بين «مافيا» الإسفاف الفني.. و«عصا» الرقابة
يقول علماء الطب النفسي إن الموسيقى تساعد على الاسترخاء العصبي والذهني؛ وتُعطي الإنسان وعدًا قاطعًا بالهدوء؛ مع منحه تذكرة مجانية على زورق الأحلام السعيدة أثناء النوم الطويل بعد عناء العمل الشاق.
ولكن ماذا يحدث لمن ينشد هذا الاسترخاء إذا ما صادف حظه العاثر الاستماع إلى موسيقى محتشدة بأصوات زخات الرصاص في خلفية مزعجة من أصواتٍ جنائزية؛ هي خليط من الصراخ وأصداء مرعبة مخيفة من "نعيق الغراب"؟ وكلنا يعرف ماذا يختزن غالبية الوجدان الشعبي من تشاؤم وتطيّر من نعيقه؛ ذاك الغراب الذي خذل نبي الله"نوح" حين سقط على الجيَف، ولم يعُد بالخبر اليقين عن جفاف الأرض وانحسار الطوفان، ومن يومها بات رمزًا للكآبة وأيقونةً للخراب.
هذا هو ما وصل إليه الحال الآن؛ فيما يُعرض علينا من أغانٍ صيغت بكلماتٍ ركيكة تبعث على النفور والتحريض على العنف بلا مبرر، وكأن مصرنا المعطاء نضبت من الشعراء وكتاب الأغاني الذين يحترمون وزن وقيمة اللفظ والدلالة في أشعارهم، وكأن القاعدة أصبحت انتشار وسيطرة الأغاني الهابطة بحثًا عن المال والشهرة وسقوط الفنان والمستمع معًا في مستنقع الابتذال والركاكة والترهل، ناهيك عن مشاهد العنف والملابس الغريبة والحركات المصاحبة لهذا اللون؛ والموحية بكل ما هو رخيصٍ ومتدنٍ يتلاعب بأفكار الشباب والمراهقين، والمدهش أنها مصورة بأحدث تقنيات العصر فيما يسمَّى بـلقطات "الفيديو كليب" السريعة المتقطعة المرهقة للأذن والعين في آن معًا.
هل أصبحت "الأغنية" التي كانت تحترم وتجسد القيم الاجتماعية السامية وتحض عليها؛ سلعة بائرة في سوق الفن؟! بعد أن كانت الحائط الرطب الذي تستند إليه ظهور أهل العشق البرىء وعشاق الجمال! ولماذا تركت الجهات الرقابية -المنوطة بهذا الأمر- مرتزقة الفن يعبثون بإزميل القبح في فنون الذائقة الجمالية لشعبنا المصري والعربي؟! فهجرنا التغني بالوطن والغزل العفيف في الطبيعة والنخيل وجنات الله على أرضنا، وانطلقت الموسيقى الصاخبة تحمل كلمات التغزل الرخيص ومافيا العصابات الغربية.. وصولا إلى معايرة الفنانين لبعضهم البعض!
إننا نضع هذه المعضلة على مائدة الدراسة والتمحيص أمام الخبراء وعلماء الاجتماع وأساتذة الطب النفسي؛ لأطرح سؤالًا ربما يجد الإجابة الشافية لديهم: هل هذه الموجة ترتبط بحالة التوتر والقلق الشعبيين في السياسة والاقتصاد والتغيرات المتسارعة في التركيبة الاجتماعية؟ وأقول: ربما يحدث هذا كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي تحت نير الاحتلال البغيض! ولكن لماذا هذا الآن؟ وقد استقرت بنا الأحوال سياسيًا واقتصاديًا بالقدر الذي تسير معه الحياة بشكلها الرتيب بكل القناعة والرضا والأمل في المستقبل الذي أشرقت شمس بشائره في الأفق القريب.
لست ضد شخوص بعينها في هذا المجال وهُم معروفون على كل المستويات الرسمية والشعبية؛ لأن قلمي يعاف عن ذكرهم، وهم الذين يسيرون- عفوًا- كالصم والبكم والعميان وراء "موجة" ستنحسر عاجلًا أم آجلًا، لأن ذائقة الجموع كالبطن الرهيف الحساس؛ سرعان ما سيلفظ هذا الهراء إلى خارج تاريخ الفن والفنون على أرضنا، وسيبقى كل جميل يعشِّش في ثنايا الوجدان والروح ليُكتب له الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ما أشد حاجتنا الآن -وليس غدًا- إلى إعلاء قيم الحق والخير والجمال والحرية، لزيادة ما تحتويه ذاكرة المصريين من الثقافة المعرفية بأصالة تاريخنا وحضارتنا التي قامت على ظهر هذه الأرض؛ قبل أن يعرف العالم طريقه إلى "التأريخ" وصناعة الأقلام والأحبار والأوراق وآلات الطباعة؛ وقبل أن تظهر"مافيا" الإسفاف الفني"الفيديو كليب" القابض على أعناق كثير من الفنانين سعيا إلى الشهرة والمال؛ على حساب الأصالة والفن الرفيع.
يا أهل الفن: هل ندور بالدفوف في الحواري والأزقة -كما كان يفعل الفاطميون في مصر- لنذكركم بأبسط مبادئ الالتزام بالمبادئ السامية لرسالة الفن؛ وتأثيرها الإيجابي على مسيرة الحياة وإيقاعها داخل المجتمع؟ إن الله سبحانه وتعالى قد أعطى الدرس لنبيه الكريم في كيفية ترتيل القرآن بقوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا* ( المزمل 4ـ1) ! وترتيلًا هنا تعني الإشارة إلى القراءة بكل فنون الجمال والصوت الحسُن والإيقاع الذي يهز القلوب واﻷفئدة. فهل أنتم مدركون لهذه المعادلة التي تسمو بفنونكم وإبداعاتكم، دون الخضوع لـ"عصا" المنع والقمع الواجب من أجهزة الدولة المسئولة كليًا عن مراقبة إنتاج الفن بكل أشكاله، وحينئذٍ سنستمع إلى صيحاتكم المنددة بالقهر والحجر على حرية الفكر والإبداع، وهي حجَّة واهية من الأساس تضحكون بها على عشاق فنونكم الرديئة. ويؤسفني أن أقول لكم: أين حُمرة الخجل في تقاطيع وجوهكم؛ أتتراقصون بموسيقاكم وكلماتكم المبتذلة وجنودنا البواسل يتساقطون فداء للوطن على خط النار؛ وأنتم تهيمون في وادٍ آخر.. هو وادي التصحُّر الفني والفكري وتفقدون مع هذا الترنح القمىء مصريتكم وهويَّتكم التي يفخر ويزهو بها كل من يولد على أرضها المقدسة.
إن كل الشواهد على مر التاريخ تقول: إن الإحساس الجمعي بذائقته الجمالية.. لايرحم أحدًا من السقوط من ذاكرة التاريخ ! فارتقوا يرحمكم الله.. فالقاع قد اكتظ بالسفهاء ! والفنون التي تقدمونها أصبحت كما "الهيروين" السام المغيب للوعي والفكر.. والإرادة !
* أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون