سائق التاكسى.. حكيم الشارع
يقلقنى الشارع، وأخاف على أهله غائلة التضليل، ودعوته إلى السراب، من الجماعات التى تستغل حاجاته وأزماته، وتعزف على وتر تدينه، تلك التى أدخلتنا فى عام أسود لا نود له تكراراً، وكفانا عقود طويلة من الظلم، وثلاث سنوات أخيرة من المعاناة، بالرغم من تفجر ثورتين، تاق بعدهما الشعب إلى أن يرى تجسيداً أميناً لأهدافه الثورية، باستعادة الدولة هيبتها، واستغلال ما تمتلكه من ثروات وخيرات فيما يحقق تقدمها خلال المستقبل القريب، ويعوض شعبها عما قدمه من تضحيات كثيرة..
لم يقلقنى عنف الإخوان، ولا بلطجية الجامعات، ولا حتى من خرجن من قمقمهن وصرن صاحبات الكلمة فى الجماعة، بعد توارى الرجال فى مخابئهم، لكن يقلقنى الرجل البسيط، الذى تم التغرير به واستغلال فطرته الدينية.. ولكن بعدما ركبت إحدى سيارات التاكسى والحديث إلى سائقها، اطمئن قلبى، وأدركت أن تحولاً كبيراً حدث فى الشخصية المصرية، وأولها البسطاء.. سألت السائق عن رأيه فيما يجرى فى مصر، وموقفه من الدستور.. قال لى «حننزل الاستفتاء، وكفاية عطلة ووقف حال.. الإخوان ضحكوا علينا بشوية زيت وسكر، ومرسى خدعنا باسم الدين، ودى مش حتتكرر تانى، خلاص الناس عرفت الحقيقة، ما فيش مسلم يحرق بلده ويقتل ناسه، لكن أرجع وأقول العيب فى الحكومة»!.. سألته: ليه؟.. قال «لو إنى مسئول، وبإيدى القرار، لكنت واجهت العنف بالحزم، والفوضى ممكن تتلم بالعافية».. نبهته: لكن بتوع حقوق الإنسان حيطلعوا من تحت الأرض ويقولوا استخدام العنف المفرط فى فض المظاهرات وكبت الحريات، والكلام الكبير إللى إنت عارفه، وساعتها حيقولوا المظاهرات كانت فى غاية السلمية.. رد السائق «الجماعة بتوع هنا، كلنا عارفينهم، جايين منين ورايحين على فين، بيعملوا إيه ولحساب مين.. دول يا أستاذ مش حاسين بينا ولا داريين بوقف الحال إللى إحنا فيه.. كل واحد منهم بياكل فى قتة محلولة، بيهدم البلد وكأنه مش منها، أما التانيين، فدول مكشوفين، فلوس بالعبيط بتدخل البلد، وسلاح داخل من كل حته.. بذمتك لو إن الدول دى خالصة فى نيتها لمصر وعاملة بتاع ديمقراطية بجد، ما كنتش وقفت جنب مصر فى ثورتها ودعمتها بدلاً من إللى بيحصل منها النهارده، ده معناه إيه؟.. معناه إن همه مش عاوزين خير للبلد دى، وللأسف بيستغلوا الجماعات إياها وبتوع التيار الفلانى والعلانى، عصايا يضربونا بيها، لا دول عندهم ضمير، ولا دول عندهم دم»!.
وصلت إلى مقصدى، ونزلت عن السيارة مودعاً سائقها الذى تدثر فى ملابس لا تنم عن سعة فى الرزق، وهو يجوب شوارع القاهرة ليلاً، بعد أن أغرقتها الأمطار «فى شبر ميه»، وقد خالجنى شعور قوى بأن أحداً لن يستطيع خداع هذا الشعب مرة أخرى، بل إنه لن يفت فى عضده، لأنه اكتشف الحقيقة، وعانى الأمرين فى سابق أيامه، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ونحن شعب نؤمن بالفطرة، ولن تنطلى الحيلة من جديد على شعب عرف طريقه، ولن ينكسر فى معركة الجماعة الأخيرة مع الدستور، لأن مصر ستظل دوماً فجر ضمير الإنسانية وأمله، كما قال الرئيس عدلى منصور فى خطابه أمس الأول، وأطلق نداءه الأخير، لأولئك الذين كانت لهم آراء ومواقف مختلفة خلال الفترة الماضية، «إننى أدعوهم للتحلى بالشجاعة، والتخلى عن العناد والمكابرة، التى نعلم كم هى كُلفتُها على أمن الوطن ومصالح الناس، أدعوهم للحاق بالركب الوطنى، والتوقف عن السعى وراء سراب وأوهام».
نعم.. فلنجعل الدستور الجديد «كلمة سواء» تُجمع ولا تُفرق، تؤلف قلوب الجميع، فالبغضاء لا تبنى، والكراهية أداة هدم للأواصر الإنسانية بين أبناء الوطن، وأما الاختلاف فهو مشروع، ما دام تم فى إطار سلمى يراعى صالح الوطن، فلا عودة للوراء بعد أن قال الشعب كلمته المدوية فى 30 يونيو، ومصر المستقبل ماضية فى استحقاقاتها، من خلال دولة حريصة على إنفاذ القانون واستعادة هيبتها وتلبية احتياجات شعبها الذى ضحى كثيراً من أجلها، وآن الأوان لأن تتحقق طموحاته وتطلعاته.. وإذا كان سيدنا عمر بن الخطاب قال لقاضيه «واعلم أنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له»، فإن الدستور الجديد لن يكون خطوة كبرى على طريق تحقيق أهدافنا، إلا بأصوات الشرفاء من أبناء مصر.. فهل هم فاعلون؟.
هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.