أيام الفرقان.. من بدر للعاشر من رمضان
خرج المسلمون من مكة بلا مال ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا، تركوا كل ما يملكون قاصدين دين ربهم، وهناك في المدينة بدأوا حياتهم الجديدة بالكفاح والتعب، بعدما كانوا سادة في بلدهم التى فارقوها فرارا من التضييق عليهم في عقيدتهم درجة العذاب الأليم.
وهناك في المدينة تطايرت الأنباء عن قافلة لقريش بأموال المسلمين الذين تركوها في مكة، هذه القافلة كانت أكبر قوافل قريش يشرف عليها أحد زعماء قريش أبوسفيان بن حرب، وسط حراسة مشددة، وكان أبوسفيان شديد الدهاء، فعلم بما ينوى عليه المسلمون، فاتخذ طريقا مخالفة لما كان يرتقبه فيه المسلمون، ورغم النجاة لكن زهوة الطغيان كانت مسيطرة على ذهنه، فأرسل إلى قريش أن يقابلوه بجيش ليقاتلوا محمدا والذين آمنوا به، ويكتبوا بأيديهم نهاية ذلك الدين الجديد، ويعزفوا على جثث المسلمين أغانيهم، ويشربوا ويلهوا ابتهاجا بقوتهم التى تسمع بها العرب فيزدادوا لهم هيبة وخشية.
وأرادت قريش أمرا وأراد الله أمرا، والله فعال لما يريد، فكان "يوم الفرقان"، اليوم الذي دارت فيه غزوة بدر يوم 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة، حيث تبين في وضوح وجلاء كيف جرت وقائع تلك الغزوة وظهرت نتائجها في ظل رعاية الله سبحانه وتعالى للمسلمين، حتى غدا "يوم الفرقان" يكون حجر الزاوية في بناء الدولة الإسلامية، وممارستها لكافة أعمال السيادة في جميع شئونها الخارجية والداخلية.
خرج الرسول الكريم على رأس رجال الدولة الإسلامية الوليدة لترصد قافلة قريش، وذلك على حين استطاع أبوسفيان تجنب مواجهة المسلمين، كما أرسل إلى أهل مكة يستنفرهم لإنقاذ قافلتهم التجارية، وفي الوقت الذي عادت فيه قافلة أبي سفيان إلى مكة كانت قريش قد خرجت لإنقاذها، ووقفت عند "بدر"؛ حيث بلغها نبأ نجاة قافلتهم، وأنهم أمام قوة المسلمين القليلة العدد، ومن ثم بات التقاء الجمعين بعد هروب قافلة أبي سفيان هو التقاء التأكيد على سيادة الدولة الإسلامية على قوى الكفر والبغي والطغيان.
وجاء اختيار مكان المعركة بتوفيق الله سبحانه وتعالى وليس بإرادة أحد، ولو كان هذا اللقاء بإرادتهم وأمرهم لاختلفوا في المكان والزمان، ولكن الله سبحانه وتعالى، حدد الميقات فجعله في هذا الزمان، وحدد المكان فكان حسبما أراد سبحانه، إنه تحديد رباني دقيق لا يتقدم عنه فريق ولا يتأخر آخر، ولو اتفق الفريقان على ذلك الموعد لما جاء بتلك الدقة وهذه الكيفية.
كان الإيمان راسخا في قلوب المؤمنين بعدل قضيتهم، فتمسكوا بحقهم الذي دافعوا عنه ونافحوا طيلة سنين عديدة في مكة، لكنهم أُرغموا على الفرار بعقيدتهم تاركين أموالهم وديارهم في مكة، ولم يتورع كفار قريش في أن يعبثوا بتلك الأموال والمساكن، لذا كان لا بد من رد قوي يكشف لقريش ومن حولها أن المسلمين لن يفرطوا في حقوقهم، وأنهم ماضون لاسترداد تلك الحقوق مهما طال الزمان أو قصر، فالحقوق لا تسقط بالتقادم، وعلى قدر انتصار الإنسان لحقه يأتيه المدد الإلهي والعون الرباني.
وبدأ يوم الفرقان بين فئتين، فئة قليلة العدد قوية الإيمان، وفئة كثيرة العدد، مملوءة بالغرور والكبر، جاءوا من كل حدب وصوب يدقون طبول الحرب للقضاء على الأمة الوليدة، أجمعوا أمرهم لمحو اسم أمة الإسلام من الوجود البشري حتى يتفاخروا بذلك بين العرب، ويكتسبوا مهابة بين وفود الحجيج، ولم يضعوا في حساباتهم أن الله قدير وأنه غالب ولا راد لأمره.
عندما استرجع تلك الأحداث بذهني أجدني متذكرا ما جرى في حرب أكتوبر العاشر من رمضان عام 1973م عندما التقى الجمعان الجيش المصري خير أجناد الله في الأرض مع الفئة الباغية الطاغية من الجيش الإسرائيلي الذى أعلن أنه لن يهزم من أي جيش في الأرض مستقويًا بالمدد الذي كان يسانده وقتها من قوى الأرض، بينما كان خير أجناد الله في الأرض يستمدون القوة والعون والسند والمدد من قوة القوة، ومصدر العطاء والمنع، الذي يقول للشيء كن فيكون وعندما صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما عاهدوا وطنهم عليه رافعين شعار: النصر أو الشهادة ، لذلك أصدقهم الله بالنصر المبين، النصر الذى أذهل الأكاديميات العسكرية في العالم، حيث أزال جند مصر أعتى حصون العالم خط بارليف، وكانت صيحات التكبير كافية لبث الرعب في قلوب إسرائيل ومن وراء إسرائيل، وفي 6 ساعات ارتفعت رايات النصر خفاقة، وكان يوما مجيدا اختارت له العسكرية المصرية اسم "يوم بدر" تيمنًا بالعزم والعزيمة التى كانت عند الأوائل في يوم بدر، وتيمنا بالدعم السماوي لهم كما حدث في يوم بدر، ويروى الأبطال الذين شاركوا في تلك المعركة قصصًا أقرب للأساطير، لكنه الواقع الذي شاهدوه بأعينهم، فما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، ورمي الله صائب لا محالة، وسهام الله نافذة، وتحقق النصر على أيدي جنود مصر، وكتب الأبطال يوما جديدا من أيام الفرقان، ولا تزال دماء الشهداء في وقتنا الحالي تكتب أيامًا من الفرقان الخالد في محاربتهم للإرهاب الأسود وداعميه، يحمون بتلك الدماء الطاهرة الأعراض والأموال، ومستقبلا كاملا لأمة اختصها الله بأن تكون محور دائرة منطقتها، واصطفاها بالنور والتجلي على رمالها الطاهرة، وجعلها مأوى وملاذ الأنبياء والأولياء.
وصدق والدي الشيخ محمود أبوهاشم حينما زار خط بارليف فأنشد قائلا:
وظنوا أن الحصن يمنع نصرنا .. وأنهم بالحصن أقوى وأقدر
لكن اعتصمنا بالله ربنا .. ومن يعتصم بالله فالله أكبر
بقلم الأستاذ الدكتور: محمد أبوهاشم
عضو مجمع البحوث الإسلامية وأمين اللجنة الدينية بمجلس النواب