قائد عظيم.. خبراء أمريكيون يحللون عقل السادات؟ (وثائق)
لم يكن الرئيس الراحل محمد أنور السادات قائدا عاديا، كان استثنائيا بشهادة الجميع من المقربين والحلفاء والأعداء جميع الأوساط السياسية والاجتماعية والخبراء.
وأثارت شخصية السادات شهية علماء الطب النفسي وخبراء السيكولوجية والأكاديميون، إذ كان هناك اهتمام كبير بعقل الرئيس الذي تنافس كثيرون للغوص فيه، والقيام برحلة وثائقية تسفر بالنهاية عن تحليل أقرب لحقيقة الرجل وسر عظمته واستثنائيته سواء خلال حياته أو بعد وفاته.
ـ السادات.. رجل الصورة الكبيرة
وربما كان التحليل النفسي الأصدق والأهم لعقل السادات هو ما قام به الدكتور جيرولد بوست أستاذ الطب النفسي وعلم النفس السياسي والشئون الدولية ومدير برنامج علم النفس السياسي في جامعة جورج واشنطن، ومؤسس مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي (CAPB) في وكالة المخابرات المركزية "سي آي أيه"، الذي سمي لاحقًا قسم علم النفس السياسي.
وقام جيرولد بكتابة تقريرين منفصلين عن السادات في العام 1978، الأول له وحده والثاني تحليلا يقارن فيه بين شخصيته وشخصية مناحم بيجن رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، والذي أفرجت عنه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في حوالي 5 صفحات.
وكان تحليل عقل السادات من وجهة نظر الـ"سي آي أيه" والرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، أمرا ضروريا قبل إتمام مفاوضات كامب ديفيد واتفاقية السلام بين القاهرة وتل أبيب، الجميع كان يريد معرفة عقل الرجل للوصول إلى أفضل الطرق في التعامل مع الزعيم الذي تميز بذكاء ودهاء كبيرين.
ولمعرفة الرجل بدأ جيرولد فحصه لعقل السادات وسلوكه السياسي في عام 1977 وفق لما كتبه في وثائق المخابرات الأمريكية، كاشفا أنه قام بقراءة كل شيء عن السادات وجميع التحليلات وقراء كل اللقاءات والمقابلات معه وكل محادثاته خاصة مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسنجر، ولهذا كان هناك مواد خاصة بالسادات في يده قبل أن يقوم هو بتحليله الشخصي.
وقام جيرولد بإعادة مقابلة كل شخص كان له اتصال مباشر وذو معنى مع السادات، ومن خلال انطباعاتهم وجد أن السادات يؤرقه ماذا سيكتب عنه التاريخ وكيف ستخلد ذكراه فهو يرغب في أن يبقى ذلك القائد العظيم حتى بعد وفاته.
وأثار جيرولد أحد أهم محاور سلوك السادات السياسي والذي تحرك عقله وهو فهمه للصورة الكبيرة، فهو قادر على فهم الحدث دون الدخول في التفاصيل، ومن هنا وصفه جيرولد بأنه رجل الصورة الكبيرة، وهو رجل يقبل التفاوض.
وحلل جيرولد عقلية السادات الذي يسيطر عليه "الصورة الكبيرة" بأنه جعله قادرا على تجاوز التفاصيل في مقابل الوصول لأهدافه الشاملة وتحقيقها.
رأى جيرولد أن ثقة السادات بنفسه ونظرته الخاصة لنفسه كان لهما دورا فعالا في تطوير سياسته الخارجية المبتكرة، وكانت السبب الرئيسي لمرونته وقدرته على التحرك خارج العزلة الثقافية للعالم العربي.
كان السادات من وجهة نظر الطب النفسي الاستخباراتي رجلا واثقا تحركه ثقته تلك وتدفعه لاتخاذ مبادرات جريئة وشجاعة، فضلا عن أن الرجل كان يرى نفسه استراتيجيا عظيما يعرف كيف ومتى يقدم تنازلات تكتيكية على أرض الواقع يتبعها بعد ذلك تحقيقا للأهداف التي يريدها، وهو الأمر الذي جعله يتجاوز اعتراضات حتى أقرب مستشاريه.
في البداية وصف جيرولد رغبة السادات في الاستحواذ على الأضواء بأنها تشبه "متلازمة باربرا والترز"، ولكن في صيف 1978 صنف رد الفعل الشخصي للسادات بمصطلح "عقدة جائزة نوبل" وهو ما يعكس رغبته في أن يتذكره الناس كقائد عظيم.
وكان عقل السادات مختلفا عن بيجن بشهادة جيرولد الذي أكد أن عقولهم تعمل بشكل مختلف تمامًا، حيث تتناقض عقلية الصورة الكبيرة للسادات بشكل مباشر مع عقلية المحامي التفصيلي لبيجن، ومن هنا كان الاتفاق مع كارتر في تقليل وقت اللقاء المباشر بين الرجلين.
ولاحظ جيرولد أيضا في تحليله أن السادات كان كثير الاستخدام للضمير "أنا" في خطاباته، وهو ما أكد لأطراف التفاوض الأمريكيين أنه لن يقبل أي تقارير تفيد بأن أهدافه أو خططه لمصر ستقع تحت أي مشكلة.
