حفيدة الإمام.. التراويح فى رحاب «نفيسة العلم»: «نظرة ومدد يا ست»
عشق المصريون أهل بيت رسول الله، احتفوا بهم وارتبطوا بمقاماتهم وأضرحتهم، تمنوا قربهم وتأصلت بينهم الصلات بعد قدومهم إلى مصر، فكانوا يخرجون لاستقبالهم، ويستقون منهم العلم والإيمان، ويَحولون دون عودتهم إلى مكة أو المدينة بكل السبل، حتى تظل بركاتهم حاضرة بأرض المحروسة لا تفارقها.
وفى رمضان من كل عام يذهبون لإقامة صلاة التراويح فى مساجدهم، وزيارة مقاماتهم، ومن بين هذه المساجد الشهيرة مسجد السيدة نفيسة بالمنطقة التى تحمل اسمها، فكان لها تاريخ طويل من الحب والتعلق بينها وبين المسلمين الأوائل على أرض مصر.
وبعد عام من الانقطاع بين السيدة نفيسة ومحبيها فى رمضان الماضى، بسبب انتشار فيروس كورونا، عادت الحياة إلى المسجد، حيث حضر المصلون بكثافة إلى مسجد السيدة نفيسة، من أجل الاستمتاع بصلاة التراويح فى رحابه، والتماس الأجواء الروحانية هناك.
- الضريح مغلق منعًا لنقل عدوى «كورونا».. وتقسيم المصلّين إلى جزءين
استقبل المسجد رواده بتغييرات عديدة ما بين ممرات مخصصة لدخول المصلين وتخصيص مساحات بعينها من أجل الصلاة، فقد أراد القائمون عليه أن يحافظوا على الإجراءات الاحترازية المفروضة عليهم كباقى المساجد، ولهذا كان أول ما فكروا فيه هو إغلاق ضريح السيدة نفيسة حتى تقل أعداد الوافدين لزيارتها.
فلن تفلح محاولاتهم لمنع محبى السيدة من لمس ضريحها بأيديهم، وستتكرر هذه اللمسات من آلاف الأيادى الممتدة إليها قبل وبعد كل صلاة، وهو ما يزيد من خطورة انتشار فيروس كورونا المستجد بين المصلين، فكان من الأفضل إغلاقه نهائيًا ومنع دخول المصلين إليه.
بعض العاشقين لم تسمح لهم قلوبهم بمغادرة المكان قبل إلقاء التحية والسلام على صاحبة المسجد والمقام، فاستأذنوا عمال المسجد فى إلقاء التحية العابرة وقراءة الفاتحة بسرعة خاطفة بعد صلاة التراويح، فما كان من العمال إلا أن سمحوا لهم بالوقوف فقط على بابها، وقراءة الفاتحة والدعاء بما يريدون، ولكن دون الدخول إلى الضريح أو لمسه بأيديهم، وكم تمنوا هذا، ولكن منعهم الخوف على حياتهم.
ولجأ القائمون على المسجد إلى حيلة أخرى للحفاظ على أرواح المصلين وسلامتهم، فقسموا الصلاة بين ساحة المسجد الداخلية، والساحة الخارجية، وحينما امتلأ المسجد بالداخل أغلقوا الأبواب سريعًا على المصلين بالداخل، وطلبوا من البقية الصلاة فى الهواء الطلق بالساحة الخارجية.
ولمزيد من التنظيم ولضمان التباعد الجسدى بين المصلين، وضِعت علامات على الأرض بالساحة الخارجية حتى يضع المصلون سجاجيد الصلاة، حيث يشار إليهم، فيضمنون بذلك الحفاظ على الإجراءات الاحترازية داخل وخارج المسجد.
ووقف العاملون فى إذاعة القرآن الكريم فى رحاب السيدة نفيسة ينقلون الصلاة بالبث المباشر إلى مستمعى الإذاعة حتى يعيشوا معهم تلك الأجواء الإيمانية، وهم فى منازلهم، إذا منعتهم الظروف من القدوم إلى مسجدهم المفضل.
- اختفاء السيدات والأطفال
لم يحصل مسجد السيدة نفيسة على إذن بإعادة افتتاح مصلى السيدات حتى الآن، فلم تشهد صلاة التراويح وجود السيدات ليعمرن أماكنهن فى المسجد كما اعتدن فى رمضان من كل عام، وكباقى المساجد تقلص عدد الأطفال المصاحبين لآبائهم وأمهاتهم وقت الصلاة، إذ جرت عادة المصلين هذا العام أن يتركوا أبناءهم فى المنازل خوفًا عليهم.
