتنزه أو حقل متهالك، ويظل الجزء الخاص بساحة السيرك - الذي يأتي سنويًّا لبضعة أيام ليقدم عروضه في الخلاء - مخططًا بعلامات واضحة. وهكذا تشبه هذه الأرض بأكملها الحصن.
وبطريقة أخرى، كانت "تاكسهام" قبل نصف قرن - حتى وإن كانت على نطاق صغير - طليعة للكثير من المستوطنات الحالية، ويُطلق عليها أيضًا "المدن الجديدة". يصعب الوصول إليها، والأصعب الخروج منها مرة أخرى سواء بالسير على الأقدام أو بالسيارة. فكل الطرق تقريبًا التي تُنبِّئُك بهذا، تنعطف ثم تقودك حول مجموعة المنازل أو بين حدائق المنازل الصغيرة لتعيدك إلى نقطة البداية من جديد، أو أنها تنتهي أمام سياج لا يمكن اجتيازه وتظهر من خلفه الحقول. وقد سُمي شارع القرية على اسم "ماجلان" أو "بورش".
في الواقع تحمل معظم الشوارع (أو الطرق الجانبية) بـ"تاكسهام" ذات السياج النباتي أسماء رواد الطيران، وذلك بسبب المطار القريب مثل "جراف زيبلين"، و"أوتو فون ليليانتهال"، و"مارسل ريبارد"، وكانا من المهاجرين بعد الحرب. فُرضت تلك الأسماء دون أن يطلبوا ذلك، بل ربما كانوا هم أنفسهم يفضلون أن يطلقوا اسم "جوتشر" و"المواطنين السبعة" على الشوارع، من يعرف؟ قال صديقي "أندرياس لوزر" ذات مرة أن "نونجيسر" و"كولي" ربما يكونا الطيارين الوحيدين اللذين يمكن إعطاء اسمهما لشارع.. بعد أن فُقدا فوق المحيط الأطلنطي في محاولة رحلة الطيران الأولى من أوروبا إلى أمريكا، وذلك بعد مغادرتهما اليابسة.
وهناك أمر ثالث كانت "تاكسهام" تمثل فيه ظاهرة معاصرة منذ بداياتها وكان لها السبق فيه، وقد أصبح هذا الأمر معتادًا اليوم بكثرة؛ ألا تسكن في المكان الذي تعمل فيه. وهكذا كانت القاعدة بين العاملين في مستعمرة المثلث والسياج منذ ذلك الوقت قبل خمسين عامًا، هي الإقامة والسكن في مكان آخر ليس بعيدًا عن "تاكسهام"، ولكن ليس في المدينة نفسها. حتى التاجر وصاحب المطعم كانوا يأتون بالنهار فقط من أجل العمل. وكذلك أحد الكهنة المعينين من أجل المدينة وكنت أعرفه جيدًا، كان يأتي فقط من أجل القداس، ويعيش في المدينة حيث ينتقل من مكان إلى آخر بلا هدف (ترددت بعض الأقاويل بأنه تخلى عن منصبه منذ فترة طويلة).
كان منزل الصيدلي كذلك يقع خارج "تاكسهام" في إحدى القرى الزراعية بالقرب من نهر "سالاتش" قبل التقائه بنهر "سالزاك" في المثلث الطبيعي هناك.
كان مرتبطًا في اختيار سكنه بمكان عمله. سارت حياته في مثلث بين المنزل الواقع بالقرب من جسر النهر، والصيدلية والمطار حيث كان يتناول العشاء هناك بانتظام؛ مرة مع زوجته ومرة ثانية مع عشيقته. عندما قابلناه بالصدفة، كانت قصته تدور في وقت مغاير تمامًا.
أسس أخوه الأكبر الصيدلية وكانت أول مؤسسة تجارية في مستوطنة "تاكسهام" الجديدة بعد الحرب، أو أول مؤسسة عامة مفتوحة للجمهور قبل المدرسة والكنيستين وكذلك قبل أي محل. لم يوجد كذلك مخبز قبلها (كان السُكَّان يشترون الخبز في البداية من المزرعة). كانت الصيدلية لفترة طويلة أول منفذ خدمات لمهاجري ما بعد الحرب. كانت في البداية - بناءً على كلام أحد معارفي - محل سخرية لكونها منزل للطب في بلدة مهجورة، ثم تحولت بالتدريج إلى مركز تجمع مؤقت.
