حتى لا نحرٌث فى البحر!
ثلاث سنوات عجاف من العناء والشقاء، دفعها الشعب المصرى ثمناً لحصوله على حريته، وما زال يدفع المزيد من هذا الثمن، مُكابدةً منه على لقمة العيش، ونقصاً فى أمنه، وفوضى تعم شوارعه، يتطلع إلى اللحظة التى ينعم فيها بثمار حقيقية لما أقدم عليه من ثورتين، ضحى خلالهما بدماء ذكية، تروى شجرة الحرية، وتمهد الطريق للديمقراطية، وتبشر بأيام من العيش الكريم والعدالة الاجتماعية.. ينتظر خارطة المستقبل، باعتبارها طوق نجاته من واقعه الأليم، وباب الرحمة التى سيدفع به إلى جنة وطنه الموعودة، جزاءً له على صبره واحتمال ما عاناه من العذاب والمحن، عبر السنوات العجاف التى يتمنى أن تنتهى إلى غير رجعة.
أمس.. ودع العالم سنة كبيسة بأحداثها الجسام، منها ما حمل لنا الفجيعة، ومنها ما ظفرنا فيه بالانتصار لإرادتنا الشعبية.. واستقبلت مصر اليوم عاماً جديداً بأحلام عظيمة للأمة، وأمانى بسيطة للفرد المواطن، غير عسيرة على التحقق، لكنها تحتاج إرادة الفعل، من القيادة والقاعدة معاً، من الحاكم قبل المحكوم، وغير ذلك، سيختل الميزان وسيظل الحال المعّوج على اعوجاجه، لأننا لم نغير منهجنا فى التفكير، ولم تتبدل سلوكيات البشر، وتلك مسألة تحتاج إلى تخطيط وتنظيم وتعويد عليها، لأن السلوك البشرى من أصعب المعطيات التى يمكن تغييرها فى مدى قصير، بل ربما احتاجت زمناً، أرجو ألا يطول.
يقولون إذا كان رب البيت بالدف ضارباً، فشيمة أهل البيت الرقص.. لذلك فإنه إن لم ينصلح حال الحكومة وإن لم يأتينا الحاكم الرشيد، فإن صلاح الحال فى مصر سيكون من المحال، لأن الناس على دين ملوكها، إلى أن تزهد فى هذه الملوك.. وعليه، فإن التغيير لابد أن يبدأ من الأعلى، حتى تنتقل العدوى إلى الأسفل، تماماً كتهاوى جبل الثلج، يبدأ دائماً من قمته، فيغير من ملامح قاعدته، وتلك مسألة لابد أن تؤمن بها قيادة مصر الحالية والقادمة، مع الأخذ فى الاعتبار أن خارطة المستقبل لا تقتصر تفاصيلها على استفتاء على الدستور الجديد وانتخابات برلمانية وأخرى رئاسية، بل إن هذه الخارطة تمتد لتشمل تفاصيل عديدة فى المجتمع المصرى، يعتنقها الحكام والمحكومون، كما قلت، وإلا أصبحنا كمن يحرث فى البحر!.
لكى ينعم المواطن بثمار ثورتيه، لابد أن يجد ترجمة حقيقية لهاتين الثورتين، بتفاصيل جديدة تغير من نمط حياته المعتادة منذ سنوات.. صحيح أنه لكى ينعم بهذه الثمار فإن عليه أن يعمل ويدع السلبية والأنانية جانباً، وألا يتواكل على «أمه» الحكومة المسئولة عن كل شىء يخصه، بل أن تسبق يداه أيادى الحكومة، وهذا يتطلب سماع هذا المواطن وعداً من الحكومة بالعدالة فى الحقوق قبل أن تطالبه بالواجبات، شعوره بالأمان وبقوة تطبيق القانون على الجميع دون استثناء، يقينه أن كدّه وسهره الليالى لن يضيعا هدراً فى زحمة الواسطة والمحسوبية، فى التعيين والترقى وشغل المناصب القيادية.. وهذا بدوره يتطلب أن يكون هناك من يستطيع إدارة دفة العمل عن علم يؤهله لتقييم المبذول من فريق العمل، ومن ثم إثابة المجيد ومعاقبة المقصر، أن نزرع اليقين فى نفوس الناس بأن الحقوق لا تمنح، ولكنها تُكتسب بأداء الواجبات، وعلى أكمل وجه.. وليتسنى لنا ذلك، علينا أن نعيد تركيبة الإدارة فى المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، بحيث نُصّعد أهل الكفاءة وننحى عنها أهل الثقة.. فإذا كنا قد كرهنا من الإخوان تمكينهم للأهل والعشيرة، فأحرى بنا أن نسلك الدرب المعاكس، بوجود معايير حقيقية وأدوات نزيهة وموضوعية لقياس كفاءة أداء العاملين داخل كل هيئة أو مؤسسة، بعيداً عن تقارير رقابية وأخرى أمنية، ربما أضاعت كفاءات معتبرة كان يمكنها أن تثرى مسيرة العمل وتدفع به للأعلى، لأن هذه التقارير ربما جاءت نتيجة لمعلومات سماعية، أو ربما نتيجة لتفسير هذه المعلومات على غير مُرادها. لعله من الضرورى، والحال هكذا، ورغبة الجميع أكيدة فى أن يُشرق العام الجديد على مصر جديدة، أن تنطوى صفحة عُزلة جهات الحكومة عن بعضها البعض وأن تتصل جزرها المنعزلة بما يعود على المواطن بالنفع.. أن تقوم الحكومة على دراسة أولويات مشروعاتها الخدمية ووضع الأطر التنفيذية لها، والأهم، التأكد من تحقيقها لأهدافها المرجوة منها، عبر إدارات فاهمة واعية، قادرة على التقييم العلمى، موضوعية فى العرض وصادقة فى الرأى، لا تنحاز إلا لصالح الوطن والمواطن.
ديوان مظالم حقيقى، ضرورة حتمية، بشرط أن يملك أدوات العمل الحقيقية، ويكون صاحب سيادة منفصلة عن كل صاحب سلطة من الوزراء التنفيذيين، يبحث فى شكاوى الناس، بموضوعية وتجرد، ولا يخشى فى الحق لومة لائم، لا يهمه إلا تحقيق العدالة ورد الظلم عن المظلومين.. وبدون ذلك، سنكون كمن حرث فى البحر بالفعل.. وللحديث بقية