وكانت وزارة الأوقاف قد سمحت للسيدات بالذهاب إلى صلاة التراويح، ولكنها لم تعد افتتاح كل المساجد، بل اقتصر الأمر على مساجد قليلة فى كل منطقة، وبقى باقى المساجد يمنع دخول النساء منذ الإغلاق الأول للمساجد بشكل عام بعد انتشار فيروس كورونا المستجد فى العام الماضى.
البائعون يطوفون المسجد طلبًا للرزق
لا تخلو المنطقة المحيطة بأى مسجد من مساجد أهل بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الباعة الجائلين الباحثين عن الرزق الحلال، فيطوفون على زوار المسجد ويفتشون بينهم عن شخص يمكنه شراء بضاعتهم، حتى يعودوا إلى بيوتهم آخر الليل وهم آمنون على طعامهم وطعام أبنائهم.
ويطلق البائعون النداءات المتوالية على بضاعتهم، وأعينهم لا تفارق المسجد، وكأنهم يطلبون من صاحبته أن تدعو لهم بالكثير من الزبائن هذه الليلة، ويؤمنون بأن السعى على الرزق حول مساجد أهل البيت يجعل فى أرزاقهم وأموالهم بركة، ولهذا يلتصقون بهم ويتهافتون على قربهم.
يخرج المصلون من المسجد بعد أداء صلاة القيام برابع الليالى الرمضانية، يستنشقون هواء منطقة السيدة نفيسة الملىء بالحب، ففى هذه المنطقة لا تعيش نفيسة العلم وحدها، وإنما يجاورها كل أقاربها من أحفاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فيحيط بها الإمام على زين العابدين، والسيدة سكينة بنت الحسين، والسيدة رقية بنت على بن أبى طالب، ومحمد بن جعفر الصادق، وعمة الرسول السيدة عاتكة، كل هذا فى طريق أطلق عليه اسم طريق أهل البيت، ويبدأ من مسجد السيدة زينب وينتهى بمقام زين العابدين.
- سر حب المصريين للسيدة: أمر من رسول الله
حسبما ورد فى كتاب «إحياء الميت بفضائل أهل البيت»، فإنه عندما جاءت حفيدة على ابن أبى طالب إلى مصر خرج المسلمون يستقبلونها فى مدينة العريش، وعندما التقوا بها أرهقوها بسبب كثرة زياراتهم لها وسؤالها فى أمور الدين، لِما عُرف عنها من العلم والعبادة والتقوى والصلاح، حتى سميت بنفيسة العلم، وبسبب تقربهم الزائد منها أرادت العودة إلى مكة المكرمة، ولكن المصريين رفضوا ووعدوها بأن يذهبوا إليها يومين فقط فى الأسبوع.
كانت هذه هى المرة الأولى التى رفض فيها المصريون خروج السيدة نفيسة من أرضهم، ورحبوا بها بينهم وعاشت حياتها، حتى عندما جاء الإمام الشافعى إلى مصر نال من علمها الكثير، حتى إنه طلب أن تصلى عليه إذا مات بأرض مصر، وعندما مرت جنازته من أمام منزلها وقف لتصلى عليه وتشهد جنازته كما سبق ووعدته.
أما المرة الثانية التى رفض المصريون فيها خروج حفيدة رسول الله من أرضهم كانت بعد وفاتها، عندما أراد زوجها أن يعودوا بها إلى بلادها، لتدفن فى البقيع إلى جوار رسول الله وصحابته الكرام، فذهب المصريون سريعًا إلى والى مصر وطلبوا منه أن يتوسط لهم عند زوجها لكى يدفنها بمصر، ولكنه رفض.
فجمعوا له كل أموالهم، وباعوا كل غال ونفيس يمتلكونه وعرضوها على زوجها حتى يتنازل عن قراره برحيلها، ولكنه رفض أيضًا وأجمع أمره على أن يرحل بجثمانها فى صباح اليوم التالى، ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان.
تراجع زوج السيدة نفيسة عن قراره بين عشية وضحاها، وقال لوالى مصر إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جاءه فى المنام فقال: «رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول لى رد عليهم أموالهم وادفنها عندهم»، وهكذا مُنعت نفيسة العلم من الخروج من أرض مصر بأمر رسول الله وبصدق حب المصريين لها وعشقهم لوجودها بأرضهم.
وهكذا تكونت قصة الحب بين السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن على ابن أبى طالب، وبين المصريين قديمًا، وامتدت أواصر هذه العلاقة إلى يومنا هذا، حيث يشدون الرحال إليها فى كل ليلة من ليالى رمضان لإقامة الصلاة وعمارة البيت الغالى على قلوبهم.