ـ السادات.. صاحب الرؤية والجريء المتهور
وحتى بعد وفاته، حاول كثيرون تحليل عقل السادات، وكان أبرزهم الصحفي والكاتب الأمريكي لورانس رايت، ففي عام 2014 أصدر كتابه البارز "13 يوما من سبتمبر" والذي اختير كأفضل كتاب من بين أفضل عشرة كتب لعام 2014، والذي حولها إلى مسرحية تحمل اسم "كامب ديفيد"، والذي كتبها رايت بناء على طلب جيرلد رافشون مستشار وسائل الإعلام السابق للرئيس كارتر، وجسد فيها النجم خالد النبوي دور السادات.
في تحليله للسادات، قال رايت "كنت هناك عندما أصبح السادات رئيسًا. كان الجميع يعتقد أنه كان رجلا ضعيفا ولن يستمر طويلا. سيبقى لوقت قصير حتى يأتي رئيس آخر قوي مكانه. ولكن السادات قلب الموازين. أثبت أنه الرئيس القوي".
وفي كتابه، حلل رايت عقل السادات قائلا عنه أنه كان صاحب رؤية، جريئًا ومتهورًا ومستعدًا للتحلي بالمرونة طالما كان يعتقد أن أهدافه العامة تتحقق، لقد رأى نفسه كمفكر استراتيجي كبير يتألق مثل مذنب عبر سماء التاريخ، مشيرا إلى أن سر اختلاف السادات عن بيجن، أن السادات عندما يتعرض للضغط، ينخرط إلى العموميات ولكن يظل بيجن متشبثا بالتفاصيل.
وقال رايت: "حتى عندما كان طفلًا فلاحًا في قرية صغيرة في دلتا النيل، شعر السادات بدوره الفريد في المجتمع المصري، حتى أنه ذات مرة، عندما كان يلعب مع بعض الأطفال الآخرين بالقرب من قناة الري، قفزوا في الماء وقفز أنور من بعدهم، وعندها فقط تذكر أنه لا يستطيع السباحة، وقال: "لو غرقت ستخسر مصر أنور السادات!".
ومن الشخصيات العالمية التي بلورت عقل السادات على حد قوله كان المهاتما غاندي ففي عام 1931، عندما كان أنور في الثانية عشرة من عمره، مر المهاتما غاندي عبر قناة السويس في طريقه إلى لندن للتفاوض بشأن مصير الهند، توقفت السفينة في بورسعيد، وحاصره الصحفيون المصريون، ووقتها تعجب مراسل الأهرام من أن غاندي كان يرتدي "لا شيء سوى قطعة من القماش تساوي خمسة قروش، ونظارات ذات إطار سلكي بثلاثة قروش، وصندل يبلغ قرشين فقط".
مثل هذا الرجل الفقير ذو البشرة السمراء الذي قلب الإمبراطورية البريطانية رأسًا على عقب ترك انطباعًا عميقًا لدى المراهق السادات، وبدأ في تقليده، وخلع كل ملابسه وغطى نفسه من الخصر إلى أسفل بالمئزر وانسحب إلى زاوية انفرادية على سطح منزله في القاهرة، ومكث هناك لبضعة أيام حتى أقنعه والده بالتخلي عن ذلك وقال إن ما يفعله لن يفيده أو يفيد مصر.
تلك الواقعة تؤكد هوس السادات بالرجال العظماء، إذا كان يقلد غاندي بحثًا عن صفات العظمة، وعندما تمكن السادات من دخول الأكاديمية العسكرية الملكية، بدأ بالفعل في رؤية نفسه كشخصية ستعيد إرادتها الحديدية ترتيب مجتمعه إلى نموذج جديد.
ـ السادات.. الحكيم الصبور
ربما لم ينتبه أحد، أن السادات كان بطلا لرسالة دكتوراة بجامعة تكساس الأمريكية، إذا حصلت الباحثة دانييلا كاسترو في ديسمبر 2015 على درجة الدكتوراه عن رسالتها تحت عنوان "فك شفرة الخطاب.. تحليل المحتوى للرئيس المصري أنور السادات".
ووصفت كاسترو عقل السادات بالحكمة والصبر، وذلك من خلال تحليلها لخمسة خطابات للسادات، وهي:
1. إعلان مبادرة السادات للسلام في 4 فبراير 1971.
2. خطاب السادات أمام الكنيست في 20 نوفمبر 1977.
3. خطاب السادات في الاحتفال خلال تسلمه جائزة نوبل في 10 ديسمبر 1978.
4. خطاب السادات في مدينة أسوان في 4 يناير 1978.
5. خطاب السادات لدى وصوله إلى الولايات المتحدة في 3 فبراير 1978.
ورأت كاسترو، أن هناك سمات بارزة في شخصية أنور السادات تتمثل في الحكمة والصبر والحذر والإرادة القوية والتفاني، حيث كان قائدا تقدميا، نوع لم يعرفه الشرق الأوسط من قبل، إذ أثبت السادات طوال حياته أنه قادر على حل المشكلات المعقدة.
ومن خلال نظرة فاحصة على اختيار السادات للكلمات والنبرة والكلمة الأكثر تكرارا في خطاباته، والتي تعد بمثابة إشارات تدل على نوايا السادات السياسية، تقول كاسترو كان الرجل واضحا ومباشرا فهو غير مستعد للتفاوض مع إسرائيل إلا في حالة إعادة سيناء وتحقيق العدالة للجميع الدول العربية مظلومة، مشيرة إلى أنه رفض مخاطبة إسرائيل كدولة وكان ذلك واضحا في خطاباته، حيث أشار إلى البلد بـ "العدو" أربع عشرة مرة، وذلك خلال خطابه الأول الذي دعا فيه للسلام في 1971، فقد كان يدعو للسلام لكنه كان حازما أيضا.