شيوخ.. ولكن!
إن محاولات تغييب العقل الجمعي والمحافظة على أكبر (كَمْ) هائل من (الصدأ) فوق تروس ماكينة العقل البشري المصري والعربي؛ هي المحاولات المستمرة والمستترة في محتوى وفحوى بعض من يعتلون ظهور المنابر في بعض المساجد والزوايا و"دكاكين العبادة" المنتشرة في أرجاء مصرنا المحروسة بالقرى والكفور والنجوع؛ وبخاصة الزوايا الكائنة أسفل المباني والعمارات الشاهقة في المدن ــ لإعفاء أصحابها من سداد العوائد والضرائب والرسوم.. وليس ابتغاء وجه الله الكريم ــ وحرص معظمهم ــ إن لم يكن جميعهم ــ على توصيل وشرح الحديث الذي مفاده: "فإن أحسن الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم؛ وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثةٍ بدعة؛ وكل بدعةٍ ضلالة؛ وكل ضلالة في النار"! ويحاولون بهذا التأويل الإيهام بضرورة الابتعاد عن "كُل مُحدثة" أي الدعوة الصريحة إلى إيقاف عملية التفكير العقلي؛ والارتقاء به بما يتناسب مع العصر ومستجداته وعجبي!
وينتهي ـ بعض مُمتطي المنبر ـ من كلماته في الخطبة المفوَّهة العصماء بعد صلاة الجمعة أو أي صلاة، لينطلق بسيارته الفارهة المكيُّفة ذات الدفع الرباعي باهظة الثمن إلى حيث قصره المهيب؛ حيث يجاور عِلية القوم وسادتهم من رجال الأعمال والمحظيين بالمال والجاه والشهرة؛ والغريب أن البسطاء الذين تركهم توًا على "حصير المسجد أو الزاوية" يهرولون خلفه بالدعوات والتبريكات ومحاولة تقبيل أيدي هذا الذي وعدهم بأنه سيكون "الوسيط الأمين" لهم لدى الله العلي القدير؛ والرجاء والتضرع إليه بأن يمنح الفقراء والبسطاء ـ أحباب الله على حد قوله ــ الخلود في الجنة وأن يقيهم عذاب النار التي وقودها الناس والحجارة!
ولكن الأحداث تتوالى لتسقط الأقنعة من فوق وجوه المتنطعين باسم "الدين" والزاعمين بأنهم حملة مباخر "الدعوة" إلى دين الله الحنيف ــ ولكن بحسب ما يخدم أهدافهم وأطماعهم الدنيئة في الوصول إلى سدة الحكم ــ عن طريق تكوين "خلايا الشر" المؤمنة بالأفكار الداعشية المناهضة لتقدم المجتمع ونموه بغية العودة به إلى عصور الجاهلية الأولى وما قبلها؛ والقضاء على كل ما استحدثته عقول البشرية من علوم وفنون، هذا التغييب المُتعمد للأمة المصرية والعربية والإسلامية وتاريخها العريض في الحياة مذ وجدوا على ظهر البسيطة.
والمُضحك المُبكي في هذا الشأن.. هو إطلاق لقب "شيخ" على كل من تكاسل عن حلاقة شعر ذقنه؛ وأصبح من ذوي اللحى الكثيفة الشعر، وارتدى فوق جثته "الجلباب القصير" ووضع "شال العمامة" فوق رأسه الكريم؛ متشبهًا برجالات السلف الصالح من صحابة الرُّسل والأنبياء ــ كما يشيعون ــ وكأن كل فرد منهم يقول: أنا ابن آوى وطلّاع الثنايا.. متى أضع العمامة تعرفوني!! ولكن العقلاء والراشدين من قومنا يعرفونهم تمامًا ويكشفون أحاييلهم وألاعيبهم السوداء في محاولة السيطرة على العقول والأذهان من الغالبية العظمى لشعبنا الطيب المسالم.
والحمد لله قامت القيادة الوطنية ـ أخيرًا ـ بالكشف عن تلك الخلايا التي تعمل في الظلام والقبض على عناصرها التي تحتمي بعباءة ولقب "شيخ"! هذا اللقب الذي لم يحترموا قدسيته ولم يعرفوا حق قدره، بل أساءوا فهم معناه ومبناه.. فلقب "شيخ" قد استعمل واستُخدم في سياقات سوسيولوجية متباينة، تخالف السياق اللغوي المتعارف عليه، وهو كل مَن أدرك الشيخوخةَ فوق الكهل ودون الهرم؛ وليس بالضرورة أن يكون "داعية" في مجال الدين أو الفقه أو الشريعة؛ ولكن الأدعياء منهم تعلقوا بذيول اللقب وأعدُّوا أنفسهم من طبقة السادة التي تعلو فوق الطبقة الدنيا من عباد الله المخلصين بالقلوب الخاشعة المؤمنة دون غرضٍ أو مرض.
وتعالوا إلى ما يثير الضحك والسخرية ــ والتشبيه مع الفارق طبعًا ـ حين نحاول التساؤل: هل من الجائز أن يقوم "عجلاتي" أو "إسكافي" بإجراء عملية "قلب مفتوح" لإنسان ما على ظهر الأرض؟! هذا هو بعينه ما كان يقوم به هؤلاء الأدعياء أصحاب اللحى والجلابيب طوال ساعات الليل والنهار على شاشات التليفزيون وأثير الإذاعة وأعمدة صفحات الصحف.. دون وجود مدافع عن القيم والأصول السليمة في الدعوة إلى صميم الدين الحنيف، والأدهى والأمَـرْ.. هو اكتشاف أن بعضهم غير مؤهلين للقيام بتلك الدعوة الدينية أو الاجتماعية.. لأن بعض هؤلاء "يادوب.. بيفُك الخط " فكيف تركناهم يعبثون في عقول وأدمغة المصريين طوال هذا الوقت من الزمن؟
لقد آن الأوان.. لوضع كل شيء في نصابه ومكانه ومكانته الصحيحة، وإسقاط كل الفترات التي صنعت هذا "الخرف" في المجتمع المصري والعربي ومحوها من الذاكرة، وأعتقد أن انتظارنا سيطول في رحلة تغيير وتصحيح المفاهيم التي زرعها هؤلاء الأدعياء في تُربة مجتمعاتنا المصرية والعربية.. ليتبوأ العلماء مكانتهم العلمية التي يستحقونها؛ والتخلص ممن خرجوا علينا كالنبت الشيطاني وسط حقول مجتمعاتنا المسالمة الطيبة.
فهؤلاء الموجودون الآن على الساحة المصرية والعربية: يحملون لقب شيوخ.. ولكن! يقينًا ليس اسمًا على مسمى.
أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون