«الكتاب الأسود» لــ أحمد الصغير يكشف سر قوة رجال الدين فى مصر
ما زالت أقوال محمد حسين يعقوب والتي أدلي بها أمام المحكمة في قضية "خلية داعش إمبابة"٬ حديث الشارع المصري٬ حيث طرحت شهادة "يعقوب" العديد من التساؤلات حول من يسمون بــ"الدعاة" ودورهم في تخريب عقول الشباب تحت دعاوي الجهاد لنيل حور الجنة٬ وبينما يتمتع هؤلاء "الدعاة" بكل ملذات الحياة من ترف ونعيم يرجئونه لأتباعهم للآخرة بينما يحظون به هم في الحياة الدنيا٬ سواء من سيطرة علي عقول الناس أو الثروات الفاحشة التي يحصدونها أو حتى عدد الزوجات اللائي يحصلون عليهن كما في حالة "يعقوب" الذي تزوج أكثر من 22 مرة.
وفي كتابه المعنون بــ"الكتاب الأسود" والمقرر أن تشارك به دار كنوز للنشر والتوزيع٬ في معرض القاهرة الدولي للكتاب٬ يكشف مؤلفه أحمد الصغير أسباب قوة رجال الدين في مصر٬ موضحا: السمة الغالبة على رجال الدين – من وعاظ مساجد أو علماء نطالع أحاديثهم صحفيا وإعلاميا – هى الفقر الثقافى والسطحية الشديدة وضيف الأفق، يتحدثون فى مسائل كبرى لكن حديثهم قشرى دائما يتعصب لظواهر الأشياء! بالإضافة إلى ذلك وعلى عكس غالبية المصريين تغلب على رجال الدين سمة ثقل الظل..فلماذا إذن أختصهم بالحديث؟!
إن الأمر وببساطة مؤلمة أن هؤلاء قد ورثوا عقول الناس وليس لهم فى ذلك ناقة ولا جمل! فنفوذهم بالأساس وراثى لا ينبع من قدرتهم على الإقناع أو من التفرد والنبوغ العقلى إلا فيما ندر. ما يحدث أن أحدهم فى لحظةٍ يجد نفسه – بعد أن يحصل على تصريح الخطابة – وقد حصل على منبر إعلامى محاطٍ بهالة تقديس تمنحه إجازة مرور وسيطرة مجانية على العقول.
ويتابع "الصغير": يغتسل المصرى ويتوضأ ويرتدى الجلباب الأبيض ويتجه للمسجد وهو مهيأ تماما لتقبل ما سيُلقى فى عقله مهما تكن درجة تعليمه ويحرص على اصطحاب أطفاله فيمنح عقولهم تماما لذلك الصاعد إلى المنبر..إنّ تلك القوة من السيطرة والنفوذ هى قوة موروثة مهما تكن ضحالة وسطحية وفقر الوارث ثقافيا ومعلوماتيا ولغويا وأحيانا سماجة حديثه وتعبيراته!.
إن رجال الدين المعاصرين يجنون ثمار ما تركه لهم أسلافهم وتراكم عبر القرون. فسر القوة يكمن فى ذلك البناء المتراكم. لذلك تجدهم – من أكبر القامات إلى أصغر واعظ فى أى قرية مصرية – يتشنجون وتنتفخ عروقهم ويوجهون أغلظ الاتهامات ضد كل من يحاول مجرد الاقتراب من هذا الإرث لأنهم يعلمون تماما أنه سر قوتهم وسيطرتهم وانقياد الناس خلفهم.
ــ الواقعة الصادمة..!
فى نهاية شهر يناير 2020 نظم الأزهر فى مصر مؤتمرا دوليا تحت عنوان "مؤتمر الأزهر العالمى لتجديد الفكر الإسلامى". وأمام الحضور من دول العالم "الإسلامى" من العلماء والمفكرين والسياسيين ألقى رئيس جامعة القاهرة (د.الخشت) كلمته التى تجرأ فيها واقترب من ذلك البناء العتيق الذى يستمد رجال الدين قوتهم ونفوذهم السحرى منه (التراث الدينى)، وطالب بتنقيته وتجديده..
♦ثم كانت المفاجأة المدوية حين طالب الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب التعقيب. إننى أعتبر أن تعقيب فضيلته وبشكل حقيقى جدا هو كلمة تاريخية تُلخص أزمة الأمة المصرية. فهى خلاصة رؤية أكبر قامة دينية فى مصر لقضية تجديد التراث الدينى، بل وللهوية المصرية ذاتها.
لقد هاجم شيخ الأزهر كلمة رئيس جامعة القاهرة بضراوة شديدة أثارت استحسان وتصفيق غالبية الحضور من العلماء الذين اجتمعوا تحت عنوان (تجديد الفكر الإسلامى)!
لم يكن موقف شيخ الأزهر مفاجئا لمن كان يتابع مواقفه فى السنوات الأخيرة. ففى أول مرة تحدث الرئيس السيسى علنا عن الحاجة لتجديد الخطاب الدينى وبعدها بأيام قليلة استمعتُ فى التاسعة والنصف صباحا لإذاعة القرآن الكريم والتى كانت تحتفى وتحتفل بذكرى تأسيسها. كان اللقاء مع فضيلة الإمام الأكبر الشيخ الطيب وقد سأله المذيع سؤالا مباشرا (عما يتردد هذه الأيام من مطالبات بتجديد الخطاب الدينى ورؤية فضيلته لتلك القضية).