ما زال يمكنك أن تشعر بهذا بعد مرور عشرات السنين؛ على الرغم من اختفاء أي مظهر للزراعة في تلك الأثناء في المجتمع المحاط بأبراج الكنيسة والسوبر ماركت، فإن صيدلية "تاكسهام" تجعلك تتخيل مركز القرية أكثر من أن تراه.
إلا أن هذا لا يرجع إلى البناء، فالبناء يشبه كشكًا صغيرًا ومناسبًا لبيع السجائر والصحف، وكذلك في الداخل لا يوجد الرونق المظلم، والمتطور، والمتحفي للكثير من الصيدليات القديمة، ولا التنوع المضيء الملون - أين أنا؟ في حمام شمسي؟ في محل عطور؟ في كوخ على الشاطئ؟ - لبعض الصيدليات الحديثة الجديدة. كانت الصيدلية تبدو من الداخل بلا لون وغير منمقة، لا شيء واحد.. سواء دواء أو معجون أسنان مسلط عليه الضوء، وكل شيء خلف الحواجز والفاترينات الضخمة وُضع على مسافة إلى الداخل، كأنها ليست بضاعة، وليست معروضة للبيع، بل ترسانة محظورة يحرسها اثنين أو ثلاثة يرتدون الزي الأبيض. وكذلك لا توجد عتبة خاصة في مدخل الصيدلية، بناءً على كلام "أندرياس لوزر"، إن عَتَب الصيدليات في العالم كله تقريبًا مميز؛ لا يتسم بالفخامة ولا يتعثر فيه الناس، بل فيها رسومات وزخرفة وأشكال أكثر من مدخل المنازل، وفي الصيدليات تكون أكثر عمقًا من الكنائس، من دون العتبة ستشعر وكأنك في مخزن أدوية.
كانت صيدلية "تاكسهام" تحمل اسم "النسر". وأطلق عليها هذا الاسم الأخ الذي أسسها، والذي انتقل من الغرب إلى "مورناو" في "بافاريا" واستقر هناك مع بناته وأبنائه وأحفاده في صيدلية "الخنزير الأحمر"، لكن خليفته كان يرى أنه من الأفضل تسميتها "الأرنب" أو "القنفذ" نظرًا لأن شكلها يشبه الكشك أو متجر إلكترونيات صغير أو إذا كان الأمر متروكًا له لأسماها على أسماء طبيعة أجداده؛ صيدلية "جبال تاترا".
لا، ما كان يميز الصيدلية عن غيرها ويجعلها رمزًا لـ"تاكسهام" هو موقعها هناك في وسط المكان كثير المباني مثل المدينة؛ في وسط قطعة من الأض المغطاة بالحشائش وحقول شاسعة ممتدة بشكل لا يتناسب مع كوخ حجري، ومغطاة بنباتات وأشجار قديمة منخفضة وشجيرات، مثل بقايا سهول نباتية قديمة. قال الصيدلي بطريقة كلامه التي لا تبدو نمساوية خالصة:
- أحيانًا في الصباح حين أذهب إلى العمل أرى الدخان يتصاعد هناك من الكوخ.
كان الصيدلي يسلك الطرق نفسها ذهابًا وإيابًا؛ من المنزل المطل على النهر إلى الصيدلية الواقعة خلف السياج، وفي المساء من الصيدلية بمحاذاة سياج مدرج المطار إلى المطار نفسه، وهكذا (حتى جاء يوم انتهى فيه كل هذا). كان يذهب إما سيرًا على الأقدام أو بسيارة كبيرة - دائمًا أحدث موديل - لكن أيضًا بدراجة سوداء ثقيلة ماركة "فلاينج دوتشمان". قابلته بضع مرات بالصدفة في الطرق الزراعية فوق دراجة بخارية يتطاير تحتها الطين. بدا في الوقت ذاته متأملًا أو وكأنه عائد من رحلة صيد بري (وذات مرة رأيته في حلم يهبط أمام الصيدلية بمنطاد خاص، وترك المنطاد في قطعة الأرض المغطاة بالحشائش).
بطبيعة الحال، كان سكان "تاكسهام" يأتون إلى الصيدلي قبل أن يبحثوا عن طبيب، ربما على أمل أن يوفروا أجرة الطبيب، لكن الأقل شيوعًا كان أن يطلبوا منه المشورة والمساعدة بعد ذلك. يقول الصيدلي:
- أصبح الأطباء متخصصين أكثر. أحيانًا، أتوهم بأنني أمتلك نظرة عامة يفتقر لها الأطباء. علاوة على أن المرضى لا يخشون مني أن أقدم لهم نصيحة طبية أو أن أتدخل جراحيًّا، وأحيانًا أستطيع مساعدتهم بالفعل.
