ولا يمكن لمن تابع المسلسل أن ينسي الأب "كامل سويلم"٬ والذي جسده محمود مرسي٬ في حواره مع مصباح وهو يحاول إقناعه بهدوء ومنطق عقلاني عن الإسلام المصري الذي لم يكن يوما بجلباب أبيض قصير
في ذكراه.. محمود مرسي عازف بارع نادر الموهبة في عصر النشاز والتخبط
فى مطلع التسعينيات كانت العمليات الإرهابية تتصاعد وكان للفنان محمود مرسي، والذي تحل اليوم الذكري الــ17 لرحيله عن عالمنا، كلمته في مسلسل “العائلة” والكل لا حديث له إلا عن عذاب القبر وفتاوى تحريم الخيار والموز والملوخية ولا يمكن لمن تابع المسلسل أن ينسي الأب "كامل سويلم"، والذي جسده محمود مرسي٬ في حواره مع مصباح وهو يحاول إقناعه بهدوء ومنطق عقلاني عن الإسلام المصري الذي لم يكن يوما بجلباب أبيض قصير، فالجلباب الذي يرتديه الفلاح المصري أكثر حشمة وحفظا للعورة من ذاك الخليجي أو الأفغاني، الذي جاء به العائدون من الخليج بأفكارهم الوهابية المتطرفة الشاذة أو أفغانستان، حيث خدعة الجهاد في سبيل الله.
وعن الفنان محمود مرسي ومواقفه الوطنية يقول الناقد مصطفي بيومي: محمود مرسي مثقف وطني من طراز فريد، وفنان محترم ملتزم يعي معنى ورسالة أن يكون فنانا يسهم في تشكيل رؤى وأفكار أجيال تتأثر به وقد تقلده وتحتذيه. هيهات هيهات أن تجد في رحلته دورا مبتذلا أو عملا مسيئا مشينا. يكتب قبل موته نعيا تتصدره أسماء أصدقاء العمر، فهم الأقرب إليه من الأهل وأفراد الأسرة. لا يُفرضون عليه برابطة الدم والميراث الذي لا حيلة فيه، لكنه الاختيار الحر والاستمرار عن قناعة والاندماج الذي يضفي على الحياة معنى ورونقا. أغلب الظن أن أحدا لم يفعلها من قبله، وإن تكرر الأمر له يكون بالأثر نفسه، فله فضل السبق والريادة.
تبدأ رحلة القدير محمود مرسي "1923-2004" مع التمثيل وهو في منتصف الثلاثينيات من عمره، ويقدم وجوها للشر تتجاوز الاعتماد المباشر الفج على الملامح الخارجية والآليات التقليدية في الأداء، وثيقة الصلة بالتجهم والإيحاء بالقدرة على العنف والأذى، في ادعاء مفتعل يليق بمن يتصورون لفرط سذاجتهم أن الشرير لا بد أن يكون قبيحا. لا شيء من هذا عند محمود مرسي، صاحب الوجه الجميل والقوام الرشيق والأناقة اللافتة والثبات الانفعالي والتعبير المحسوب. إنه يعايش الشخصية بعمق ويدرس أبعادها، ويجسّد الشر على طريقته الفريدة التي تختلف من فيلم لآخر: الزوج المزيف المخادع في "الليلة الأخيرة"، رجل الأمن الشرس الصارم حاد الذكاء في "أمير الدهاء"، المأمور السادي الذي يحكم السجن بقبضة حديدية في "ليل وقضبان"، زعيم العصابة المستبد الطاغية في "شيء من الخوف".
ويوضح مصطفى بيومي: لا يكرر محمود مرسي نفسه في أي من أفلامه هذه، ولا تغيب قدرته المذهلة على الإقناع عندما يقدم شخصيات مغايرة تماما، كما هو الحال في "أغنية على الممر"، حيث الشاويش محمد، الفلاح الأصيل العنيد الذي لا يغادر الحقل إلا لاحتراف حياة الجندية، محتفظا بسمات العالمين المتعارضين، أما عن دوريه في "زوجتي والكلب" و"الجسر" فإنهما ينهضان دليلا عمليا على براعة غير مسبوقة في الوعي والإدراك بما يعتمل في الأعماق من صراعات ومفارقات.
مع الانهيار العظيم منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، يبتعد محمود مرسي عن السينما ويزداد اقترابا من الدراما التليفزيونية. يتوهج في تجسيد شخصية الصحفي عبد الهادي النجار في "زينب والعرش"، رائعة الروائي الكبير فتحي غانم، ومع كتابات أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد يصل إلى ذروة الإبداع. رائع في "عصفور النار"، وأكثر روعة في "سفر الأحلام" و"العائلة" و"رحلة السيد أبو العلا البشري"، حيث الشخصية ذات النزعة المثالية المتطرفة: الإيمان بالوطن، حب الناس، الاعتزاز بالكرامة، العداء الأصيل للابتذال والسوقية وغياب القيم. ما أكثر المشتركات بين محمود مرسي والبشري، وما أعظم الفنان القدير وهو يعبر بكل ذرة في جسده وروحه عن عصر الانهيار والضياع.
ويستطرد بيومي: لا متسع في الزمن الرديء لأمثال البشري، وضرورات الحياة تفرض على وكيل أول الوزارة في "حد السيف" أن يعمل عازفا للقانون في فرقة سوسو بلابل، لكنه يبقى محترما لأنه يوقن بسمو الرسالة التي يؤديها، ويجد في الوحدة ملاذا ينأى به عن التورط فيما لا يرضيه.
محمود مرسي والموظف الكبير طلعت عبد الحميد يدفعان ثمنا فادحا للتمسك بالاحترام في زمن الراقصة سوسو؛ الزمن الذي لا يصح فيه الصحيح ولا يصح أن يصح، ويسود كل رديء تافه منحط مبتذل. لا يملك المشاهد إلا أن يقول لنفسه مواسيا: إنه عازف بارع نادر الموهبة في عصر النشاز والتخبط.النعي الاستثنائي الذي يكتبه محمود مرسي لنفسه يليق به، فهكذا تكون النهاية التي تتوج حياة المبدع النبيل، الموهوب الذي لا يجود الزمان بمثله إلا قليلا قليلا.