جاء رد الشيخ واضحا صريحا حاسما. ما يجب أن يُجدد هو الوعاء الذى يُقدم فيه هذا الخطاب أى شكل تقديم التراث الدينى أما مضمونه فهو لا يحتاج إلى تجديد، ولقد كان العلماء أنفسهم قديما يجددونه أولا بأول..فحين نتحدث عن التجديد يجب أن نتحدث عن الشكل دون المضمون!
هذه هى الرؤية الرسمية للمؤسسة الدينية الأكبر فى مصر التى يطيب للجميع تقديمها على أنها (منبر الوسطية والاعتدال) و(منارة الإسلام الوسطى)!
ــ الدور التاريخى للأزهر ومسؤليته عن قرون الظلام!
ويوضح "الصغير": فى رده على رئيس جامعة القاهرة ومما ورد من عباراته نصا قال الإمام الأكبر..(كيف كان العالم الإسلامى يعيش قبل الحملة الفرنسية؟ وما الذى كان يسيره؟ أليست أحكام الشريعة وأليس هذا التراث؟!)
لا أدرى على وجه التحديد هل حين قال فضيلته هذه العبارات كان يدرك بشكل معلوماتى كامل ما تعنيه عباراته وما يمكنها أن تثيره من أفكار وما تفتحه من أبواب وتوجهه من اتهامات حقيقية ضد الأزهر أم كان لا يدرك؟
إن عبارات الشيخ تلك تلقى بحجر فى البركة الراكدة وتقودنا إلى حتمية مواجهة ما يردده شيوخ الأزهر وكأنه مسلماتٌ كونية وحقائق جغرافية لا تقبل مجرد التفكير فى نقدها أو التجرؤ فى الشك أو التشكيك بها. مثل اليقين الكامل بالدور التنويرى العظيم للأزهر فى مصر – ولن أتحدث عن غير مصر – قبل الحملة الفرنسية..
لكننى الآن – وبعد حديث فضيلته – أجدنى مضطرا للقول بحتمية المواجهة ووجوب التجرؤ وليس مجرد الاقتراب مما تم اعتباره مسلمات، بل والتشكيك بها والقول بضد هذا اليقين المصطنع! فأنا أقول بأن الدور التعليمى الذى قام به الأزهر لقرون طويلة قبل الحملة الفرنسية كان أحد الأسباب الكبرى – إن لم يكن السبب الأعظم – فى إظلام مصر حضاريا وانحطاطها علميا. لقد كان دورا تعليميا..هذه حقيقة، لكنه أبدا لم يكن دورا تنويريا، بل كان دورا مماثلا ومطابقا لما قامت به الكنائس فى أوروبا فى العصور الوسطى.
ورغم أن أوروبا قد هربت من ظلام العصور الوسطى مبكرا عبر عوامل النهضة والإصلاح، إلا أن الأزهر كان سببا رئيسيا لاستمرار العصور الوسطى فى مصر حتى القرن التاسع عشر مع بدء مشروع محمد على.
وما فعله محمد على من تجنب الصدام مع جمود الأزهر خلق ظاهرة حضارية غريبة فى مصر استمرت منذ عصره. وهى استمرار ثقافة وأسلوب تعليم العصور الوسطى طوال القرن التاسع عشر جنبا إلى جنب مع التعليم الحديث وترك الاختيار للناس الذين كانوا فى غالبيتهم واقعين بالفعل تحت تأثير الجمود الدينى. وكانت الدوافع الأولى لاتجاه الناس للتعليم الحديث هو الطموح للوظائف التى أصبح خريجو مدارس التعليم الحديث يحصلون عليها كما قال على مبارك باشا ذلك صراحة.
ففى حوار بين على مبارك فى صباه وهو يحاور أباه الذى يحاول إقناعه بالذهاب إلى الأزهر كما يفعل أبناء الأثرياء من الناس وأوساطهم فى القرى..يقول على مبارك لأبيه: "وهل التعليم فى الأزهر يؤدى إلى أن يكون الإنسان حاكما؟ ومن خرج من الأزهر حاكما؟ وإن الحكام إنما يؤخذون من المدارس!"
لقد بدأت المأساة قبل الأزهر بقرون وبمجرد تمام الغزو العربى لمصر والشروع فى تنظيم شؤون الحكم وإهمال ما كان قائما بالفعل فى الإسكندرية من مدارس علمية وهروب علمائها. ثم قيام الغزاة بنشر ثقافتهم القائمة على الكلام وعلوم اللغة العربية بشكل حتمى مع تنفيذ سياسة الترانسفير القبلى وخوف الحكام الجدد من إتاحة الفرصة للمصريين لتملك أى سبب من أسباب القوة.
ويشدد "الصغير": بعد مرور قرنين بعد الغزو العسكرى كانت صورة التعليم فى مصر – كإحدى ولايات الإمبراطورية الإسلامية – تتضح، وهى الاستغراق فى علوم اللغة والدين. صاحب ذلك تغير المفاهيم الحاكمة للمصريين بعد انسحاقهم سياسيا وتعرضهم للمظالم التى قمتُ بعرض بعضها. من تلك المفاهيم مفهوم كلمة (عالم) التى أصبح يقصد بها (عالم الدين) أو دارس الفقه أو المتبحر فى علوم اللغة العربية.
كان ذلك الشكل الجديد من التعليم يمثل تقدما وتطورا للشخصية العربية الغازية التى لم ترَ فى غياب العلوم الأخرى أى تأخر أو تخلف. لأن الشكل القائم فاق ما كان قائما بالفعل فى بيئتهم السابقة. لكنه مثل لمصر انحدارا وانحطاطا كبيرا مقارنة بما كانت عليه.