كان يمكن أن يحدث هذا، بل وحدث عن طريق حذفه لأدوية بدلًا من أن يضيف أدوية أو يستبدلها؛ لا يُحضِّر كل ما هو مكتوب في روشتة الطبيب، لكن بعض من هنا وبعض من هناك. يقول الصيدلي:
- إن عملي يعتمد بشكل ملح على الانتقاء والاستبعاد. إعطاء مساحة من الحرية.. ليس في الرفوف، ولكن في الأجساد. إعطاء مساحة وتمهيد الطريق.. وبالتأكيد أيها السادة كل شيء موجود عندي، إذا أصريتم على ذلك (عندما يحل الليل، يشبه المكان قبوًا مغلقًا بقضبان حديدية من الخارج، وبمزلاج من الداخل، ولا بد من تفجيره، حتى تستطيع الدخول).
في الحقيقة، في المكان عدد غير قليل من الأشخاص الذين يتمكن من مساعدتهم بهذه الطريقة؛ لأنهم يسمحون له بمساعدتهم. وبهذه الطريقة لم يذع صيته عبر المنطقة وصار واضحًا أن صيدلي "تاكسهام" ليس بمعالج معجزة بأي حال.
كان السكان المحليون بمجرد خروجهم من باب الصيدلية ينسون على الفور العرفان بالجميل وينسونه كذلك. على العكس من طبيب "تاكسهام" والتاجر ولاعب الكرة، لم يكن الصيدلي شخصية عامة في الشوارع والمحلات. لا أحد يتحدث عنه، لا أحد ينصح بالذهاب إليه، لا أحد يمتدحه، لا أحد يسخر منه كما كان يحدث في المسرحيات الكوميدية القديمة. من يلتقي به بالصدفة خارج مجال عمله، كان يتجاهله دون تعمد ذلك، أو إذا كان يعرفه فربما يصافحه قبل دخوله صيدليته ليشكره على شيء ما.. لكنه لا يكرر الأمر مرة ثانية.
والسبب في هذا لا يرجع فقط إلى أن الصيدلي لا يخرج أبدًا بالبالطو الأبيض، بل يرتدي بدلة وقبعة ومنديل جيب، ويسير بين المارة النادرين في "تاكسهام"، وينظر متفحصًا من أسفل إلى أعلى من سيقان الأطفال إلى مستوى قمم الأشجار وقطرات الأمطار وغبار الطريق، وبهذا يكون غير مرئي من منظور الأطفال. ولا بد أن نقول إنه لا يذهب في المساء إلى الصيدلية، ولا يتعرف بين الناس الموجودين بالخارج أبدًا على واحد من زبائنه أو مرضاه - على أقصى تقدير السيد والسيدة "سوندسو" - على العكس من الطبيب، حين يغادر عيادته يظل طبيبًا، فإن صيدلي "تاكسهام" حين يغلق الصيدلية يتوقف عن كونه صيدليًّا.
من وماذا يكون إذًا؟ لقد رأيت الأطفال ذات مرة يركضون نحوه. وفي حين أن الأطفال الذين يركضون نحو البالغين الغرباء يسرعون من خطاهم عادة أمامهم، أبطأ هؤلاء الأطفال من خطواتهم حين وصلوا إليه، ثم نظروا إليه، ثم نظروا بعيدًا، ثم أعادوا النظر إليه مجددًا.
كانت أحداث القصة تدور في فصل الصيف. الحقول المحيطة بالمطار والقرية خلف السياج قد جُزَّتُ، سرعان ما نما العشب في تلك الأماكن من جديد، ومن بعيد تخلط بينه وبين القمح، على العكس من عشب الربيع الذي لا تنمو له زهور.. تراه كلون أخضر يتحرك في اتجاه الرياح وتتخلله ممرات رمادية اللون أو العكس.
علاوة على أن تلك الفترة من العام تكون بلا ثمار تقريبًا، جُمع محصول الكرز، أو التهمته الطيور وخاصة الغربان. والتفاح لم ينضج بعد، باستثناء التفاح الأبيض، مثل تلك الأشجار تكون نادرة أكثر من أي وقت آخر.
