الأدب فضلوه على التريند!
ا
مخطئ من يظن أن ما يجري الآن على الساحة الفنية هو إبن وقته، أو نتاج عصره، أو وليد لحظته ..
فالموضوع قديم ومتأصل، ضارب بجذوره إلى ما قبل جيلنا بجيل واحد على الأقل، فلا تدهش يا مولانا، من تصريح للفنانة فلانة عن الفنان فلان، أو رد فلان على علان، أو تعليق ترتان على مشكلة فلان مع علان.
وما دمت قد اخترت لنفسك إشغال نفسك بنفسك بما لا ينفعها، واكتفيت بالجلوس على مقاعد المتفرجين المشاركين للجميع في كل ما يقولونه أو يفعلونه " ولو بالمتابعة"، وصرت ترسًا أساسيًا، بل أنت الترس الأهم في ماكينة صنع ونجاح وتربح كل أولئك الذين ذكرناهم، فلا تنزعج ولا تتضايق!
فيما يخص التصريحات والردود، الموضوع قديم مثلما قلت لك، سبق وأن استخدمه القدامي تارة للدعاية، وتارة للنكاية، وكذا يستخدمه بعض المعاصرين للفت الانتباه عادة، وللتذكير بالوجود غالبًا، ولاعتلاء " التريند" دائمًا.
وسأذكر لك الآن موقفًا واحدًا، كفيلًا بالدلالة التامة على ما أقول...
وقد جرت أحداثه قبل ما يربو على أربعين عامًا كاملة، بطله مطرب مشهور، أراد أن يصيد عصفورين بحجر واحد، وأظنه قد نجح، فقد شهد له كل من عاصروه بأنه" الله يرحمه" كان شخصًا شديد الذكاء!
في أواسط سبعينيات القرن الماضي، تلقي الفنان سمير صبري مقدم برنامج "النادي الدولي" اتصالًا من صديقه المطرب عبدالحليم حافظ من العاصمة البريطانية لندن، حيث أخبره الأخير عن قرب عودته للقاهرة، وطلب إليه استضافته في الحلقة القادمة من البرنامج بصحبة الفنانة نيللي، على أن يحضر له فنجانًا من القهوة، لم يعرف سمير وقتها سببًا لطلبات عبدالحليم، ولكنه وافق علي أية حال!
أتت نيللي، وأحضروا له الفنجان، وتبين لسمير فيما بعد، أن عبدالحليم كان قد طلب نيللي خصيصًا "ليغيظ" بها سعاد حسني (آدي العصفور الأول) وكانت العلاقة بينهما قد توترت كثيرًا في تلك الفترة، فأراد حليم إرسال رسالة مكايدة لسعاد بظهور الجميلة نيللي إلى جواره على الشاشة، وقال اإنها ستشاركه بطولة فيلمه القادم، وأما عن الفنجان، فكان بغرض الدعاية لأغنيته الجديدة، لأنه قد أعطاه لنيللي أثناء الحوار ثم فاجأهم جميعًا بأن قال، جلست والخوف بعينيها، تتأمل فنجاني المقلوب .. ده نزار قباني، وقارئة الفنجان، ودي غنوتي اللي جاية بتاعة شم النسيم (العصفور التاني) كان هذا قبل ٤٠ عامًا كاملة، أي قبل عصر النت، والهاشتاجات والتريند والملايين المملينة والسيارات الفارهة، والعقول المجوفة الفارغة، صحيح أن الأساليب قد اختلفت كثيرًا أو تطورت، ولكن ظلت الأهداف واحدة، لم تخرج عن الدعاية، أو المكايدة والنكاية، أو إيصال الرسائل، أو ركوب التريند، أراد عبدالحليم زمان إغاظة سعاد حسني ووجد الوسيلة المناسبة فاستغلها، فهل اختلف الحال الآن؟، أراد أيضًا ( اعتلاء تريند زمنه) باجتذاب أكبر عدد من الجماهير لحضور حفلته القادمة، وسعى لازدياد نسبة المشاهدة، من خلال الإعلان عنها عبر الوسيلة الأقوى أيامها، فما الذي تغير الآن أو اختلف أو تبدل؟!
جلسنا جميعًا فى مقاعد المتفرجين، المستائين المتأففين حينًا، والمنتقدين المستهجنين أحيانًا، والمعلقين الساخرين، والمساهمين الدائمين في ازدياد أعداد مشاهديهم، وكل ما يترتب عليه بعدها، من امتلاء ليس فقط لخزائنهم، وأحزمة بطونهم، وحمامات السباحة في قصورهم بالأموال، بل وإمتلاء نفوس بعضهم بالكبر والغرور والتعالي والصلف والخيلاء.
لماذا لا نقاطع المتجاوزين منهم؟ لماذا لا نتجاهلهم؟، لماذا لا ننحيهم جانبًا خارج إطار اهتمامنا، لماذا نسهم دون أن ندري في إصابة بعضهم بتضخم الأنا الداخلية، والأرصدة المالية، سواء وضعوها كلها في البنوك، أو وضعوا نصفها في البنك ونصفها الآخر في البيت؟!
لنجرب ونقاطع المتجاوزين ولو مؤقتًا، ونستمر في الإشادة بالجادين المجدين المجيدين، وقد بدأت بنفسي، وعثرت على ضالتي، في لقاء تليفزيوني قديم شاهدته بالأمس لعميد الأدب العربي طه حسين بصحبة كوكبة من الأدباء والمفكرين، كان الحوار ماتعًا وممتعًا، مفيدًا وقيمًا، تأكد لي من خلاله أن " الأدب فضلوه على التريند "!
حفظ الله بلدنا، وأعان قائدنا وزعيمنا.