كانت المهرجانات قد بدأت في المدينة، في الشرق، لكن في حين كان للوديان الخلفية لجبال الألب والجانب الآخر من الممرات والأنفاق وجانبي النهر والحدود- نصيبٌ من تلك المهرجانات، لم تصل المهرجانات إلى "تاكسهام" القريبة. أعمدة الإعلانات بالخارج الموجودة على حافة الحقول والسياج يكون نصفها ممتلئًا بالملصقات طوال العام على أقصى تقدير، وأعمدة الإعلانات الموجودة على مدرج المطار والبرج كانت خالية منذ فترة طويلة.
وبالنسبة للطريق الممتد جنوب "تاكسهام"، أعلن مُنجِّم - يبدو أنه ينتمي إلى تلك المناطق - في بداية العام عن زلزال في الصيف، وقد حدث هذا الزلزال بالفعل للتو بالقرب من مدينة "كيب تاون". وبناءً على كلام المنجم فمن المنتظر أن تنشب حرب في غرب "تاكسهام" قبل نهاية الصيف، حرب ستستغرق ثلاثة أيام، لكن عواقبها لا نهائية.
كان الصيدلي يستيقظ مبكرًا كالمعتاد مع أولى صيحات الغربان، وزوجته ما زالت نائمة في النصف الآخر من المنزل. كانا يعيشان معًا في المنزل نفسه، ولكنهما منفصلان منذ ما يزيد عن عشر سنوات، كل منهما في جزء خاص به. كل منهما يطرق الباب على الآخر. حتى في الحجرات المشتركة؛ مدخل المنزل، القبو والحديقة كانت توجد حوائط فصل مرئية وخفية.
وفي الأماكن التي يصعب أن توجد فيها حوائط فصل مثل المطبخ كانا يراعيان فرق التوقيت في وجودهما، وهذا ما يفعلانه منذ أن انفصلا عن بعضهما وتباعدا، حيث يعيشان حياتهما اليومية مع مراعاة فرق التوقيت. حتى وإذا استيقظت الزوجة بشكل تلقائي في موعد استيقاظه نفسه، فإنها ربما تضطر الآن إلى أن تظل مستلقية في السرير. كما أنها تضطر للبقاء داخل المنزل، حين يذهب هو إلى الحديقة. وتضطر للذهاب إلى الحديقة، طالما بقي هو داخل المنزل. وتضطر إلى الذهاب في إجازة بمفردها كما خططت غدًا، لأنه يرغب كما اعتاد كل سنة منذ فترة طويلة أن يقضي يومًا بمفرده في المنزل والحديقة في الصيف.
- لا.
قال الصيدلي:
- لا مشاكل بيننا. حياتنا سلمية تمامًا. هذا النظام نشأ دون تدخل من كلينا، ولا نلاحظه أيضًا على أقصى تقدير حين نستطيع أن نتشارك معًا في نوع من الانسجام لم نعرفه مسبقًا، ونعيش للحظات أشياء مشتركة بشكل مؤقت.
قالت زوجته:
- نعم، بشكل مؤقت. بين الباب ومفصلته، بين النافذة وكرسي الحديقة، بين الشجرة وفتحة القبو.
سألت:
- على سبيل المثال؟
الإجابة من جانبه ومن جانبها:
- دائمًا الصمت.
الإنصات المشترك لحديث الجيران، أو للناس الذين يسيرون خلف السور فوق جسر النهر؛ خاصة حين يبكي طفل في مكان ما، عندما تدوي صافرة عربة الإسعاف، عندما يرى أحدهم من حجرته إشارة الطوارئ تضيء الجبال هناك على الجانب الآخر من الحدود. عندما جَرَف الفيضان بقرة نافقة في الربيع الماضي، عند تساقط الجليد لأول مرة.
- نعم؟ حسنًا. لا أعرف.
أشرقت الشمس.. لا أثر في الحديقة لقطرات الندى بعد الليلة الجافة الدافئة. انعكست أشعتها عن شجرة التفاح؛ درنة صمغية نبتت من جذر هناك وتبدو وكأنها تضيء الآن بفعل شعاع الشمس؛ لتشبه المصباح الصغير. وترتفع طيور السنونو في السماء المعتمة كما يحدث عند الغروب. وحين يفرد أحد الطيور أجنحته عموديًّا فوق الجبال، فإنها ترسل ضوءًا من الأعلى بفعل أشعة الشمس وانعكاسها على ريشها، وكأن الطائر يلعب بضوء الصباح.
اصطدمت رأسه بلطف بواحدة من التفاح كبير الحجم التي تدلت في مستوى جبهته وكأنه اصطدم بكرة، خرج متوجهًا إلى السد فوق النهر وترك رياح الصباح ورياح الجبل تجرفه. لا أحد غيره في الشارع. والمقاعد الخشبية تحتل - كما هو معتاد في الصيف - مكانًا أكبر من الشاطئ ومجرى النهر، وتمتد بعيدًا على مرمى البصر بين الجبال الجيرية.
فكر الصيدلي في موتاه. وجاء على باله ابنه، لكنه لم يمت. لا، لقد "لفظه". أليست تلك الكلمة قاسية للغاية؟ لماذا لم يهجره فقط، يتجاهله وينساه؟
- لا، لقد لفظته.
قال:
- لقد لفظت ابني.
سبح في النهر البارد وسرت البرودة في عظامه؛ في البداية ضد التيار القوي، ثم ترك نفسه للتيار تحديدًا عند حدود النهر، حيث الحدود مع ألمانيا. شجيرات النهر مرت بسرعة كبيرة كأنها تعدو. غطس الصيدلي برأسه عميقًا تحت الماء، لدرجة أن الحصى الصغير الموجود في قاع النهر دخل في أذنه حيث اصطدم ببعضه وأصدر صوت احتكاك وقعقعة. بدا له أنه يستطيع أن يبقى تحت الماء دائمًا من دون تنفس، وأن الحياة تحت الماء صارت حياته من الآن.
ثم أجبر الصيدلي نفسه على الاتجاه إلى ضفة النهر، قبل الحافة المنحدرة بقليل. شاهد طائرة تهبط من فوق قمم الأشجار ولاحظ خلف نافذة من نوافذ الطائرة وجه طفل. دائمًا ما يرى بهذه الحدة وليس فقط بعد السباحة في النهر الجليدي. هكذا، ربما يبدو الاسم الذي أطلقه أخاه على صيدلية "تاكسهام" مبررًا.
في المنزل، غسل جسده من ماء النهر الرمادي بسبب الجير وشرب القهوة التي أعدت في أثناء السباحة، قهوة "جامايكا بلو ماونتن" وهي أفضل قهوة يستطيع الحصول عليها في تلك الناحية. لا صوت يأتي من الجناح الخاص بزوجته. حقيبة سفرها بالأسفل في مدخل المنزل وفوقها تذكرة طائرة، لكنه لم يلق نظرة عليها. قال:
- كالعادة، وقبل كل رحلة من رحلاتها تخطر ببالي فجأة صورة حقل الفراولة الذي حكت لي عنه ذات مرة، وكان المكان الذي تقضي فيه الصيف وهي طفلة.
هو نفسه كان يسافر كثيرًا في الماضي، تقريبًا في جميع أنحاء العالم، لكنه لم يعد يسافر إلى أي مكان. فهو يشعر هنا كل صباح وكأنه يسافر، أو أنه سافر قبل فترة طويلة، والرحلة تنتقل اليوم إلى محطة جديدة. يقول:
أردت البقاء هنا، لفترة أطول
فوق السد المطل على النهر، ترى الآن عبر شجيرات الحديقة أول المارة، وتلاحظهم من ملابسهم الملونة فقط يسيرون اثنين.. اثنين على الطريق الضيق خلف بعضهم (على الناحية الأخرى من الحقول في "تاكسهام" لا يوجد أحد تقريبًا في الطريق، ولا يتجه أحد إلى الحافلة) ويتحدثون بصوت مرتفع، كأنهم يعتقدون أن أصواتهم غير مسموعة.
ومن أحد الأراضي المجاورة، سمع صوت صراخ ثم بكاء طفل، وسمع الأصوات نفسها من منزل على الناحية الأخرى. أنصت واسترق السمع وكان متأكدًا من أن زوجته تقف هناك خلف الباب. أنصتا معًا حتى هدأ البكاء والنحيب على الجانبين، وتحولا إلى حديث ونداء متبادل بأصوات واضحة تتأرجح بسبب الصراخ. كما سمعا أيضًا القطار يمر على الجانب الآخر من ضفة النهر في ألمانيا. نعم، في اتجاه "باد ريشنهال".